عبد الحليم فضل الله *
تراهن السلطة في لبنان على صمود سياسات واشنطن الحالية، في الوقت الذي بدأت فيه الإدارة الأميركية نفسها، تتحلل من الأوهام وتعترف بالوقائع الجديدة، فيما تدل استطلاعات الرأي العام على أن فوز الديموقراطيين في انتخابات مجلسي الكونغرس لم يكن سوى بداية الهدير.
التخلف الأميركي عن تحقيق الأهداف ليس عابراً، فالهجوم على المنطقة ترافق مع إعادة صياغة للأهداف الكبرى، بحيث تركز الجهد الأميركي مع بداية الألفية الثالثة على الآتي: السيطرة على الموارد، الحفاظ على التفوق العسكري تجاه الخصوم والمنافسين والحلفاء، وتكريس العولمة الأميركية بل وفرضها بقوة السلاح وخصوصاً في الفجوة غير المندمجة حسب «آلان بارنيت»، أو في الأقاليم التي لم يتم حسم الهيمنة عليها خلال الحرب الباردة برأي «إيمانويل فالريشتاين».
وفي موازاة ذلك، جرى مزج تهديدات متنوعة في سياق واحد: خطر «الإسلام الإرهابي»، خطر قطع إمدادات الطاقة، الخطر الآسيوي المتمثل في نقل مركز العولمة إلى آسيا في العقدين المقبلين كما تتوقع الخريطة الاستراتيجية Mapping for 2020 التي يعدها مركز الدراسات الأمنية في الولايات المتحدة.
وبما أن المنطقة هي ميدان رئيسي في مواجهة أيٍّ من تلك المخاطر، كان على الإدارة الأميركية أن تقدم تصورها للشرق الأوسط الذي تريد بعدما غدا مصبّاً لسيل لا ينقطع من المبالغات، بدءاً من ربط الإصلاح السياسي بالتغيير الثقافي والاجتماعي والتربوي، وصولاً إلى تشجيع اجتهادات ومذاهب دينيّة، ودعم قيام «ليبرالية إسلامية» على حد ما جاء في دراسة لشيريل برنارد قدمت لمؤسسة راند التابعة لسلاح البحرية الأميركية. وقد وجد «روبرت ساتلوف» قبل أقل من سنتين أنّ الأمر يتطلب هزّ ركائز النظام السياسي باستعمال القوة أو من خلال الفوضى الخلاقة والثورات العفويّة.
لم يصل الإخفاق الأميركي في المعارك الشرق أوسطيّة إلى حدود الهزيمة، ومن الصعب توقع تبدل في أي من الأهداف الكبرى، لكن التحول التدريجي والمتراكم في التكتيكات ستكون حصيلته عند الوصول إلى قاع الأزمة انعطافة استراتيجية. ونشهد اليوم بوادر انتقال من سياسة شرق أوسطية إلى أخرى. الأولى تقوم على الأسس التالية: عدم الاستقرار، التحول الديموقراطي المشروط، فتح الطريق أمام إعادة النظر في الخريطة السياسيّة، والحرب بديلاً من الديبلوماسية، فيما تتضمن الثانية رجوعاً مؤقتاً إلى الركائز القديمة: الاستقرار، حماية التثبيت والجمود السياسي، الشراكة مع الحلفاء والمنافسين وربما مع الخصوم، وعودة الديبلوماسيّة.
إشارات معبّرة
قد يكون التعبير الأكثر وضوحاً عن انفضاض المؤيدين للسياسات الأميركية في الشرق الأوسط، وإرهاصات التغير المحتمل ما جاء على لسان «دانيل بايبس» من أن الخروج من الوضع الراهن في لبنان وفلسطين يتطلب إبطاء عمليّة التحول الديموقراطي وتأكيد الاستقرار ومنع الإسلاميين من الاستفادة من العمليّة الديموقراطية والعمل على إلحاق الهزيمة بهم.
