سعد الله مزرعاني *
في سياق مؤتمره الصحافي الذي عقده لإعلان مشروع ورقة «باريس 3»، كرر الرئيس فؤاد السنيورة «دعوته» الى «العودة والجلوس الى طاولة واحدة لمعالجة مشاكلنا بعضنا مع بعض». ويعنينا من هذه الدعوة، الاعتراف، من جانب السنيورة، بالحاجة الى التفاهم على مواضيع مؤتمر «باريس 3» والالتزامات التي ستقدم له، وكذلك الالتزامات التي ستنجم منه.
وعلى رغم ان الرئيس السنيورة قد عاد الى لغة التحذير، واستدرك بسبب توقعه لتعذر الوصول الى مثل هذا التفاهم، بتحميل المعارضة مسؤولية فشل المؤتمر المذكور، فإن واقع الأمر يشير الى أنه من دون الحوار والتفاهم، قبل مؤتمر باريس 3 وبعده، لن يتمكن أحد من وضع الأزمة الاقتصادية المخيفة على مسار يؤدي الى معالجتها، أو الأمل في بداية ذلك.
لا شك في ان السنيورة يمارس، هنا، انتقائية طبعت سلوك الأكثرية الحكومية التي يمثل. فهو يريد أن يشارك حيث شاء وأن يتفرد حيث شاء أيضاً. وفي الموضوع الاقتصادي تحديداً، يريد من معارضيه مشاركته في عبء اتخاذ قرارات غير شعبية، ليحصد وحده «النجاح» والأضواء، في باريس وما بعدها. يريد منهم التخلي عن سياستهم وتوجهاتهم لمصلحة سياساته وتوجهاته: فقط من منطلق التهويل عليهم (إن لم يفعلوا) بتحمل مسؤولية تخريب الوضع الاقتصادي، من دون أن يكون ذلك جزءاً من ممارسة حقهم في المشاركة العامة في كل شؤون البلد وشجونه. يريد رئيس الحكومة أن تكون المشاركة استثنائية، وأن تكون تخلّياً وإذعاناً، وأن تكون شكلية لا تقدم ولا تؤخر..
والواقع ان أزمات لبنان عديدة. وهي أزمات متداخلة ومتفاعلة من دون شك. وهي، الى ذلك، متشابكة مع المديين الإقليمي والدولي. وبديهي أن معالجة هذه الأزمات، جزئياً أو كلياً، تستدعي، بالحوار، توليد الحدود الدنيا من التفاهمات. ولن يحصل ذلك بغير المشاركة في المؤسسات الرسمية صاحبة القرار، وبشكل خاص، مجلس الوزراء.
ونقع في لائحة تعداد الأزمات التي لا يجوز التفرد بالقرار الرسمي في شأنها، على مجموعة غير قليلة (للأسف) من العناوين:
ــ ما يتعلق بالقرار 1701، أي بمواضيع تطبيق القرار. ويشتمل ذلك على وجود القوات الدولية ودورها، وعلى مسائل مزارع شبعا والأسرى والألغام وكل آثار العدوان الأخرى..
ــ المحكمة ذات الطابع الدولي، التي يتطلب المضي بها، للقيام بدورها، تفاهماً حول صيغتها، بعيداً من التسييس الاميركي، بشكل خاص.
ــ مسألة الأمن في البلاد، لجهة ترسيخ سلطة الدولة وإعادة بناء المؤسسات الأمنية بغير الطريقة الراهنة حيث تتغلغل الأجهزة الأميركية الى مواقع حساسة في الأمن الداخلي وتسعى نحو المزيد..
ــ مسألة علاقات لبنان الخارجية، وتحديد مصلحته الوطنية في موقعه في الصراع، ونوع العلاقات التي ينبغي إقامتها وتلك التي يجب قطعها أو الحد من تأثيرها. ويجب أن ينطلق ذلك من نهج استقلالي بعيداً من أي التحاق، أو وصاية، قديمة أو جديدة.
ــ مسألة إصلاح النظام السياسي ويشمل ذلك احترام كل بنود الدستور، بما في ذلك وضع قانون جديد للانتخابات خارج القيد الطائفي وإنشاء «مجلس شيوخ»...
ــ مسألة العلاقات اللبنانية ــ السورية، بوصفها ذات أهمية خاصة. إن الاستقرار النسبي في البلدين شديد الترابط، ما يفترض إعادة بناء هذه العلاقات، بعيداً من التبعية السابقة، والعداء الذي يمارسه فريق الأكثرية (بطلب أميركي) حالياً.
ــ الموضوع الاقتصادي ــ الاجتماعي الذي اعترف السنيورة بضرورة التنسيق في شأنه، كما أشرنا آنفاً.
