خليل أحمد خليل *
«بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً، فطوبى للغرباء»!

I


غرابة حزب الله، اللبناني/ العربي/ الإسلامي، أنه مقاومة، حركة تحرير وطني، بصيغة حزب سياسي/ ديني، مدني/ عسكري. أما غربته، أي أصالته، بالمعنى النبوي الشريف، فصادرة عن المناخ الثقافي والإعلامي، المنافي لحداثته (قبيل تحرير 2000) وما بعد حداثته (بعيد حرب تموز (يوليو) 2006)، المتواصلة سجالياً على شكل آخر لحرب أخرى على هذا الحزب، بكل تاريخيته ورمزيته. فما هي إذاً قضية هذا الحزب المقاوم الذي نبرع في سوء فهمه، أكثر مما نبرع غالباً في حسن فهمه؟ وما معنى النقد عليه، وعموماً على الإسلام المقاوم، منذ صدور القرار 1701 وحتى التهديد بحرب أخرى، اليوم أو غداً؟
ولد حزب الله ميدانياً من رحم مقاومة وطنية لبنانية، تعود إلى 1918، وتتخذ أشكال مراحل الصراع التاريخي لشعب لبنان وقضيته الاستقلالية في محيطه العربي، المأخوذ بجامعتين معاً: جامعة عربية وجامعة إسلامية. والحال، أية مصادفة هذه التي شاءت أن يولد حزب الله مقاوماً سنة 1983 لاحتلال إسرائيلي مباشر ومعزز بتدخل الحلف الأطلسي، أقلّه في العاصمة المحتلة، بيروت! وأن ينتسب خلافاً لمقاومات لبنانية سابقة، إلى العروبة والإسلام معاً من خلال الوطن المحتل نصفه!
إنه توليفة تاريخية مثالية، لكنها متعينة في جمهور نقلته الحرب الباردة، ثم الحرب الساخنة، من شيعية إصلاحية تقليدية، إلى شيعية سياسية ثورية، تحمل مشروع «إعادة تأسيس الأمة»، العربية في الخطاب السوري، والإسلامية في الخطاب الجمهوري الإيراني. ولفهم طبيعته التوليفية هذه، ثمة منهجيّتان: منهجية «كره الإسلام» أو الإسلاموفوبيا التي اعتمدها الخطاب الغربي، اليهودي ـــ البروتستانتي، تحديداً الأميركي /الإسرائيلي، وريث الحروب الدينية الأهلية والعالمية، ومنهجية العلوم الاجتماعية والنفسية التي تقرأ الظاهرة كما هي، لا كما يجري تخيّلها. والحال، فإن المنهجية الإسلاموفوبية اجتاحت غرباً الإعلام والمنشورات، ووظفت المنهجية البسيكو ـــ سوسيولوجية لمصلحة مشروعها الأمبراطوري أو الإمبريالي. وإن المنهجية العلمية المحلية والعربية قصّرت في تحديد هذه الظاهرة، بل استسهلت الأخذ عن المنهجية الأولى، ووقعت في فخ قراءة مقاومة هذا الحزب كجسم «غريب» أو كآخر آتٍ من دمشق أو من طهران، فيما هو صادر عن لاوعي جماعة، أتاح لها جمعها في مواجهة حروب واحتلالات أن تعي هويتها العظمى أو الكبرى (MEGA-IDENTITE)، انطلاقاً من هويتها الصغرى، المذهبية، الشيعية، امتداداً إلى العروبة فالإسلام.
