محمد نعمة *
إن العلاقة الملتبسة بين الجمهورية الفرنسية ومواطنيها ذوي الأصول المهاجرة تعود إلى مسافة زمنية أبعد بكثير من لحظة اندلاع نيران الضواحي الفرنسية في أواخر عام 2005. وهي اللحظة التي جاءت حصيلة طائفة متراكمة من الإشكاليات العلائقية والذاتية. نذكر منها أولاًَ عوامل اللامبالاة والجمود وضيق الأفق السياسي من جهة، وعوامل القلق والاضطراب الاجتماعيين، من جهة أخرى. وثانياً إشكاليات التخيّل الجمعي والعلائقي المتبادل خلف محرك الانشطارات لذاك الحدث الأسود. فبهذه الانشطارات أوصدت تلك الجمهورية أبوابها أمام وليدها الفكري: الحرية والأخوة والمساواة. فإذ بشطر المؤسسات ورموزها وميراثها وكوادرها، وشطر الشبيبة المقصية اقتصادياً، والمهمشة سياسياً، والمحاصرة في أحيائها الفقيرة اجتماعياً وإثنياً، يقذفان بصيغة «العيش معاً» نحو خط النار. إن تلك النيران التي اشتعلت، والانقسام المزمن في المجتمع الفرنسي برهنا أساساً، وبالعنف، على سقوط الموديل الفرنسي للترقي والاندماج الاجتما ــــــ مهني والتعاضد بين الفئات والأجيال المجتمعية المختلفة.
المهاجرون العرب والأفارقة الأوائل ممن كانوا منذ عام 1914 في الخنادق الأمامية لحماية فرنسا وجمهوريتها، تجدهم مكدسين في أشقى وأفقر الضواحي. إنها مفارقة الجمهورية الفرنسية بامتياز. فحُماتها وجنودها هم أنفسهم مهمشوها ومتسكعوها. جنود منسيون أورثوا لأبنائهم أحياء تتجاهلها الدولة الراعية وتهملها.
أولاد المهاجرين العرب والأفارقة لم يعاملوا كأطفال لحماة الديار، بل كورثة للتعاسة وكحاملين للون البشرة، المساوي في المتخيل العام، للتطفل وللكسل وأخيراً للتطرف. لا «باسبورهم» الفرنسي ولا نياتهم المتأصلة في الهوى الجمهوري تكفيهم لأن يكونوا هم ذاتهم بفرنسيتهم وبمواطنيتهم. إن لون بشرتهم هويتهم، هو مسلكهم ومصيرهم. أما اسمهم العربي فإنه يشِمُهم ويضعهم دائماً على المحك إن لم نقل في خانة الاتهام. انه أبداً يرمز للغريب الخطر أو الشبيه الناقص.
إن وجود الفرنسي من أصول عربية على هامش المجتمع لم يعفه من أن تكون صورته دائماً في خضم الحملات الانتخابية لجهة التصاقها بالخوف الجسدي وباللاأمن الاجتماعي لدى الفرنسيين. إن الكثير من الدراسات السوسيولوجية المعمقة تظهر أن هؤلاء الفرنسيين من أصول مهاجرة ليسوا كلهم من مسلمي العقيدة. إن 59 بالمئة من ذوي الأصول المغاربية يعد نفسه مسلماً، وهذا رقم يتقاطع ثقافياً ومجتمعياً مع نسبة الفرنسيين «الأصليين» الذين يعتبرون أنفسهم كاثوليك.
يجب أن نعرف أن ما يوازي 20 بالمئة من الفرنسيين من أصول مهاجرة أو مغاربية يعتبر ذاته دون معتقد ديني. وعند الفرنسيين «الأصليين» ترتفع النسبة إلى 28 بالمئة. زد على ذلك، أنه مع الجيل الرابع من أولاد المهاجرين، ما يقارب 40 بالمئة منهم يعتبر نفسه دون معتقد ديني. وبالتالي فإن العامل الديني لا يشكل سوى خصوصية جزئية من تكوينهم الشخصي. ومع ذلك فإن صورتهم بقيت في المتخيل الفرنسي أسيرة المتناقضات والمخالطات: إسلام ــــــ عرب ــــــ بطالة ــــــ إرهاب.
على المستوى السوسيولوجي، فإن هؤلاء الشبيبة هم دون شك ممن أكملوا الاندماج المجتمعي الفرنسي من حيث ثقافة الجيل، اللباس، الأكل، واللغة. أو من حيث خياراتهم وآرائهم المعتقدية والاجتماعية. إن المعطى الأساسي في الانتماء هو التكامل مع الشبيه من جيله وليس مع الأب أو المثال الديني أو الاثني، ومتطلباته وأمنياته هي نفسها متطلبات أي شاب فرنسي من حيث الترقي أو الاستعراض الاجتماعي. ومع ذلك فإنهم لا يزالون عرضة للأحكام المسبقة وللتصورات المحنطة التي تضعهم دائماً أمام حائط التمييز والإهمال. إن هؤلاء المهمشين والمغيبين عن الإنتاج اليومي لذات الأمة في حاضرها ومستقبلها يُقذف بهم عشية الانتخابات إلى صدارة «اهتمامات» النخبة. صورتهم الملتبسة ووجودهم المضطرب يعطيان تلك النخبة السياسية وخاصة لليمين المحافظ والمتطرف حجتها الدعائية الناجعة. في انتخابات 2002، هي المسألة المفصلية التي أدت لسيطرة أفكار وخيارات اليمين التقليدي والمتشدد وانهيار اليسار التقليدي هي مسألة الشعور بالخوف من «الفوضى الأمنية» لدى «الخارجين عن القانون» التي لعبها تيار اليمين ــــــ وكعادته في الديموقراطية الغربية الحالية ــــــ بمهارة واحتراف، بحيث إن المهاجرين وأبناءهم والخوف صاروا شيئاً واحداً وهو «اللاأمن». حتى في الانتخابات الرئاسية الحالية ولو أن قضايا مثل البطالة والوظيفة ونظام التقاعد تشغل بال المواطنين في الدرجة الأولى، إلا أن معادلة اللاأمن ــــــ المهاجرين ــــــ الشبيبة ــــــ الإرهاب ــــــ الإسلام لا تزال حية فاعلة، وإن بدرجة أقل حدة، وقد تتقدم على ما عداها إذا ما وجد اليمين التقليدي حظوظه الانتخابية مهددة. وبالتالي فإن الفرنسيين من أصول مهاجرة المشار إليهم ككبش فداء للآلام الاجتماعية الفرنسية، قد أقصوا عن دوائر ومفاصل التأثير الاجتما ــــــ سياسي، وقد جرى ذلك بعكس ما جرى في العديد من دول أوروبا الغربية كبلجيكا وهولندا وألمانيا حيث هؤلاء يشاركون تصويتاً وترشحاً سواء على مستوى البلديات أو المجالس التشريعية. إن إقصاءهم هذا قد تمت موازاته بانكفائهم عن أية مشاركة فعالة في الحياة السياسية الفرنسية.
إن إحجامهم العام عن الولوج في المعترك الانتخابي لم يمنع اليسار الفرنسي، وخصوصاً بنسخته التقليدية من الحصول في انتخابات 2002 على أكثر من 75 بالمئة من أصوات المقترعين من أصول مهاجرة. هذا التوجه نحو اليسار لا يعود لاستحسان إيديولوجي أو ثقافي عند هؤلاء المقترعين لهذا التيار السياسي، لكن كردة فعل دفاعية ضد اليمين المتطرف وأمام انجرار بعض القوى التقليدية الرئيسية في تبني شعاراته العدوانية والفئوية. هنا يجب معرفة أن الفرنسيين ذوي الأصول المغاربية أو الأفريقية، المسجلين على لوائح الشطب الانتخابية لم تتجاوز نسبتهم في عام 2002 ثلاثة في المئة من الجسم الانتخابي العام، إذ إن هشاشة وزنهم الانتخابي لا تعود إلى نقص تأثيرهم في المعركة الانتخابية. فالصوت البروتستانتي أو اليهودي هو أقوى بما لا يقاس ولو أنه أقل شأناً من حيث الكم والعدد من أصوات الفرنسيين من أصول عربية. بل إن ضعف وزنهم الانتخابي هذا يعود إلى إشكالية تكوينية ذاتية. إن انكفاءهم أو مشاركتهم الباردة أو حتى حماستهم الحالية في الدخول إلى المعترك الانتخابي ليس سوى أداء دفاعي انفعالي ناتج من الرغبة في التحدي لبعض الرموز التقليدية في النخبة الفرنسية التي طالما تمادت في إنتاج واستغلال الخلط بين وجود هذه الفئة الشعبية والأزمات الاجتماعية التي تمر بها فرنسا.