قد يقال إن الظروف غير ملائمة للحوار، بسبب ضخامة حجم الانقسام الداخلي، وبسبب الخلافات العميقة بين الدول العربية من جهة، وبين بعض الدول الأجنبية صاحبة النفوذ والتأثير (وخصوصاً واشنطن) من جهة أخرى.
هذا صحيح، الى حد كبير. وهو يحول دون تفعيل إيجابي للعناصر الخارجية المؤثرة في الوضع اللبناني، بمعنى إنتاج تسوية، ولو مؤقتة، للأزمة اللبنانية.
ومع ذلك يجب العمل للخروج من هذه الحلقة المفرغة. ولا بد، لهذا الغرض، من البحث عن مقاربات جديدة. ومن هنا ضرورة وإلحاحية تقدم العامل المحلي في معادلة التفتيش عن التسويات والحلول. ويستدعي ذلك تدشين مرحلة جديدة في التعامل مع الأزمات اللبنانية من جانب القوى السياسية جميعها، ومن دون استثناء. فليس من المقبول إطلاقاً انتظار التوافقات الخارجية التي قد تتأخر، وقد تتعثر، وقد تستدعي قبل حصولها، إذا حصلت، صراعات جديدة ونوعية وخطرة.. في المنطقة عموماً، وفي لبنان خصوصاً. إن استخدام لبنان في صراعات المنطقة هو أمر قائم من جانب الولايات المتحدة على وجه الخصوص. وتصعيد درجة هذا الاستخدام على نحو ما تنذر به مواقف وارتباطات بعض الأطراف اللبنانية لا يبشّر بأي أمر إيجابي، بل فيه ما يشير للأسف الى أن البعض لا يتردد في السير ببلده وحتى بنفسه نحو الهاوية!!
ببساطة على اللبنانيين، من كل الاتجاهات، في «الأكثرية» أو في المعارضة، عدم ترك الأمور (من خلال الخطأ بالنسبة إلى فريق، أو عدم المبادرة بالنسبة إلى فريق آخر) لإملاءات السفير الأميركي، وشريكه الأقل تأثيراً السفير الفرنسي.
ولا بأس، بل ربما كان من الأنسب، في هذا الصدد، اختيار «الطائف» نقطة انطلاق. يستند هذا الاختيار إلى إجماع، ولو لفظي، على تأييد الطائف والتمسك ببنوده، «كل بنوده»! ويستند إلى إشارات إيجابية جديدة، تطلقها قوى ذات وزن في المعادلة التقليدية اللبنانية، لجهة ضرورة الحوار الداخلي وفق مبدأ «ما حك جلدك مثل ظفرك»، كما جاء في بيان المطارنة الموارنة الأخير، وفي بنود البيان الذي سبقه (في صيغة مبادرة سياسية أهم ما فيها، الى بعض بنودها، هاجس التقدم بمقترحات «محلية» لتسوية الأزمة).
لقد طبق الطائف في مرحلة الإدارة السورية، ولأسباب سورية ولبنانية، بشكل مشوّه. وطاول التشويه، بشكل أساسي، المسائل المتعلقة بالبنود الإصلاحية التي تم تجاهل بعضها، وتم تفريغ البعض الآخر، من أي محتوى إصلاحي: المجلس الاقتصادي ــ الاجتماعي، المجلس الدستوري، المجلس الوطني للإعلام المرئي والمسموع.. أما التجاهل فيتناول مسألة الإصلاح السياسي للنظام بإلغاء الطائفية السياسية، ومباشرة ذلك فور إنشاء (وبواسطة) أول مجلس نيابي على أساس المساواة الطائفية العددية.
ودعوتنا القوى المعارضة الى التقدم بالمبادرة الجديدة، لا ينطلق من نسبة مسؤوليتها عن الأزمة الراهنة. فلا شك في ان قوى الأكثرية هي التي تتحمل النصيب الأكبر. الدعوة تنطلق من واقع اندماج عاملين في توجهات هذه القوى: عامل التحرير والمحافظة على إنجازاته، وعامل التغيير وضرورة دفعه، بشكل نوعي، خطوات حقيقية إلى الأمام.
ويصبح ما ندعو إليه، ليس مجرد حركة بسيطة مستندة الى كلام استهلاكي من جانب فريق الأكثرية أو بعض هذا الفريق. إنه دعوة الى اتخاذ قرار تاريخي حقيقي بهدف إنقاذ لبنان. ولذلك يجب ان تمتلك المعارضة، بكل أطرافها أو من وافق على الذهاب أعمق وأبعد في اعتراضه، برنامجاً هو في الأساس محاولة تقديم أجوبة متكاملة ومتماسكة في شأن البنود التي اعتبرنا أنه يجب الحوار في شأنها على قاعدة الشراكة المنشودة، بديلاً من الاستئثار والاستهتار الحالي!
* نائب الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني