أرنست خوري *
مرّةً جديدة، يجد القارىء نفسه مضطرّاً إلى العودة الى تراث فكري ــ فلسفي ينتمي إلى قرون مضت، للكشف عن مجموعة خرافات تأخذ أشكال الأيديولوجيات التي تجترّ مفاهيم وأفكاراً قديمة، تكيّفها، وتحوّرها، وتزوّرها، وتصبح بمثابة الوجبات السريعة في متناول مواطني المجتمعات الاستهلاكية، وكل ذلك بهدف تبرير سياسات، منها ما هو مصرّح عنه، ومنها ما لا يزال طيّ الكتمان نظراً إلى عدم نضوجه في الإعلام والعقول بعد.
«ليست الأيديولوجيات، أي مجموعة الأفكار والحجج النظرية التي تشكّل عناصر التجارة الفكرية بين الناس، سوى انعكاس مباشر لسلوكهم الاجتماعي». هكذا قدّم كارل ماركس لمؤلّفه الفلسفي «الأيديولوجيا الألمانية» عام 1845. من شبه المؤكّد أنّ كالرئيس الأميركي جورج بوش، لم يقرأ «الأيديولوجيا الألمانية»، إلا أنّ ما لا شكّ فيه، هو أنّ ذلك التعريف عاد إلى ذاكرة صنّاع سياسات الإدارة الأميركية عندما أوعزوا لرئيسهم الحالي بأن يطلق تصريحاً في السابع من آب الماضي، مفاده أنّ مجموعةً من الحركات الإسلامية، وتحديداً حزب الله، حماس، «القاعدة» و«الإخوان المسلمين»، تمثّل «إسلاماً فاشياً» ولد ليخلف الحركة الشيوعية في تهديد العالم الحر!!
عام 1990، كتب المؤرّخ «روثفن» في صحيفة «إندبندنت» البريطانية مقالاً مطوّلاً استعمل فيه، وللمرّة الأولى، عبارة «إسلام فاشي»، معتبراً أنّه «القاعدة التي تسود المنطقة الممتدّة من سواحل المغرب حتّى مرتفعات باكستان» (طرفي العالم الاسلامي). لاحقاًَ استعمل ستيفن شفارتز (تلميذ المستشرق البريطاني برنارد لويس) المصطلح نفسه عام 2001 في الأسبوعية الأميركية المحافظة «ويكلي ستاندارد». لم يكن توقيت إطلاق هذه الحملة في الإعلام بدايةً، مصادفةً. لقد تزامن هذه التوقيت مع تدشين مرحلة البحث عن عدو جديد للغرب الليبرالي يحل مكان العدو الشيوعي. وفي عصر لم يعد فيه من حسيب أو رقيب على استخدام المصطلحات والمفاهيم لأغراض سياسية، اختار مهندسو السياسات الخارجية الأميركية مفهوم الفاشية ليلصقوه بالإسلام وليركّبوه في ما بعد على مصطلح «الإرهاب»، لنحصل بالنتيجة على بناء أيديولوجي مرعب للمواطن الغربي الذي يجعله مستسلماً لثقافة الخوف، فيسلّم هذا الأخير كلّ أوراقه لممثّليه السياسيين لكي يتّخذوا ما يرونه مناسباًَ من سياسات ردعيّة ضدّ هذا «الغول الإسلامي (والمعادي للسامية أحياناً؟!)» الآتي من خلف الجبال والصحاري والهضاب، ليعيث إفساداً في الحضارات المتطوّرة!
ألم تثر تنبّؤات برنارد لويس الذعر في الغرب بعدما «بشّر» بأنّ أوروبا ستصبح قارةّ مسلمة في حلول نهاية القرن الحالي؟
أمام هذا الاستخدام الأيديولوجي لمصطلح الفاشية، كان لا بدّ من العودة لبعض المعايير التي وضعها أبرز من درس تلك الظاهرة من أمثال أرندت حنّا، ستانلي باين، روبرت باكستون وزئيف شتيرنهيل. أمّا الهدف من هذا الاستعراض فهو معرفة ما إذا كان ما تتّسم به المنظّمات الإسلامية المشار إليها أعلاه من صفات يتطابق مع معايير الفاشية التي نشأت نتيجة أزمة الديموقراطية الليبرالية ما بين الحربين العالميتين وخاصّةً بعد أزمة عام 1929.
يعتبر ستانلي باين الأكثر «أورثودوكسية» في التصنيف، فهو يعتبر أنّ المقارنة غير علمية، بما أنّه لا يمكن أن ينشأ فكر أو نهج فاشيان من داخل منظومة دينية، فـ«الفاشية ملازمة لمساحة زمنية لا دينية»، ذلك لأن الفاشية الدينية ستحدّ حتماً من سلطات الحاكم «من خلال منظومة القيم ومن خلال مجموعة السلطات المقابلة التي يوفّرها الجهاز الديني». أما الكتّاب الآخرون فيعتبرون أنّ هذا المعيار (غربية الظاهرة الفاشية) لا يبرّر نفي الصفة عن الحركات الإسلامية، قبل بحث المعايير الأخرى.
