ماجد عزام *
المشاورات في تأليف حكومة وحدة وطنية فلسطينية وصلت إلى طريق مسدود، هذا ما قاله الرئيس محمود عباس أثناء مؤتمر صحافي مع وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس عقد في مدينة أريحا نهار الخميس الماضي، ومنذ ذلك اليوم والمتحدّثون الرسميون باسم الرئاسة وحركة فتح إضافة إلى بعض المرتزقة الآخرين يشنّفون آذاننا صباح مساء بوصول المشاورات التي علق عليها الشعب الفلسطيني آمالاً عظيمة إلى طريق مسدود وبأن الرئيس يحاول، وخصوصاً بمساعدة الجهابذة من أعضاء اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير أمثال صالح رأفت وياسر عبد ربه وسمير غوشة، البحث عن خيارات ديموقراطية وطنية لمواجهة هذا المأزق غير الوطني وغير الديموقراطي في مواجهة حركة فتحية في شكل ديموقراطي وسليم وتتمتع بفكر شعبي وطني لا شك فيه.
في مواجهة هذه المعزوفة الفتحاوية والرئاسية تصر حماس على أن المشاورات لم تصل بعد إلى طريق مسدود وأنها مستعدة لاستئناف الحوارات فوراً لدرجة أن رئيس الوزراء إسماعيل هنية أعلن أنه مستعد لقطع جولته الخاصة والعودة إلى أرض الوطن لاستئناف الحوارات الجادة من أجل تأليف حكومة وحدة وطنية علماً بأن جولته الخاصة الأولى كانت، بعيداً من الأزمة مع فتح، بالتأكيد ليست سبباً لها.
الجوقة الرئاسية الفتحاوية تطرح عدة أسباب وراء وصول المشاورات إلى طريق مسدود وهي تتمثل في رفض حماس التنازل عن الحقائب السيادية أو شبه السيادية حسب الوضع السائد الآن في الأراضي الفلسطينية، وهذه الحقائب هي الداخلية والمال والخارجية والإعلام حيث يصر الرئيس أبو مازن على ضرورة تولّي التعامل مع المجتمع الدولي والعالم الخارجي وسيُناط بها الجزء الأكبر من المهمة الثقيلة والصعبة المتمثلة في رفع الحصار المفروض على الشعب الفلسطيني، إضافة إلى ذلك يرفض الرئيس محمود عباس أن يقتصر البرنامج السياسي للحكومة على وثيقة الوفاق الوطني أو حتى المبادرة الخاصة بالدكتور مصطفى البرغوثي زعيم المبادرة الوطنية، ويصر على قبول الحكومة بخطاب التكليف الذي وجّهه إلى رئيس الحكومة الحالية إسماعيل هنية والذي يتحدث عن ثوابت ــ بالمعنى المجازي ــ الخطاب العباسي المتضمن الشرعيات الثلاث الفلسطينية والعربية والدولية والاعتراف بإسرائيل والاتفاقات التي وقّعت معها وبضرورة اعتماد المفاوضات والتسوية خياراً وحيداً لاسترجاع الحقوق الفلسطينية المغتصبة. طبعاً، يجب الإشارة إلى ما يقوله رئيس كتلة فتح في المجلس التشريعي عزّام الأحمد الذي يصر على أن سبب تعثّر المشاورات هو منهجي بالأساس ويتمثل في رفض حماس فكرة مبدأ المشاركة وبحثها عن تابعين لا عن شركاء متساوين في مواجهة التحديات التي تواجهها القضية الفلسطينية.
هذا في الظاهر، أما في الباطن وما لا تقوله الجوقة الفتحاوية والمرتزقة السائرون في ركبها فإن السبب الحقيقي الذي أوصل المشاورات إلى طريق مسدود يتمثل في عامل أو عوامل إقليمية ودولية. فالرئيس محمود عباس أعلن أول مرة وصول مشاورات تأليف الحكومة إلى طريق مسدود في الأردن يوم الثلاثاء 28/11/2006، وبعد لقائه العاهل الأردني قبل يوم من لقاء هذا الأخير في عمان الرئيس الأميركي جورج بوش على هامش منتدى المستقبل. فإذا وضعت الأمور في سياقها الطبيعي وجُمّعت أجزاء المشهد أو الصورة يمكن توقّع أن الملك الأردني أوصل إلى الرئيس محمود عباس رسالة مفادها أنه أو أنهم أي المعتدلين العرب ــ الأردن والسعودية ومصر ــ في صدد الضغط على الرئيس الأميركي جورج بوش ليتبنّى قناعة مفادها أن الخروج من المستنقع العراقي لا يتم عبر الحوار مع سوريا وإيران ولكن عبر استئناف المفاوضات بين الرئاسة الفلسطينية واسرائيل وعبر تقوية الرئيس محمود عباس ودعمه لمواجهة حماس وفرض نفوذه على الساحة الفلسطينية تمهيداً للتفاوض مع حكومة إيهود أولمرت في ما بعد التي ستضطر تحت وطأة الضغط الداخلي والضغط الأميركي والدولي إلى تقديم لافتات ومبادرات لتقوية أبو مازن في مواجهة حماس وفصائل المقاومة الأخرى.
أبو مازن رأى أو اقتنع بصدق هذا المنطق وخاصة بعد خطاب أولمرت الاثنين 27/11/2006 الذي زعم فيه أن نيته جادة في استئناف المفاوضات مع السلطة الفلسطينية وصولاً إلى دولة فلسطينية متواصلة جغرافياً وعلى مساحات واسعة من أراضي الضفة الغربية بعد إخلاء المستوطنات المقامة عليها، هذا بالطبع كان النصف المليء من الكوب، إذ تحدث أولمرت عن ضرورة شطب الفلسطينيين حق العودة والتزام شروط اللجنة الرباعية وتطبيق خريطة الطريق وتنفيذها وخاصة البند الأول الذي يتحدث عن تفكيك البنى التحتية لفصائل المقاومة الفلسطينية.
أبو مازن استمد تشجيعاً آخر من وزيرة الخارجية الأميركية التي أبلغته دعم أميركا والأوروبيين له في أي خطوات يتخذها لحل الأزمة السياسية في الساحة الفلسطينية. وهذا الحل في رأي رايس يتمثل في إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية مبكرة ستبذل أميركا كل جهدها لإنجاح المعتدلين الفلسطينيين فيها.
الجوقة الفتحاوية لا تشير أيضاً إلى إحباط الرئاسة وجهابذة الأمن والسياسة المحيطة بها النجاحات التي حققتها حماس وقيادة الحكومة في الفترة الأخيرة. فزعيم الحركة استُقبل زعيماً للشعب الفلسطيني في القاهرة وعقد مؤتمراً صحافياً عالمياً حسب التعبير المصري الشائع، وأدلى بحديث للتلفزيون المصري الرسمي تصرّف فيه كقائد للشعب الفلسطيني وزعيم له، واستُقبل بحفاوة في العاصمة المصرية على رغم وعود مصرية مزعومة للرئاسة بعدم تسهيل زيارته للخارج وتأخيرها قدر الإمكان. أبو مازن محبط كذلك من التعاطي الاسرائيلي غير المباشر مع حماس ومع الوساطة المصرية في موضوع تبادل الأسرى. وسائل الإعلام الاسرائيلي تحدثت عن التفاوض في شكل غير مباشر مع حماس والرئيس محمود عباس تحول إلى ساعي بريد ليس إلا، وحماس أضحت الحركة التي تمثل مفتاح الهدوء التام في الشرق الأوسط، وتمثل الآن الطرف الفلسطيني الرسمي حسب تعبير المحلل السياسي في صحيفة «يديعوت أحرونوت» شيمون شيفر. وقد نقلت الإذاعة العبرية عن مصدر عسكري اسرائيلي رفيع قوله ما يهمنا الأمن وليس تأليف حكومة لديكم ونحن مقتنعون بأن الأمن أصبح في أيدي حماس وفصائل المقاومة المؤيدة لها لا في أيدي مؤيدي عباس.
الإذاعة نفسها نقلت عن مصادر سياسية وأمنية اسرائيلية أنها أبلغت شخصيات فلسطينية رفيعة المستوى بأن على هذه الشخصيات أن تتوقع تغييرات ملحوظة في الموقف من حماس حيث إن اسرائيل لم تعد تشترط تأليف حكومة فلسطينية جديدة لرفع الحصار، بل إطلاق سراح الجندي جلعاد شاليت مع وعود بإطلاق سراح عدد كبير من الأسرى ونواب الحكومة والتعهد بدفع كل المستحقات المالية للسلطة وتخفيف القيود على الحركة وخاصة في الضفة الغربية.
إذاً، هذه المعطيات أغضبت وأحبطت الرئيس عباس والمحيطين به على رغم انها قد تكون مبادرة اسرائيلية وصبّ للزيت على النار الفلسطينية المشتعلة أصلاً، غير أن فريق الرئيس عباس صدّقها لأنها تزامنت مع نجاح الهدنة المؤقتة التي سعت إليها حماس ومع تواتر الأنباء من القاهرة وكذلك تل أبيب والقدس عن قرب التوصل إلى صفقة لتبادل الأسرى بين حماس وحكومة اسرائيل بوساطة مصرية تضمن الإفراج عن قرابة 1400 أسير فلسطيني مقابل الجندي الاسرائيلي، والعدد الكبير من الأسرى يتضمن النساء والأطفال والقُصّر والأسرى القدامى، وهذا الأمر عجز عنه الرئيس أبو مازن وسلطته على رغم كل التوسطات والنداءات والتنازلات التي قدمها لإسرائيل والمجتمع الدولي الداعم لها.
حماس تقارب الموضوع في شكل مختلف وهي تصر على أن المشاورات لتأليف حكومة وحدة وطنية لم تصل إلى طريق مسدود على رغم التفاهم على عدد من الأمور المهمة مثل رئاسة الوزراء وحصة كل فصيل أو تنظيم، غير أن حماس فوجئت بأن عباس يقود إلى المعادلة القديمة: حماس مقابل الحصار وليس هنية والزهار مقابل الحصار، بمعنى أن عباس يصر على أن تذهب الحقائب شبه السيادية الأربع إلى شخصيات مستقلة هي في الحقيقة قريبة من فتح وأبو مازن بشكل شخصي، وعوضاً من التنازل عن الحقائب شبه السيادية تطالب حماس بأن ترشح شخصية فتية من المستوى التنظيمي العاشر للحقائب العادية الأخرى وكل ذلك من دون تقديم أي ضمانات جدية برفع الحصار ومن دون إبداء الاستعداد الصادق الجاد لرصّ الصفوف ومواجهة العالم من أجل رفع الحصار الظالم، وحتى عندما تعاطت حماس بواقعية مع ربط أبو مازن بين التهدئة وصفقة تبادل الأسرى وبين رفع الحصار وتأليف حكومة وحدة وطنية فهم الرئيس الموضوع في شكل فئوي شخصي، واستخلص القناعة بأن حماس تتصرف من وراء ظهره وأنها تسعى إلى إظهاره ضعيفاً عاجزاً لا حول ولا قوة له على رغم أن هذه المصطلحات اسرائيلية المنشأ وتُتداول في شكل مركّز وكثيف حتى قبل وصول حماس إلى السلطة في كانون الثاني الماضي.
للإنصاف أيضاً، حماس لم تنزعج من إعلان أو حتى وصول مشاورات تأليف حكومة وحدة وطنية إلى طريق مسدود، فهي تعي أن خيارات أبو مازن جد ضيقة وأن أوضاع حركة فتح وكذلك المرتزقة المحيطين بها لا تشجع على الذهاب إلى انتخابات مبكرة رئاسية ولا تشريعية، وتعتقد حماس ان بوادر كسر الحصار قد بدأت بالتبلور على أرض الواقع وتمثلت بقرار وزراء الخارجية العرب الأخير وكذلك قرار منظمة المؤتمر الإسلامي إضافة إلى جولة رئيس الوزراء اسماعيل هنية الخارجية والتي أفضت إلى دعم سياسي ومادي للحكومة لا لبس فيه، وإذا ما تكفّلت قطر بالقطاع التعليمي والصحي فإن مدخولات السلطة الذاتية إضافة إلى حقائب وزراء حماس الخاصة كفيلة بحل أو على الأقل تخفيف الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الخانقة التي تعيشها الأراضي الفلسطينية، وفي جميع الأحوال تتصرف حماس على أساس أنها رقم صعب وصعب جداً ليس في فلسطين فقط بل في المنطقة أيضاً، وأنها أضحت ضرورة للتهدئة المحلية والإقليمية، وأن أي صدام فتحاوي أو اسرائيلي معها سيؤدي إلى عواقب وخيمة ليس فقط على المستقبل السياسي للرئيس محمود عباس الذي هو في الحقيقة جنرال بلا جنود أو جيش، بل أيضاً على مستقبل التسوية والاستقرار الإقليمي في شكل عام. وإذا ما أرادت أميركا البحث عن استراتيجيا للخروج من العراق ومن المستنقع الإقليمي في شكل عام فلا بد من أن تبحث عن التهدئة في فلسطين، هذه التهدئة تمر حتماً عبر البوابة الفلسطينية، تحديداً بوابة حماس وفصائل المقاومة المتحالفة معها.
* مدير مركز شرق المتوسط للصحافة والإعلام.