سمير سليمان *
اذا كان لمدقق أن يبحث عن جامع مشترك دفع الجموع الهادرة إلى النزول إلى الشوارع والساحات بشكل منظم أو بشكل عفوي على مستوى العالم الإسلامي بأسره احتجاجا على الرسوم المسيئة للنبي، فإنه لن يَعْنَى بالقطع بأن هذا الجامع المشترك هو وحدة شعور هؤلاء الناس بالمهانة والمظلومية، وإرادتهم رفض ما تعرضوا وما يتعرضون له من عدوانية واعتداءات وانتهاكات متمادية. ولن يقبل إلا جاهل أو ساذج بأن كل هذه الحشود قد اندفعت إلى الاحتجاج بلغات وأشكال ومستويات مختلفة من أجل حفنة رسوم كاريكاتورية فقط منشورة في صحيفة، هي على رمزيتها الكبيرة في موضوعها (شخص الرسول (ص))، ليست سوى نقطة في بحر لجي يغشاه موج من فوقه، موج ما انفك يمتد طولاً وعرضاً وارتفاعاً في الغرب، تصطخب فيه وتتلاطم أفكار ومشاعر وممارسات «العداء» للإسلام وللمسلمين. وعلى رغم كراهيتنا التعميم من خلال مصطلح «العداء»، ونحن نعرف أن في الغربيين من لا ينظرون إلى الإسلام والمسلمين والعرب باعتبارهم أعداء كافةً، لم نجد ما هو أقدر من هذا المصطلح على التعبير عن حالة ثقافية شاملة في الغرب أو عن أيديولوجيا تشكل خلفية النظرة إلى المسلم أو العربي باعتباره كائناً يجسّد الممانعة المَرَضية لكل ما هو تمدّن أو حضارة، وأن المصدر الأساسي المولِّد لهذه الممانعة هو دينه الذي جعله في جميع الأحوال غير قابل للتكيف أو للتآلف مع الآخر.. وهذا الخطاب الإطلاقي المتكرر بكثافة منذ قرون، ما كان له إلا أن يرسم حدوداً بتسميات مختلفة بين عالمين يتكثّفان في ثنائيتين جوَّالتين كما بات معروفاً: شرق/غرب، إسلام/مسيحية، إسلام/غرب.. وصولاً إلى الموضة المتأخرة المسماة: صدام الحضارات، الصحيحة منهجاً والخائبة تطبيقاً.. إنها هي.. هي أشكال وتسميات مختلفة لصورة نمطية واحدة بدأت منذ فتح الأندلس ومنذ ترميزات معركة بلاط الشهداء (Poitiers) التي حدثت عام 732م بين المسلمين والفرنجة، وقد ارتدّ المسلمون بعدها وفاق الرواية الغربية عن متابعة فتحهم أوروبا شمالاً بعد استيلائهم على إيبيريا عام 711م، وارتقى الأوروبيون المنتشون بذاك الانتصار برائِدي التصدي للزحف المسلم آنذاك: رولان وشارل مارتل (المطرقة) إلى مصاف جعلهما يرتقيان الى مرتبة الــــــرواد «المنقذين للغرب» (Sauveurs de l’Occident).
لا نريد في هذه الإشارة نفي تلك الثنائيات المترادفة، فـ«النَحْنُ» والـ«هم» حقيقة إنسانية واجتماعية وتاريخية ونفسانية، لكن الأهم فيهما هو مضمون كل منهما وتصورها للعالم ولعلاقات البشر المنبثقة من رؤيتها الشاملة للوجود وكيف مارست هذا التصور وسيَّلته في المواقف والسلوكيات والأفعال، لا في الخطاب فحسب.
احتجاجاً على جميع هذه السلبيات المتفاقمة التي رمَّزتها الرسوم الدنمركية خرج مسلمو العالم إذاً في غضبة واحدة.
صحيح أن وجهة السخط كانت مصوّبة إلى الخارج، لكن الداخل الإسلامي والعربي المأزوم والفقير والمنكّل به والمهمّشة إرادته والمسلوبة حقوقه البديهية كان خلفية الخارج الذي كان يكاد ينطق به. والداخل حالة احتقان في اتجاهين: واحد ذاهب إلى مسؤوليات الخارج في ما حدث له ويحدث، وآخر يستكن مسؤوليات الداخل عما أصاب المسلمين وما انفك ينزل بهم النوازل.
الرسوم إذاً، فرصة ومناسبة لتفسير وترجمة المكبوت الذي ما انقطع الداخل والخارج معاً عن محاولة سد منافذ الضوء والهواء عنه من كل الجوانب.
بهذا المعنى يمكن اعتبار الاحتجاجات وردات الفعل على الإهانات التي تسببت فيها الرسوم عامل استنهاض للشارع الإسلامي والعربي، قضيته هي:
أ ــ الوقوف في مواجهة الهجوم الغربي المتعدد الرؤوس والأهداف والأنواع.