صحيح أن الأمة، عربية وإسلامية، كانت منشودة أو متخيلة، قابلة للبناء بعد تفكيك وتفتيت متماديين، ولكن، صحيح أيضاً أن منهجية الإسلاموفوبيين تناولت مشروع تجديد بناء الأمة هذه، بعدائية أو بحرب دائمة، على العروبة (ما بين 1925 و1967) حين كان الرهان قائماً على أمة عربية متحدة، ثم على الجامعة الإسلامية، بعدما صارت منظمة ـــ منظمة المؤتمر الإسلامي، 1969، التي انتمت إيران إليها قبل ثورتها، ثم كان الحدث/ المنعطف في تاريخ القطيعة بين المشروع الأميركي العالمي والمشروع الإسلامي الثوري لابتناء الأمة: 1979. ففي هذا العام صممت الإدارة الأميركية، بلسان رونالد ريغن، على تصنيف الاتحاد السوفياتي بأنه «أمبراطورية شر» وتوسلت الدّين في سياستها لتفجير هذه الأمبراطورية بالضربات العسكرية (أفغانستان) والإعلامية (الإيمان ضد الكفر) والاقتصادية (سباق النجوم وسواه)؛ وفي العام نفسه قامت في إيران ثورة جمهورية تعتمد ديموقراطية جديدة، إسلامية الطابع، اعتبرها البعض «ثيوقراطية/ ديموقراطية». وبقدر ما أساءت الإسلاموفوبيا الغربية (ومن ضمنها إسرائيل) فهم هذه الثورة وأعلنت الحرب عليها بمواربة (طالبان في أفغانستان) وبمباشرة (صدام حسين في العراق)، أساء معظم حكام العالم العربي فهم هذه الثورة، المعادية للاستعمار وللاحتلال الصهيوني. وبدلاً من تقاطع المصالح العربية ـــ الإيرانية، حدثت قطيعة مصطنعة بقرار أميركي ـــ إسرائيلي، بين الجمهورية ومعظم حكام العالم العربي، ما عدا الرئيس الراحل حافظ الأسد. ولكنها لم تقع بين هذه الجمهورية وجماهير العالم العربي أو الإسلامي، ومنها الجمهور الشيعي في لبنان، المستبعد من السلطة كمركز قرار، سوء الفهم هذا للجمهورية الإسلامية تكرر مراراً بالنسبة إلى حزب الله. وبقدر ما كان يثبت جدارته في مقاومة الإسرائيلي، كان يزداد تصنيفه أميركياً وإسرائيلياً بأنه «إرهابي»، «ظلامي» «شمولي» مع أنه آت من قلب الحداثة، إن لم نقل مما بعدها، التي فرضتها الحرب الباردة إلى العالم.

II


انتقلت عدوى الإسلاموفوبيا إلى بعض زعماء طوائف لبنان، وبعض المثقفين السياسيين والعلمانيين ـــ ونحن منهم ـــ الذين همّشتهم الحرب الأهلية، حين راح «الميليشيوي» يطرد «المناضل» من السياسة، لا حزب الله... ولكن بعد لأي من الزمن، كان على حزب الله هذا المقاوم المنتصر أن يجري مصالحة سياسية (بصرف النظر عن التمايزات الإيديولوجية) مع كل المثقفين والعلماء اللبنانيين، وخصوصاً الشيعيين السياسيين مثله، على قاعدة مقاومة أميركا وإسرائيل ومنهجيتهما الإسلاموفوبية بكل تداعياتها العالمية والعربية. وعندنا أن هذه المصالحة لم تحدث، وقد لا تحدث يوماً، إذا تواصل سوء الفهم لإنسانية المشروع الأممي الإسلامي الذي يصدر عنه حزب الله، والذي صارت طهران بموقعها التأسيسي مراكزاً له، على الصعيد الإسلامي، ودمشق على الصعيد العربي. هنا المسألة إيديولوجياً هي مسألة رهانات على مشروع أميركي ـــ إسرائيلي أو على مشروع إيراني ـــ سوري. يخال المراهنون الإسلاموفوبيون أن المشروع العولمي إلى «انتصار» ولو في «أمبراطورية فوضى» (لنقرأ الحال في فلسطين والعراق وأفغانستان والصومال، ولننظر ملياً في ما يعدّ للبنان!)، وتالياً يخالون في الوقت نفسه أن مشروع إعادة تأسيس الأمة إلى «انكسار» ـــ من هنا سوء فهمهم لانتصار حزب الله في حرب 2006، ونقدهم على وصفه «إلهياً» واعتبار بعضهم أنه «تاريخي»، «عادي»، لكنهم تناسوا أنه انتصار، بصرف النظر عن الاختلاف في توصيفاته.