وفي تحول له دلالة مماثلة انتقد «فرانسيس فوكوياما» وهو أحد الموقّعين عام 2002 على بيان المثقفين الأميركيين الشهير المدافع عن خيار الحرب، ما يسمى «مذهب بوش» الذي يفيد أن أميركا ستشن حروباً وقائيّة، كي تدافع عن نفسها ضد الدول المارقة والإرهابيين الذين يمتلكون أسلحة دمار شامل، وأنها ستعمل على «دمقرطة» الشرق الأوسط الكبير كحل طويل الأمد لمشكلة الإرهاب (يرى «بن غاديس» أن التدقيق في المفاهيم الاستراتيجيّة يتطلب تمييزاً لم يجر الاهتمام به بين الحرب الوقائية والحرب الاستباقيّة). لكن استخدام القوة برأي فوكوياما لتعزيز الديموقراطيّة وحقوق الانسان في الخارج يعتبر جهداً مثالياً معرضاً للنكسات، على خلاف الواقعية الخلاقة في تعاليم هنري كيسنجر. ويبيّن فوكوياما تناقض المحافظين الجدد بين رفضهم التاريخي للهندسة الاجتماعية التي تقضي باستئصال الأسباب العميقة للمشاكل الاجتماعية، وبين دعوتهم إلى معالجة الأسباب الغائرة للإرهاب التي تكمن بنقص الديموقراطيّة. ويوصي فوكوياما في مقاله المنشور في مجلة «نيويورك تايمز ماغازين» شباط 2006، باعتماد «واقعية ولسونيّة» تأخذ بحسبانها دروس الفشل ولا سيما في العراق، وتقوم على الشراكة والتدخل السلمي.
يعدد «ريتشارد هاس» من جهته ملامح العصر الخامس في الشرق الأوسط، الذي لا يزال في طور التشكّل، ومن أهمها تقلص النفوذ الأميركي الذي سيواجه المزيد من المنافسة. وبرأي هاس يحتاج صانعو السياسة الأميركية إلى تلافي خطأين: الاعتماد المفرط على القوة العسكرية، والتعويل على انبثاق الديموقراطيّة لتهدئة المنطقة. ومن بين الفرص المتاحة، برأيه، التدخل في شؤون الشرق الأوسط بطرق غير عسكريّة وسعي الولايات المتحدة الأميركيّة إلى النأي بنفسها قدر الإمكان عن المنطقة عبر خفض استهلاكها للطاقة. ولعل التوصية الأخيرة هي طرف خيط في رحلة معكوسة من التمدد المفرط إلى الانكفاء خلف الأسوار القاريّة، نتيجة لما يمكن اعتباره إخفاق أميركا في أن تكون إمبراطورية. فبحسب «نيال فيرغسون» (Sep-Oct 2006 Foreign Policy)، فإنّ الإمبراطوريات الحديثة لا تعمّر طويلاً والسبب هو أنها غير قادرة على عقد إجماع محلّي لمصلحتها، وتقوم بتصرفات تسمح بقيام تحالفات قويّة في مواجهتها. ليست الإمبراطوريّة الأميركية سريعة الزوال لهذين السببين فقط بل لضعف التصميم الداخلي على تكبّد ثمن التوسع الإمبريالي. ويظهر نقص الاستعداد هذا في أن غالبيّة الناخبين الأميركيين لم يحتاجوا أكثر من سنة ونصف سنة لكي يعتبروا أنّ غزو العراق كان خاطئاً مقابل 3 سنوات بالنسبة إلى حرب فيتنام أي عندما وصل عدد القتلى آنذاك إلى ثلاثين ألف عسكري أميركي.
وقد أشار «لسلي غيلب» إلى أنّ ثمن الخروج الأميركي من العراق سيكون أقل من بقائها هناك، بل ستزيد من قدرتها على الدفاع عن مصالحها في الخليج وفي المنطقة عموماً، وسيتعاظم نفوذها في حال انسحابها من هناك كما حصل بعد هزيمتها في فيتنام حيث تحسّنت مكانتها في منطقة شرق آسيا. والمعروف عن غيلب دعوته عام 2004 إلى تقسيم السعوديّة والعراق لتجفيف منابع «الإرهاب».
