إيلي نجم *
كيف السبيل إلى حماية الناس من المتسلّط والجائر والطاغية؟ بل كيف السبيل إلى حمايتهم من الحاكم في الغرب، وهو الذي يحكم العالم بأمره و/أو بأمر الجماعات السياسيّة أو العسكريّة أو الماليّة أو الاقتصاديّة أو الدينيّة... التي حملته إلى السلطة؟
هذا السؤال فرع من أصل. أمّا الأصل: كيف السبيل إلى حماية الضعيف من القويّ، والمحكوم من الحاكم؟ الجواب، بالنسبة إلى الكثيرين من فلاسفة السياسة، في مفهوم الديموقراطيّة (المفردة يونانيّة كما هو معلوم وتشتقّ من سابقة «ديموس» [demos] أي الشّعب ومن لاحقة «كراتوس» [kratos] أي القوّة والسلطة: يقول أرسطو إنّ الديموقراطيّة هي «حكم الفقراء أو أقلّ الناس حظوةً») حيث أعطى المحكومُ السلطةَ إلى الحاكم، في الوقت الذي أُعطيَ فيه المحكومُ (الذي اعتُبرَ أنّه مصدر كلّ سلطة تمارَس عليه) «سلطة مضادّة»، بحسب الفيلسوف الفرنسيّ مونتسكيو. وهذه السلطة المقابلة التي يدعوها النظام القانونيّ والسياسيّ الأميركيّ checks and balances هي بمثابة ضوابط يحدّ بوساطتها المحكوم من سلطة الحاكم ويلجمها، أو يقوّضها ويفوّض أحد المحكومين بتولّيها. لنقل بدايةً إنّ هذه الفكرة التي التزمها، من حيث المبدأ، الحاكم والمحكوم في الغرب، نجحت إلى حدٍّ ما، لدى صرفها في أرض الواقع، في إقامة توازن سياسيّ ساهم في إرساء السلم الأهليّ. لكن ما العمل إن لم يكن بوسع المحكوم الوصول إلى الحاكم وإرغامه على الكفّ عن الاعتداء عليه خدمةً لمصالحه الانتخابيّة في بعض الأحيان أو، في غالبها، خدمةً لمصالح الجماعات التي يدين لها هذا الحاكم بالوصول إلى السلطة؟
يقول المؤرّخون إنّ الرقّ قد شُرِّعَ في أثينا القديمة (وانبرى أفلاطون يعلّله حين تصوّر الاجتماع البشريّ على شاكلة الموجود الإنسانيّ الحيّ) وأُقصيَ الغرباء («البرابرة») بالقدْر الذي تعزّزت فيه الديموقراطيّة. أضف أن الحرّيّة التي نَعِمَ بها سقراط أودت به. ذلك لأنّه توسّل بها ليحاورَ الآخرين ويولّدَ أفكاراً لم يستطع أهل السلطة في أثينا تقبّلها. على صعيد آخر، يرى البعض أنّ الديموقراطيّات الغربيّة الراهنة تستلهم مصالح شعوبها في الوقت الذي تدعم فيه الأنظمة البوليسيّة في العالم وتقيم بعضها الآخر. فكيف تكون ديموقراطيّة في الداخل واستبداديّة في الخارج وفي دول الجنوب بعامّة؟ وهل يكون نقيض الديموقراطيّة شرط دوامها؟ الواضح أنّ الحاكم لم يلتزم، في هذه الديموقراطيّات، احترام حقوق الإنسان الأساسيّة إلّا بعد أن ألزمه بها المحكوم، كما لم يلتزم احترام البيئة الطبيعيّة لكوكب الأرض إلّا بعد أن انتصرت جماعات أهليّة ومنظّمات شبابيّة غير حكوميّة لهذه القضيّة، وراحت تحذّر من الخطر الداهم للتقنية والعلم الغربيَّين على شروط ديمومة الحياة في المقبل من الأزمنة. فللمحكوم ههنا الكلمة الفصل بالقدْر الذي يعمل ويجهد للحدّ من سلطان الحاكم. ويرى البعض أن لا مصلحة للمحكومين في أن يكون الحاكم من تلقاء نفسه على قدْر تطلّعاتهم وآمالهم. ذلك لأنّ على هؤلاء المحكومين أن يجعلوه على نحو ما يتمنّون أن يكون، كيلا تضيع المبادئ التي يكونون قد تربّوا عليها ودَرَجوا على استلهامها بغية تقييد سلطة خَلَفِه والحدّ من تسلّطه وطغيانه المحتملَين.
ويختلف الأمر حين يتعلّق بحماية الناس من الحاكم في الغرب. ففي الوقت الذي يستطيع فيه هذا الحاكم الوصول إلى الناس في العالم أجمع (وههنا مصدر قوّته وسرّها)، وبالتحديد إلى الناس في العالم العربيّ والإسلاميّ، وممارسة سلطانه عليهم إمّا مباشرةً وإمّا بوساطة من يعمل معه وعنده وله، يتعذّر على هؤلاء الناس الوصول إليه، حتّى إذا وصلوا، لا يستطيعون التأثير، على نحوٍ فعّال وحاسم، في القرارات السياسيّة أو العسكريّة أو الاقتصاديّة التي يتّخذها. فما العمل لحماية الناس من حاكمٍ لم يولّوه أمرهم بمعنى أنّهم لم يعطوه الحقّ في الأمر ولن يتسنّى لهم بالتالي الحدّ من سلطانه عليهم أو تقويضه؟
يبدو أنّ المسألة تتجاوز ههنا الشروط التي قامت عليها الفكرة الديموقراطيّة، وتتعلّق بربط السياسة بالاعتبارات الأخلاقيّة. الجواب إذًا في الالتزام الأخلاقيّ الذي هو بالطبع إلزام ذاتيّ، وقد يكون إلزاماً ذاتيّاً دينيّاً أو إلزاماً ذاتيّاً عقليّاً، بالمعنى الذي كان قد خلعه الفيلسوف الألمانيّ كانط على مفهوم «العقل المحض العمليّ» بحيث يجمع كلّ الناس بعضهم إلى بعض، من دون استثناء، ويخدم بالتالي مصالح جميع البشر. إلّا أنّ الفيلسوف الألمانيّ يورغن هابرماس بَيَّنَ، في صدد هذا الأمر، أنّ الإلزام الذاتيّ العقليّ، على طريقة كانط، يبقى ضروريّاً، لكنّه ليس كافياً. يقول هابرماس إنّه عوض أن أفرضَ على الآخرين المبدأ الذي أودّ أن يغدو قانوناً كليّاً (وهو ما كان قد ألزمنا به كانط في أخلاقيّاته المتشدّدة، واعتبره شرطاً من شروط إمكان قيام الأخلاق)، عليّ أن أعرضه على الآخرين، من أجل أن نتفحّص معاً هل من الممكن أن يغدو هذا المبدأ قانوناً كليّاً، من طريق النقاش بعامّة والاستقراء بخاصّة، فنخدم بالتالي مصالح جميع البشر.
بالمقابل، وإذا كان هابرماس يودّ العودة بالأخلاق (كانط) إلى السياسة (روسّو)، فإنّ الفيلسوف الفرنسيّ بول ريكور يودّ العودة بالسياسة إلى الأخلاق من طريق الدين. يقول ريكور إنّ الدول العَلمانيّة الغربيّة الراهنة «تشكو من وَهَن الاقتناعات الأخلاقيّة في الوقت الذي تلتمس فيه السياسةُ الأخلاقَ» (بالمناسبة، أسأل: ما هي القيمة الأخلاقيّة للفعل السياسيّ الذي يقوم به الحاكمُ والذي ألزمه به المحكومُ إلزامًا؟). وبعد أن يؤكّد أنّ كلّ جماعة بشريّة بحاجة إلى ما يدعوه «ديانة دنيويّة» أو «مقدّس مدنيّ»، يسأل: «كيف نحيي التزام مُثُل مشتركة ونفعّلها من دون حدّ أدنى من ديانة دنيويّة؟». ثمّة حاجة إذاً، في رأي ريكور، إلى تحويل الإلزام الذاتيّ العقليّ إلى نوعٍ من إلزام ذاتيّ دينيّ إذا ما أُريدَ له أن يكوّن التزاماً أخلاقيّاً راسخاً. وههنا المأزق الذي وصلت إليه، بحسب ريكور، الديموقراطيّات الغربيّة الراهنة (أتراه المأزق الوحيد؟)، والذي يتمثّل من جهة بالحاجة المشتركة إلى الوصل بين ما هو سياسيّ ودنيويّ وبين ما هو مقدّس ودينيّ، وبإرادة الفصل بينهما من جهة أخرى...
* كاتب لبناني