ولئن كان ذلك صحيحاً، سنجد أن الفرنسيين من أصول مهاجرة قد أخذتهم الحماسة حالياً للدخول في الحياة الفرنسية السياسية. وهذا ما نراه في ازدياد نسبتهم في اللوائح الانتخابية التي وصلت إلى 4 بالمئة، أي بزيادة 1 بالمئة فقط عن انتخابات عام 2002، وفي حضور بعض أبنائهم في مراكز الحملات الانتخابية لكبار المرشحين كفوزي المداوي، وعبد القادر العريف، وفريد ذكرى، ووردة كراي وغيرهم. هؤلاء المشار إليهم ككبش فداء للأزمات الاجتماعية يجدون أنفسهم الآن في تجاذب سياسي واضح لكسب أصواتهم أو تحييدهم. فإذ بمرشح اليمين المحافظ نيكولا ساركوزي يعين ناطقة باسمه هي رشيدة داتي، وسيغولان روايال الاشتراكية تضع في المكانة نفسها نجاة بلقاسم. لا بل إن حماسة هذه الفئة أوصلتها إلى تقديم مرشحين للانتخابات الرئاسية كأمثال صهيب بن شيخ ورشيد نقاز. إلا أن كل هذا لم يخرج عن كونه مفارقة في الأداء والتموضع عند هؤلاء الفرنسيين من أصول مهاجرة، ولا سيما أنهم على وعي بأن حبل السرة مع ثقافة وتاريخ الآباء والأجداد قد انقطع، وبأن الجمهورية الفرنسية هي حاضرهم ومستقبلهم وإطارهم المثالي والوجداني. إن هذه الشريحة الفرنسية تتشبّه بذاتها وتتقدم ليس كأفراد مستقلين وليس كجماعة متماسكة بمقاصدها وبتكونها. فهي تحاذر القفز فوق مشاعر الاضطهاد والدونية لدى الجماعة في الوقت نفسه. إنها تخشى الانقطاع عن الأطر المثالية والثقافية للجمهورية. فهي من جهة ترتاب من تعثرات العقد الجمهوري الذي يعمل ــــــ نظرياً ــــــ على تذويب الجماعات المختلفة في بوتقة الجمهورية الواحدة، مؤسساً بذلك مواطنية فردانية متساوية تحت قانون واحد. ومن جهة أخرى، تنساق لا شعورياً نحو مثل الثقافة الفرنسية وفردانيتها كاكتمال وتأكيد للذات.
لذلك يبدو أن الفرنسيين من أصول عربية هم كتلة هلامية أولاً، وفي حالة من التردد والضيق وغياب الوزن ثانياً، لأن تموضعهم ليس فردياً كما هي الحال لدى المواطنين الآخرين وليس جماعياً انفصالياً بسبب من تشبثهم بالمثال الجمهوري. أما تماهيهم الأخوي فهو ليس إلا انعكاساً وظيفياً لوجودهم القلق ورموزهم الملتبسة.