إن المحدد هنا لانتصاره «الغريب»، في عالم من الهزائم والاحتلالات والتفكيكات، هو أولاً بقاؤه مرجعيةً وحيدة لمقاومة جماهيرية منظمة في لبنان، وهو ثانياً ثبات مشروعه الوطني/ والأممي الإسلامي معاً واستعداده لمقاومة دائمة يستدعيها عدوّ دائم يعتمد الحرب الدائمة في فلسطين ومحيطها، ولا يجنح الى سلام دائم، حتى يجنح إليه حزب الله. وأخيراً، المحدد المركزي/ الإقليمي لانتصار حزب الله، أي ثبات الهضبة الإيرانية وهضبة قاسيون على مواقعهما واستراتيجيّتهما، يستدعي إعادة نظر في فهم دورهما من جهة، ودوره هو من جهة ثانية، دون أن نهمل دور حماس والمقاومة الوطنية العراقية. أما مشروع الفتنة فهو ماركة أميركية/ إسرائيلية بالغة الوضوح. فمشروع الشيعية السياسية يتقاطع مع الحراك السني السياسي، ويدفعه إلى مشروع مشترك، تحتاج بلورته إلى حوار إسلامي، حضاري، لا إلى مصادمات ناجمة من وهم «صدام الحضارات» الذي دعت إيران بلسان رئيسها السابق خاتمي في الأمم المتحدة، وما برحت تدعو إلى استبدالها بـ«حوار حضارات». المشكلة هنا أن «حضارة الغرب» هي جملة حضارات أو ثقافات، وأنها مع ذلك لا تعترف بالإسلام كدين توحيدي، ولا تعترف بمداره الحضاري الذي تقتحمه الآن بحروب دائمة. فهل للشيعة وللسنة السياسيين أن يسيئوا بدورهم فهم حضارتهم الإسلامية، السلمية والإنسانية، بكل أبعادها التاريخية المعروفة: العربية، الإيرانية، التركية، الأمازيغية (البربرية)، الشرق آسيوية، الخ...؟
ما نراه إذاً هو أن حزب الله هو وليد هذه الحضارة الإنسانية الحوارية، التسامحية، التعددية والديموقراطية أيضاً، فيما لو جرى تطوير تقنيّتي الشورى والمبايعة ونقلهما من الأسلوب البروتوديموقراطي الى الأسلوب الديموقراطي كما حدث في إيران (مع مرشد للثورة) وفي سوريا (مع قائد للحزب). أما التهويل على خصوصيات هذه التجارب ووصفها بالستالينية والشمولية والظلامية، فيعود إلى مفردات الحرب الباردة التي أنتجت ما أنتجت من أهوال ومن جماعات دينية، توسّلتها لمقاتلة «شيوعية» موهومة، ثم انفلتت من عقالها، كما هي حال «القاعدة». بهذا المعنى ليس حزب الله «قاعدة شيعية» أخرى لإيران أو لسوريا في لبنان. هذا تضليل «علمانوي» على ما يحدث من حرب رابعة، بدأها جورج و. بوش، بعد 11/09/2001، على المدار الحضاري العربي الإسالمي، وبما أنه أوشك على خسرانها أينما شنّها، فإنه يسعى بحملات إعلامية إرهابية إلى إخفاء الإسلاموفوبيا التي أطلقت أساساً نزوات الدول/ الشركات التي تقف وراءها، لأجل مصالح دنيوية عابرة، لا علاقة لها بأخلاقيات أي دين توحيدي.
لقد انكشف توسّل أو توسيل الإسلام في حروب أميركا وإسرائيل، وإذا كان لغربة حزب الله والمحور الذي يتحالف معه أن تستمر مواجهة «الغرب»، فإن الأمر لا يجوز أن يستمر كذلك بالنسبة إلى «بعض العرب» سواء في لبنان أو في الخليج. وهذا التحوّل المنشود مرهون بخروج حزب الله من الفخ الطائفي، الأميركي/ الإسرائيلي الصنع، وبذهابه بعيداً في حواراته مع «بعض العرب» هؤلاء، الذين لم يفهموا بعد، معنى أن تقاوم إسرائيل وأميركا، وأن تصمد، وأن تبقى!
* كاتب واستاذ جامعي