التراجع الإمبراطوري لا يعني تراجع الاهتمام الأميركي بمنطقة الشرق الأوسط، لكونها بحسب «رولان لافيت» مفتاح التحكّم بالعالم، والسيطرة عليها برأي «زبغينو بريجنسكي» في كتابه لعبة الشطرنج الكبرى رهان ضروري لكي تحافظ الولايات المتحدة على تفوقها في مواجهة منافسيها، ولمنع بروز أي قوّة يمكن أن تهيمن على الجزيرة العالميّة (آسيا، أوروبا). وفي كتابه التالي «الاختيار» يرى بريجنسكي أن التعاون الممكن في المنطقة هو مع الأوروبيين أنفسهم لحل مشكلاتها المستعصية وللسيطرة على انعكاساتها المحتملة على الاستقرار العالمي، مؤكداً في الوقت نفسه أهمية انتهاج سياسات غير عسكرية لتحقيق هذا الغرض.
تقاطع طرق
يتفق تقرير بيكر ــ هاملتون مع المراجعات الأميركيّة الرئيسيّة لاستراتيجيا الأمن القومي القائمة على الحرب، وتتفق هذه المراجعات على مبدأ رئيسي: مواصلة التدخل التوسعي، لكن بأقل الأثمان وبأدوات سياسيّة ما أمكن، مع توسيع دائرة المساهمين في تحمّل الأعباء. وبغض النظر عن مستوى تأثير هذا التقرير على الاستراتيجيا التي يعتزم بوش إعلانها قريباً، فإنّ السؤال المطروح بعد صدوره هو ما الذي يلوح في الأفق بعد اضمحلال فكرة الشرق الأوسط الكبير المرتكز على هيمنة أميركيّة مطلقة؟
إن تحديد وجهة السير المقبلة يعتمد على ما سيفعله الأميركيون، في إطار الخيارات التالية المتاحة لهم:
ــ القتال التراجعي أو التسوية التراجعيّة، الاحتمال الأول لا يعني حرباً شاملة لكون الولايات المتحدة غير مستعدة لتحمّل تبعاتها، والاحتمال الثاني لا يستبعد تصعيداً تفاوضيّاً، وزيادة مطّردة في أدوار صغار اللاعبين.
ــ مساندة المحور العربي المتحالف مع الولايات المتحدة وتقويته للقيام بمهمتين: توفير قدر من الاستقرار يكفل حماية المصالح الأميركيّة في الفترة الانتقالية باستعمال أقل قدر من القوات، ومساعدة القوات الأميركية على الخروج التدريجي من المناطق الخطرة من دون أن يتسبب ذلك بإلحاق هزيمة ساحقة بها.
ــ رسم حدود جديدة للمنطقة بالدم، أي عبر سلسلة من الحروب الأهلية، لجعل خريطة المنطقة مطابقة قدر الإمكان لحدود العصبيّات وللتقسيمات المذهبيّة والعرقيّة. هذا التحليل ليس تداعياً دراماتيكياً للويلات التي نشهدها منذ سنوات، بل حصيلة جهود قام بها خبراء أوروبيون وأميركيون منتدبون من حكوماتهم. وتوفر الخريطة الجديدة بحسب هؤلاء نقطة ارتكاز مقبولة لقيام نظام إقليمي مضمون الولاء، وتسعى إلى إطلاق ديناميكية تفتيت للدول الكبيرة التي تسيطر على أسواق عرض النفط وتحتكر القرارات المتعلقة بقطاع الطاقة العالمي.
الولايات المتحدة والمحور الموالي لها يبحثان عن الأمر نفسه، هي تريد ضمانات تكفل بقاء المنطقة العربية مسرح نفوذ لها بعد الفشل في العراق، وعجزها عن كسر الصمود الإيراني، وخسارتها احتياطي الردع بعد الهزيمة الاسرائيليّة أمام مقاومة حزب الله، أما الموالون لها فيسعون إلى إيجاد مضمون سياسي يبرر بقاء النظام العربي الرسمي التقليدي، بعدما فقد على التوالي مصادر شرعيته، وها هو يجدها اليوم في إذكاء الخلاف مع إيران وإقامة الهويّة العربية الجديدة على أساس التناحر الداخلي.