يجمع هؤلاء على أن بعض مظاهر الفاشية متغلغلة في سلوك بعض الحركات الإسلامية ونهجها: التنظيم العسكري الحديدي، ولادة هذه التنظيمات نتيجة «الذل التاريخي» الذي عانته المجموعات المكوّنة لهذه الحركات، تمجيد القائد، رفض العديد من قيم الديموقراطية الليبرالية.... لكن ماذا عن المعايير الأخرى:
ــ تمجيد الشعور القومي التوسّعي: من المتعارف عليه أن الحركات الإسلامية هي «عابرة للقوميات» وبعيدة من النزعة القومية التعصّبية. بينما لا يمكن التحدث عن «فاشية» إلا إذا كانت ذات نزعة قومية تعصّبية عمياء. واذا كان تنظيم القاعدة ينشط في العديد من البقع الجغرافية المتباعدة، فإنّ تنظيمات أخرى كحزب الله وحماس، قد ولدت أساساً حركات مقاومة للاحتلال. أمّا نظام طالبان فكان يشبه أنظمة عصر الظلمات في القرون الوسطى لا الأنظمة الفاشية والنازية الحديثة بالضرورة (من حداثة).
ــ علاقة الذوبان بين الدولة والشركات وقطاعات المهن الحرّة: لا ينطبق هذا الشرط على البرامج الاقتصادية للحركات الإسلامية. حتّى في إيران، فإنّ نوع العلاقة التي تربط النظام الإسلامي بقطاع التجارة لا يكفي لاعتبارها تطبيقاً للمبدأ. أما مسألة الترابط بين النظام والقطاع الصناعي العسكري، فهي موجودة في معظم الدول الصناعية الغربية كفرنسا واليابان والولايات المتحدة (اقرأ كتاب مستشار ترومان وروزفلت برترام غروس: الفاشية الناعمة، الوجه الجديد للقوة في أميركا، عام 1980).
ــ الدولة ــ الحزب: إنّ كل الحركات الإسلامية المتّهمة هي إمّا مستبعدة عن الحكم، وإما لم تسع لفرض نظام أحادية الحزب الحاكم (مثال حماس أو حتى إيران حيث هناك أحزاب إسلامية إصلاحية وأخرى متشدّدة تتنافس في انتخابات منتظمة).
ــ أيديولوجيا «الإنسان الجديد والداروينية البيولوجية»: تعتمد الحركات الإسلامية الدين أيديولوجيا رسمية لها. والدين الإسلامي لا يتبنّى نظرية «الداروينية البيولوجية» لإجراء تصنيف عرقي عنصري ينتهي بخلق «إنسان جديد» بعد «تنظيف» المجتمع من الأعراق والفئات غير المرغوب فيها. أمّا عن النجاحات الشعبية والسياسية لهذه التنظيمات، فتعود في غالب الأحيان الى أسباب لا علاقة للأيديولوجيا بها. إنّ نجاح حماس في انتخابات كانون الماضي، حصل نتيجة تفشّي الفساد في حركة «فتح»، وبسبب فشل مسارات أوسلو والحلول «السلمية» والاستسلامية... وإنّ قطاعات واسعة من الشعب اللبناني تؤيّد حزب الله من دون تبنّي خطابه الديني.
ــ الأحادية في مصادر المعلومات والدعاية: على الرغم من تشدّد معظم الحركات الإسلامية في هذه المسألة، لا تصل هذه الصرامة الى حدّ الحصرية المطلقة. حتّى في إيران، لا يزال المجتمع المدني حيويّاً ومتنوّعاً الى حدّ ما منذ الثورة الإسلامية.
ماذا عن بعض الأنظمة العربية والإسلامية الحليفة للولايات المتحدة؟
إنّ الديكتاتوريات العربية والإسلامية التي ينطبق عليها الكثير من معايير الفاشية أو ما يشبهها، هي عموماً أنظمة حليفة للولايات المتحدة.
على الرغم من أنّ العديد من هذه الأنظمة شمولي، ظلامي وداعم أحياناً لمنظّمات إرهابية، كانت موافقتها على سياسات أميركا الخارجية كافية لرفع الشبهات عنها. أصبح معمّر القذّّافي مثلاً قادراً على الدعوة لـ«موت معارضيه» (في 31 آب 2006) في الذكرى الـ37 لوصوله الى الحكم، من دون أن يثير هذا الخطاب الهمجي أي خوف أو ذعر في الغرب.
أمّا عراق صدّام حسين، فكان نظاماً فاشياً بامتياز. قلّة جرؤوا على وصفه بما هو عليه قبل «طلاق حسين ــ واشنطن». كان إدوارد سعيد من أبرز هؤلاء الذين وصفوا النظام بـ«رمز الفاشية العربية». كان ذلك عام 1987. حينها كان صدّام ضرورةً أميركية وعربية لضرب إيران الثورة، لذا لم يكن يستحق أن يشار إليه بأي سوء!
ليس تعاطي «بعض الغرب» مع حركات وأنظمة مقاومة الإمبريالية والاحتلال من خلال إلباسها صفات هتلر والرايخ الرابع بجديد، فقد أطلق على عبد الناصر اسم «هتلر النيل». أمّا رمي مناحيم بيغن الراحل ياسر عرفات بصفة «هتلر العرب»، فذلك كلام آخر.
* كاتب لبناني