محمود رمضان *
أثار المشهد السياسي اللبناني جدلاً حاداً حول مدى دستورية ــ وتالياً ــ قانونية التظاهرات والاعتصام الحاصل في وسط مدينة بيروت وبعض المناطق اللبنانية الأخرى، وتوالت الاجتهادات الصادرة عن مرجعيات غير مختصة ولا سيما من جهات دبلوماسية غربية وعربية على حد سواء حول طبيعة التحرك الجماهيري المناهض لنهج المجموعة الحاكمة، في محاولة لتعويم الحكومة القائمة، الأمر الذي أحدث ارتباكاً على غير مستوى وصعيد.
ونستعرض في ما يلي المواقف القانونية من حرية التظاهر والاعتصام بموجب القانون الطبيعي والقانون الدستوري وتكريسهما حقاً دستورياً للجماعة والفرد:
1 ــ في موقف القانون الطبيعي
لا بد من الإشارة بداية، الى أن قواعد القانون الطبيعي أدرجت حق التعبير بكل مظاهره، بما فيها التظاهر والاعتصام كإحدى ثوابت الحقوق اللصيقة بالإنسان المعبّرة عن الفلسفة التنويرية التي تتضمن وتشمل مفاهيم القانون الطبيعي، وحق تقرير المصير، ومن أعلام هذا التوجه نشير الى الفيلسوف البريطاني جون لوك الذي أكد في مؤلفه الثاني عن الحكومة «فكرة الحكومة بالتوافق أو الاتفاق»، وأن «الكائن البشري يتمتع بحقوق طبيعية منها حق التعبير وبالتالي حق التظاهر والاعتصام وهو حق لصيق بالانسان تماماً كما حق الزواج والتنقل والاجتماع وغيرها من الحقوق التي تزاوج وتلامس شخص الفرد وحريته في التحرك والتعبير، بحيث يقتضي أن لا تُقيّد إلا بالقدر الذي يسمح بتنظيمها لضمان وتأمين ممارستها من قبل الغير بالذات.
فالثابت فقهاً واجتهاداً، ولا سيما من خلال النظريات المتلاحقة التي تبنّاها كل من الفقه الأنكلو ــ ساكسوني واللاتيني وحتى الجرماني، التي تكرست بنتيجة الحروب والانتفاضات الشعبية ولا سيما حروب الاستقلال والثورة على الظلم والحكم المستبد والمستأثر بالسلطة، أن هذا الحق (التظاهر) أثمر في بريطانيا وضع الميثاق الكبير عام 1215 ميلادية، الذي قيّد من صلاحيات الملكية المستبدة، تبعه إعلان الاستقلال لجمهورية الداتش ــ هولندا ــ ألمانيا ــ لعام 1581، ومن بعدهما إعلان الاستقلال للولايات المتحدة الثلاث عشرة الذي جرى التصديق عليه في الكونغرس بتاريخ الرابع من شهر تموز 1776، الذي لحظ التمثيل الصحيح في السلطة التشريعية كحق ثابت، ومقاومة الحاكم الظالم المستبد ــ غير القادر وغير المؤهل لحكم شعب حر. ونتيجة لإلغاء الإقطاع في فرنسا خلال الأحداث التي ترافقت مع انطلاق الثورة الفرنسية عام 1789، فرض مبدأ التساوي بين المواطنين، وأطلق كل من ميرابو وسياياس إعلان حقوق الإنسان والمواطن الذي عدّد الحقوق الطبيعية غير القابلة للتنازل عنها أو المساومة بشأنها، وأهمها حرية الفرد، الملكية الفردية، والأمن ومقاومة الظلم أو القهر أو الاستبداد.
والثابت أن سائر هذه الحقوق التي ترتقي الى القانون الطبيعي، جرى إدراجها في متن الدساتير، وجرى التذكير بها على أنها حقوق أساسية وطبيعية تتناول الطبيعة الإنسانية ولصيقة بشخص الفرد، لا يمكن التنازل عنها أو المساومة بشأنها أو تجزئتها وأهمها:
أ ــ حق الثورة والانتفاضة على الحاكم الظالم المستأثر بالسلطة والحكم.
ب ــ حق الانتفاضة بهدف تغيير النظام أو الحكم والحاكم غير العادل.
ج ــ حق المواطن في التعبير والاجتماع، بكل الوسائل المتاحة تحقيقاً للأهداف والغايات الملحوظة آنفاً.