لا يعي القائمون على النظام العربي ربما أنهم ينضمون إلى سياسة أميركيّة متقلبة وتمر بمرحلة انتقاليّة شديدة الخطورة، لكن المؤكد أنها تتجه نحو شراكة مع الأوروبيين (عودة إلى بريجنسكي)، ومع الدول الإقليمية القويّة والمؤثّرة. أما مصير الحلفاء ممن راهنوا على الحضور الأميركي الحاسم في المنطقة فمرتبط بطبيعة الضمانات الأميركيّة الممنوحة لهم، بعد فشل أنظمة التوزيع الريعي التي يديرونها في الحفاظ على قواعدهم الاجتماعية الداعمة، ومرتبط أيضاً بنجاحهم في اكتساب دور إقليمي دائم.
إزاء ذلك، على السلطة اللبنانية أن تعي الأبعاد الحقيقيّة لما يجري في المحيط قبل أن تخوض مغامراتها في موالاة هذا المحور ومناوأة ذاك. فمحور «الاعتدال» هو مجرد تكتيك في معركة أكبر، مهمته ملء الفراغ بانتظار قيام التسويات الشاملة أو وقوع الصدامات الكبرى. أما المحور المقابل فهو نواة نظام إقليمي ذاتي الدفع يقوم على أساس التعاون المثمر بين الدول والمجموعات التي لا تزال قادرة على المبادرة في المنطقة.
نحن إذاً أمام مشروعين: أحدهما يقتضي القيام بمهمة خطرة لانتشال الولايات المتحدة من مأزقها مقابل دور مؤقت ومحدود، والآخر يطمح إلى قيام تعاون إقليمي يحفظ للمنطقة استقرارها واستقلالها الإيجابي. وربما كان كافياً استئناف دول المنطقة ما كانت قد شرعت به قبل الاقتحام الأميركي الدامي لها، من تعاون عربي ــ عربي مثمر، متزامن مع تحسّن تدريجي وثابت في العلاقة مع دول الجوار.
إنّ فرصة لبنان في أن ينعم بالاستقرار والثقة مشروطة بالانفصال الفوري عن المحور الملتحق بالسياسات الأميركيّة، وهو لن يكون محل رعاية خاصة داخله، بعدما تخلّت هذه الأخيرة تباعاً عن خطط الإصلاح ونشر الديموقراطيّة، فلم تعد مهمة هذا البلد تقديم النموذج الناجح والصالح بل المساهمة الناشطة في حلف المعتدلين والانغماس في الجولات الحاسمة المرتقبة. الاتجاه البديل بالنسبة إلى لبنان، هو الانضمام إلى خيارات إقليميّة نابعة من داخلها، تحافظ من جهة على استقلاله وحريّة قراره، وتتصف بالمرونة والتوازن بحيث تحقق مصالح معظم فئاته، على أمل أن تساهم في حمايته من تبعات الحروب الأميركيّة الارتداديّة، وتمنع بالتالي من استهدافه مجدداً كما حدث في العدوان الأخير الذي استفاد أيّما استفادة من ضعف التضامن الداخلي.
إنّ التفتيش عن تسوية داخليّة في هذا اللهيب المتصاعد لن يكون أمراً سهلاً، لكنها لا تتحقق بمجرد الركون إلى حلول وسط وتبادل سطحي للتنازلات، بل بالتأسيس لسياسات وطنيّة معتدلة فعلاً وراسخة، من شروط تحقّقها: ولادة ديموقراطيّة قادرة تقود إلى الإمساك بالقرار الوطني على مختلف الصعد، ووجود قاعدة اجتماعية ــ سياسيّة واسعة داعمة لمشروع التسوية العتيد.
* نائب رئيس المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق