محمد سعيد بسام*
إن النظام المركزي الموحد، القائم راهناً في لبنان، علته في طائفيته. فكيف العلاج؟ هل في استمرار النظام الطائفي في لبنان التعايش المشترك؟ أم بالعلمنة؟ أم بإلغاء الطائفية السياسية؟
إن بعض اللبنانيين يفخر بأن لبنان بنظامه الطائفي نموذج فريد في العالم من التعايش والعيش المشترك، والتفاعل بين الديانتين: الإسلام والمسيحية. ويدّعي بأن لبنان يحمل رسالة كونية في تفاعل تينك الحضارتين العالميتين. والواقع ان لبنان نموذج فريد من التعايش، ولكنه نموذج غير ايجابي، إطلاقاً، للسلم الأهلي في المجتمع الطائفي. انه سلم أهلي متفجر منذ مطالع القرن التاسع عشر حتى اليوم (1833، 1836، 1839، 1841، 1842، 1845، 1858، 1860، 1919، 1958، 1975 ــ 1990)، إنها مراحل متوترة متتابعة من الصراعات الدموية والسلم الأهلي القلق المحفوف بالشك والأحقاد والحذر والتربص، وأحياناً بالتكاذب المتبادل بين الطوائف، حتى لتصبح أكبر كذبة مقولة: لبنان رسالة حضارية كونية لتفاعل الحضارتين الكونيتين: المسيحية والإسلام. والواقع ان هاتين الحضارتين ممكن التعايش والتفاعل والتكامل بينهما، ولبنان ممكن ان يكون «النموذج ــ الرسالة»، كما دعاه إليه البابا يوحنا بولس الثاني في زيارته لبنان عام 1990، وذلك إذا غلّب العقل والحكمة على العصبية والانفعالات العاطفية، والتسامح على الأحقاد، وقبول الآخر والاعتراف بحقوقه الطبيعية على محاولات إلغائه أو السيطرة عليه، والسلام على التوتر والصراع. وبالتالي إذا كان اللبنانيون «رساليين» لا طائفيين، أي اذا تعمقوا في إيمانهم الديني وألغوا الطائفية من النفوس في المجتمع والسياسة. والواقع، ان التفاعل الحضاري والتعايش السلمي بين أبناء الديانات السماوية والعقائد الفكرية والخصوصيات الثقافية والاجتماعية والعرقية هما حقيقة قائمة، الى حد بعيد، في الدول المدنية الحديثة الديموقراطية، (مثال الدول الأوروبية والأميركية) دول القانون والمؤسسات، دول المواطنية والكينونة الشخصية للمواطن، لا دول الطائفية وكيانات الطوائف. فلا طائفية في تلك الدول (بصرف النظر عن إدانة سياساتها الخارجية الاستعمارية) بل هناك مذاهب وطوائف دينية، بالولادة أو بالهجرة والتجنّس، متعايشة بعد طول نزاع، بسلام ووئام اجتماعيين في ظل سيادة القوانين الوضعية الحديثة الصارمة، حتى الشيطان له فيها عبدته، والحساب عند الله. وفيها تعيش المجتمعات المدنية إيمانها في النفوس وتمارس شعائرها في المعابد لا في المدارس والمصانع والمزارع والمؤسسات والإدارات أو تحت قبة البرلمان. أما المنازعات والصراعات السياسية بين شرائح مجتمعاتها فهي من نوع آخر غير الطائفية، صراع سياسي مدني سلمي طبقي اقتصادي فكري ثقافي. فالصراع لا ينتهي، وهو من سنن الحياة. ببساطة انها سياسة: الدين لله والوطن للجميع. وباختصار انها دولة فصل الدين عن الدولة بالعلمنة، أو فصل الدين عن السياسة بإلغاء الطائفية السياسية. هذا ويرى العلمانيون ان الحل الجذري للمعضلة الطائفية اللبنانية المركبة يكون بتفكيك عناصر تكوينها السياسية عن الدينية، أي فصل الدين عن الدولة، أي ما يعرف بالعلمنة، ليصبح الدين لله والوطن للجميع، ويصبح علاج الشق الديني من الصراع بواسطة الأخلاق الدينية نفسها: التسامح والتعايش والمؤاخاة بالله بين المؤمنين. وينحصر الصراع سياسياً بين اللبنانيين، كمواطنين في دولة مدنية علمانية، ويستمر نضالاً اجتماعياً، اقتصادياً، طبقياً في سبيل تحديث النظام السياسي لخلق الدولة الحديثة، دولة القانون والمؤسسات الديموقراطية، دولة المساواة المواطنية والعدالة الاجتماعية.
قد يكون هذا الطرح صحيحاً نظرياً ومبدئياً. ولكن العلمنة تصطدم، حتى تاريخه، بعقبات وثقافات وطروحات وطموحات الفريقين الطائفيين:
* فبالنسبة إلى المسيحيين، العلمنة ــ وعلى رغم تجاهلهم لذلك ــ هي قضاء على أسس الأيديولوجيا «اللبنانية» لكينونتهم السياسية القائمة على الخصوصية الدينية ــ الثقافية.
* وبالنسبة إلى المسلمين، هي ــ في فهمهم ــ تخالف شرائعهم الدينية التي منها: «أن الإسلام دين ودولة».
لكل ما سبق، يقول يوسف سالم (النائب السابق): «صحيح ان الطائفية مظهر من مظاهر التخلف ولكن الوقت لم يحن بعد لعلمنة لبنان» (الأنوار 18/8/75).
إن العلمنة في لبنان بحاجة الى مقدمات وإجراءات تدرجية: سياسياً واجتماعياً. أما الطائفية فهي راسخة في النفوس الطائفية نتيجة ثقافة وتنشئة وشحن طائفي عبر قرون، تغذيها وترويها دماء وجراحات وأحقاد طائفية، وولدتها فتن وحروب أهلية مشغولة من أهل الداخل وقوى الخارج.
والطائفية السياسية هي الركن الأساس للنظام الطائفي اللبناني، وهي مكرّسة في النصوص (الدستور والمواثيق والأعراف اللبنانية)، وهي عصب الحياة السياسية في لبنان. فالخطاب الطائفي والخدمات الطائفية هما جواز المرور الى السياسة، وآلية سهلة للزعامة السياسية الطائفية.
والطائفية السياسية، بقدر ما لها من أضرار مدمرة للوطن والمجتمع، لها من المنافع والمكاسب والمغريات الآنيّة والظاهرة لزعماء الطوائف وقادتها السياسيين ومراجعها الدينية. فرؤساء الطوائف في لبنان يعاملون معاملة رؤساء الدول. والمفارقة ان رؤساء الطوائف السياسيين ومراجعها الدينية هم في تناغم وتصالح دائمين، فيما العامة الطائفية في تصارع وتقاتل على الدوام. لذلك يقول بطريرك الروم الأرثوذكس (البطريرك أغناطيوس الرابع هزيم): «إن أعداء لبنان هم رجال السياسة الذين يستغلون الإيمان لأجل غاياتهم السياسية» (السفير 16/8/75).
إن الفتن والحروب الطائفية غالباً ما كانت تبدأ وتنتهي، بإدارة أمراء الطوائف، الى تسويات ومواثيق طائفية مرحلية، على حساب الطوائف الصغرى (النهار 24/6/76)، فيما الحلول الجذرية الوطنية والعملية مستبعدة، ليبقى وعد الجماهير الطائفية بحرب طائفية مقبلة، باسم سيادة الطائفة وحقوقها لا حقوق الوطن أو المواطن. فلنلاحظ: (صراعات في ظل الانتداب الفرنسي (1920 ــ 1943) انتهت بميثاق عام 1943، تلته هدنة 15 سنة لتقع فتنة 1958 لتنتهي الى «الشهابية» بمثابة «ميثاق جديد» لـ«الطائفية المعقلنة»، تلتها هدنة 17 سنة لتقع حرب 1975 ــ 1990 التي انتهت باتفاق الطائف عام 1989. وبعد هدنة 16 سنة، يعيش لبنان الآن في خضم شبه حرب طائفية سياسية سلمية (حرب باردة) ندعو الله ألاّ تنفجر دموية في يوم قريب). ان جميع الدساتير والمواثيق والأعراف اللبنانية تتقبل الطائفية موقتاً، ولكنها تستنكرها ــ مبدئياً ــ وتعد بإلغائها (كما في ميثاق 1943)، أو بتأليف هيئة وطنية للبحث في وسائل تخفيف مفاعيل الطائفية تدريجاً، مقدمة لإلغائها من الحياة السياسية اللبنانية (كما في ميثاق الطائف ودستوره). ولكن الحكومات المتتابعة والسياسيين والمراجع الدينية لم يعملوا جدياً لإلغاء الطائفية ولا لتخفيف مفاعليها على الأقل. وبعد 16 سنة على اتفاق الطائف لم تؤلَّف، بعد، تلك الهيئة الوطنية للبحث والعمل على تجاوز الطائفية... ولعل أسوأ ما في طرح إلغاء الطائفية السياسية انه يأتي من طائفة أو طوائف دون طوائف أخرى، بحيث يبدو، شكلياً، أنه مطلب طائفي.
* استاذ في الجامعة اللبنانية