المأزق الوجودي للفرنسيين من أصول مهاجرة، ليس منفصلاً عن أزمة الجمهورية الفرنسية نفسها. فإن التصحر الاجتماعي والشعور بالدونية والإقصاء الاجتما ــــــ مهني والسياسي لدى هذه الفئة من الفرنسيين يعكس في العمق أزمة الجمهورية. هي أزمة تتجلى في عدم القدرة على إيجاد التوازن المتجدد واللازم في إعادة توزيع السلطات والثروات، وعجزها أيضاً عن توسيع وتحديث مجالات الديموقراطية، لا بل في إفقارها لهذه المجالات، وتثبيتها في سلطة شديدة التمركز ومحكومة بمبدأ المحسوبية الانتخابية والمساءلة الملتبسة إن لم نقل الاستنسابية. فضلاً عن هذا، فإن أزمة الديموقراطية الفرنسية تتجسد، أولاً، بإشكالية التمثيل الحالي، مقارنة مع تركيبة ودور النخبة السياسية السائدة، وذلك عبر خلطها المتعمد بين تمثيلها الفعلي لأطرها الحزبية الضيقة من جهة وبين تمثيلها النظري للأمة من جهة أخرى. وثانياً بأزمة العلاقة بين السلطات والمؤسسات الدستورية حيث الغلبة الواضحة تعود هنا لسلطة الرئاسة.
من المتعارف عليه أن الديموقراطية هي الخطاب بما هو فعلٌ تأسيسي، لذا فإن أزمة الديموقراطية الفرنسية تبدو أيضاً من خلال خطابها الذي وضعته في قلب الحدث الاجتما ــــــ سياسي. لذلك فإن الفرنسيين، وخاصة المحبطين منهم وهم كثر، قد استوعبوا بالمعاينة الميدانية أن الديموقراطية ليست وللأسف هي الانتماء لقيم ومعايير عليا، بل إنها التسويق الناجع للخطاب الحذق. إن الطبقة السياسية عموماً تتقاسم، بحسب هذا التصور، ساحة الخطاب بإيماءاته، وتورياته، وقراراته. فالكلام من فوق يُرى من تحت كلام مستنسخ وفارغ المحتوى. له ضجيجه وصداه لكنه كسيح. فمنذ أكثر من عقدين من الزمن وهذه الصورة السلبية والمحبِطة للمواطن الفرنسي تجاه نخبته السياسية تترسخ وتتجذر، وهذا ما تدل عليه الملاحظات التالية:
ــــــ الشعور بالقطيعة الحادة بين هواجس الناخب وطموحات المنتخب الشخصية.
ــــــ اليقين الدامغ لدى الناخب بفساد النخبة.
ــــــ الهجرة الكثيفة لأصوات الاعتراض ثم تبعثرها على يمين اليمين ويسار اليسار.
ــــــ ازدياد مطّرد، ومقلق للغائبين وغير المسجلين على لوائح الترشح والترشيح.
ــــــ وجود مأزق في الشكل التمثيلي الحالي في الانتخابات الفرنسية لأنه يقوم على بعد تبسيطي، علاقة منتسب/ ناخب. وهكذا فإن إشكاليته هي في تمثيليته الاجتما ــــــ سياسية والديموغرافية الضيقة والمجتزأة: ندرة النساء والشباب، فقر بممثلي الفئات الوسطى والدنيا من المجتمع، غياب أوجه تمثيلية معينة للمناطق والأحياء الموصوفة بالمحرومة أو المختلطة إثنياً.
خلف هذه العلاقة المضطربة مع الديموقراطية التمثيلية التي تنعكس في التفكك، (الانكفاء، الاعتراض، وتقهقر الانتماء المستدام)، يبدو جلياً الآن ظهور شكل جديد من المواطنية الفرنسية: إننا نواجه مواطناً يتميز بنقدية مفرطة وفردية لأبعد الحدود. وبالتالي فإن ديموقراطية الأحلام واليوتوبيا قد ماتت بالنسبة إليه لتحل محلها ديموقراطية «الأمن» أو «التواضع» الشعبوي. هذا المواطن الذي تربى على أن الديموقراطية تبقى مثالاً يتجه دوماً إلى الاكتمال، وفكرة لولبية غير مغلقة، وليست أبداً واقعاً جامداً أو منجزاً أو معطى، لا يتخلى عن هذه الفكرة نفسها. وهو المأخوذ بهموم حياته اليومية من حيث ضمانات عمله وديمومتها، وكذلك بالبطالة وبأمنه الذاتي أو العائلي، ليس غافلاً متطلبات التغيير الضروري والإصلاح المطلوب للديموقراطية. لكنه يتساءل بحق وبشك عن أيّ من هؤلاء السياسيين يمكنه القيام بالأفضل ومع أيّ من هذه القوى الممتحنة عشرات المرات يمكن للإصلاح أن يرى النور ويُنفّذ على أكمل وجه. إنه تساؤل يعبر عن مرارة التضحية بفلسفة وأخلاقيات السياسة لحساب الغرضيات الضيقة: ميزان قوى، مصالح، واقعية سياسية، انتهازية، وطموح شخصي، وشهرة. إنه يدل بوضوح أولاً على عجز فكري فرنسي عن تخطي السائد بوحدانيته الثقافية، والفكرية، إلى تعددية صاعدة وواعدة، وثانياً على الجمود في النظرة والمعيوش لسياقات المواطنة المنفتحة والمسؤولة. إن فرنسا تفتقر منذ مدة طويلة إلى أفكار ومفاهيم ومثل جديدة وخلاّقة. ثمة إذاً ضمور فكري واضح يصيب الطبقة السياسية لفرنسا الجمهورية الخامسة، لا بل مفكريها إلى حد لافت.
من مظاهر أزمة الجمهورية أيضاً، تلك المتعلقة بغياب البرامج الانتخابية والجدية والمدروسة بإتقان. فإن « ميثاق الجمهورية» الانتخابي لليميني ساركوزي، وما يقابله من «ميثاق رئاسي» للاشتراكية روايال، أو من «انصهار اليمين واليسار في وحدة وطنية» لليميني الوسطي بايرو، ما هي إلا مشاريع شعبوية انتخابية، ودعاية زبائنية، وعلاقات عامة. إذ إن مسألة كيفية الإصلاح المؤسساتي والدستوري، وفي أية وجهة، وفي أية أجندة، وما هي الأولويات، كلها أسئلة لا مبرر لها، لأن تلك البرامج الانتخابية خالية على الجملة من الاهتمام المعمق بقضايا حيوية كإصلاح دستور الجمهورية الخامسة وضرورة تعديله.
هذه المسألة ليست حاضرة في الندوة الانتخابية، وكل ما هو مطروح مجرد عموميات، وغير ناضج حتى لدى المتحمسين له. يشدِّد نيكولا ساركوزي على دور الرئاسة ومسؤولياتها المقترنة بها. هذا التشديد يعود للأصول اليمينية الديغولية للمرشح التي تعطي الرئيس دوراً محورياً في بنيان الجمهورية. وسيغولان روايال ووفاء لسربها السياسي الاشتراكي التقليدي تؤكد ضرورة إعادة الأهمية للبرلمان. أما فرنسوا بايرو، ولو أنه قد طرح بعيد أحداث حرائق الضواحي في نهاية عام 2005 ضرورة الانتقال من الجمهورية الخامسة إلى السادسة، إلا أن حملته الانتخابية بدت شبه خالية من هذه الطروحات الدستورية. وبالفعل عندما نمعن أكثر في ما يقوله هؤلاء المرشحون فإننا سنجد أن الجمهورية الفرنسية قد تملصت من التجديد، وبالتالي فإن كل ما يريدونه لها هو وضع مساحيق و«رتوش» لكي تبدو الجمهورية الخامسة فاعلة مع برلمان يعمل برحابة أكبر، ومع رئيس يقوم بواجباته، مع إحساس بمسؤولية أكثر من ذاك الذي كان سائداً منذ ثلاثين سنة.
إننا أمام أزمة ديموقراطية، تتجلى من خلال توزيع سلطات وثروات بحيث يبدو فيها رئيس الجمهورية الفرنسية اللاعب الرئيسي. وهنا يمكننا أن نتساءل، انطلاقاً من العلاقة الوطيدة بين هذه الأزمة وهذا الدور: إن الحاكم، ومن ورائه النخبة السياسية قد أكد مراراً على «حقوقه الديموقراطية» في الوصول والإمساك بالسلطة، لكن هل بادر هو بالمستوى نفسه إلى التأكيد على واجباته تجاه من يطبق عليهم سلطته باسم هذه الحقوق الديموقراطية؟
* كاتب لبناني مقيم في باريس