ب ــ إشعار العالم بمدى السخط المعتمل في قلب العالم الإسلامي نتيجة لما يتعرض له من ظلم ونهب وإفقار واستنزاف وتهميش واستهانة حتى بالمقدسات.
ج ــ إشهار الحقوق المغتصبة كلها من احتلال الأرض إلى تخريب الإنسان وتسخيف الكرامة الإنسانية.
د ــ الدعوى الملحاحة إلى عالم أكثر عدلاً وتوازناً ليمسي من بعد أكثر أمناً واستقراراًً.
هـ ــ صرخة في وجه الاستبداد الداخلي والفتن والبؤس ومصادرة الإرادة والاستتباع للهيمنة الأجنبية.
قضية/قضايا الاستنهاض هذه هي الدلالات المكثّفة لدال ومدلول اللافتات والشعارات التي رفعها ونادى بها المحتجّون المسلمون في كل مكان بصوت واحد تقريباً.
فعل الاحتجاج العارم هذا كان إذاً انتباهة وعي حبيس إلى الأخطار والتحديات والمظالم التاريخية اهتدى به المسلمون والعرب إلى إعادة اكتشاف أنفسهم والانتباه إلى ما يمتلكونه من قابليات قوة وقدرة واقعيتين وممكنتين. ولما آنَسَ المحتجون ارتخاء قبضة الغرب وظهور مؤشرات تراجع في مواقف كثير من الحكومات والنخب السياسية عن التشدد في رفض الاستجابة لمطالبهم وذلك من خلال الدعوات الغربية إلى «ضبط النفس» و«تفهّم الآخر» وإلى «التفاوض» وإرسال المبعوثين بهدف التهدئة، عند ذلك راح المحتجون يرفعون سقف مطالبهم ويزيدون من حجم ضغوط المقاطعة الاقتصادية وتزخيم ردات الفعل إلى الحد الأقصى الممكن.
لقد تأكد المحتجون هذه المرة أكثر من أي مرة أخرى، من مدى فاعلية وضغط الشارع المسلم إذا تحرك بكليته في تحقيق المطالب «المستحيلة» أو حتى في الاقتراب منها، وأن من يواجهونه، أنّى يكن، ليس خصماً لا يقهر بالمطلق، وأن الشارع الشعبي الأعزل، بوعيه وإرادته ووحدته، هو أيضاً، يمتلك نقاط قوة تصلح لرد الاعتبار لإمكانية إحداث تغيير فعلي في موازين القوى في الصراع القائم والمستدام ولو في مواقع تكتيكية لا يستهان بأهميتها.
إنها واحدة من المرات القليلة في الأزمنة المتأخرة التي جرَّب فيها المسلمون والعرب في العالم استخدام واحد من أمضى أسلحتهم، واكتشفوا مفاعيله.. ولعلهم باتوا يدركون اليوم أنهم لو تحركوا وضغطوا إلى النهاية «بالسلاح» نفسه وبالزخم عينه، لأمكنهم نقل مطالبهم المزمنة إلى مرحلة دينامية جديدة، ولربما كان للصراع العربي/الإسلامي الصهيوني نفسه موقع مختلف في اهتمامات العالم ومواقف الدول والشعوب اليوم.
لقد أثبت الحراك الاحتجاجي للمسلمين والعرب، وقد كان بمثابة عودة الروح إلى «الشارع العربي الإسلامي»، وذلك خلافاً لتوقعات الاستراتيجيين الغربيين والنخب المهزومة من داخلها في منطقتنا، أنه يمتلك الكفاءة والأهلية لتلبية احتياجات المشاركة الفعَّالة في الدفاع عن حقوقهم ومقدساتهم أينما وجدوا، على أن تتوافر بعض الشروط الأخرى الضرورية، ولا نقول النموذجية، واللازمة لهذا الغرض. وقد توافر قسم منها في حدث الرسوم الكاريكاتورية عندما تساوقت وتآلفت مواقف الأنظمة السياسية والمرجعيات الدينية والمشاركة الشعبية العامة، ما يعني أن إسقاط أقنوم من أقانيم هذه الثلاثية مُفضٍ حتماً إلى إجهاض مفاعيلها أو خنق الحراك المشترك والمتكامل في ما بينها في المهد.
ذلك كله يطرح بقوة، تحقيقاً لهذا التكامل الثلاثي، مطلب التغيير الديموقراطي في العالم الإسلامي والعربي، تحريراً لإرادة شعوبه من كل عَنَتٍ واستبداد وتلاعب، واسترداداً لقرارها الحر، وحتى يتحول أطراف الثلاثية إلى جسم واحد وجبهة واحدة خلف قضايا واحدة وانطلاقاً من رؤية موحدة.
* استاذ في الجامعة اللبنانية