فالمؤكد إذاً أن الحريات العامة، بما فيها حرية (حق) التعبير بالتظاهر والاعتصام، وحرية الاجتماع (التجمع) وحرية التنقل، تدخل في نطاق القانون الطبيعي الذي يحتضنها ويكرسها، وبالتالي لا يمكن اختزالها أو إسقاطها حتى لو جرى تجاهلها كلياً أو بصورة جزئية أو تقييدها بشكل أو بآخر في النصوص الدستورية لدى بعض الأنظمة الاستبدادية الشمولية وهي تبقى قائمة ونافذة ولا سيما في التطبيق العملي، وأمست من الأعراف المستقرة والثوابت الدستورية، حسبما تأكد من خلال الانتفاضات المتلاحقة التي جرت في دول المنظومة الاشتراكية في أوروبا خلال المرحلة ما بين الخمسينيات والسبعينيات في القرن الماضي وما شهدته بعض الجمهوريات السابقة المكونة للاتحاد السوفياتي، وفي بعض المستعمرات المنتشرة في المعمورة.
2 ــ وعلى صعيد القانون الدستوري
لقد طغت وتكرست أحكام القانون الطبيعي، بحكم الانتفاطة والثورات المتلاحقة ولا سيما في دول الغرب، وأضحت جزءاً أساسياً من مقدمات وقواعد الدساتير من كل من فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة الأميركية، فضلاً عن معظم الدول الأوروبية، وتشكل رأس الهرم فيها قواعد ومبادئ الحريات العامة، ومنها وأهمها حق التعبير والاجتماع والانتفاضة بوجه الظلم والاستئثار والطغيان وبهدف تغيير النظام السياسي أو الانقضاض على الحكومة القائمة بقصد استبدالها أو إرغامها على تعديل أو تغيير نهجها في مواضيع محددة، ذات تأثير مباشر إما على حياة ومعيشة المواطن وإما على كرامته وحريته ومعتقده.
هكذا قرأنا في إعلان الاستقلال للولايات المتحدة الثلاث عشرة الأميركية، وفي إعلان حقوق الانسان والمواطن في فرنسا، وفي الاعلانات التي تبنتها دول أخرى، كفيتنام (1945) وروسيا، ولمسناها في مناسبات مختلفة، ولا سيما في الخطاب الشهير الذي ألقاه مارتن لوثر كينغ في الحشود الغفيرة مستهلاً كلماته الشهيرة بعبارته الشهيرة أيضاً «لديّ حلم»، الذي هزّ مشاعر المظلومين والمقهورين في العالم.
الحريات العامة إذاً، جرى تكريسها دستورياً نتيجة مخاض مرت به الأمم الغربية تحديداً في عبورها الى رحاب الحرية والانعتاق، وعصارة نضال شاق وطويل في سعي شعوبها الى تحقيق ذاتها واستقلال بلادها وهي دفعث ثمناً باهظاً لبلوغها، دماً وحروباً وناراً ومعاندة ومكابدة وصموداً.
وإذا كانت الدساتير المذكورة، تلحظ إطاراً لممارسة هذه الحريات، فإن أطراً كهذه لا يمكن تفسيرها على انها تشكل قيوداً ثقيلة من شأنها أن تلغي مفاعيلها ولا حتى أن تكبّلها، كما هي الحال في بعض الدول العربية ودول العالم الثالث بشكل عام، وإنما جرى لحظها لحماية حقوق الغير، والآخرين، في ممارسة هذه الحريات بالذات وضمانة إضافية لحسن تطبيق هذه القواعد الأساسية على سائر أطياف مكوّنات المجتمع الخاضع للدستور المعني، ولا حاجة للتذكير بأن الدستور، يأتي على رأس الهرمية للقواعد القانونية، حسبما أشار إليه العلّامة «كلسن» في التسلسل الهرمي لهذه القواعد.
3 ــ في المشروعية الشعبية والشرعية الدستورية
عملاً بالمبدأ الدستوري العام يشكل الشعب في دولة ما المؤسسة الأولى والأسمى.
وبالتالي فلا شرعية تعلو على المشروعية الشعبية التي تشكل الأصل، فيما سائر المؤسسات الأخرى تأتي في مراتب خلفية.
ولما كانت الشرعية الدستورية مستمدة من قيم وتوجّهات أساسية لشعب الدولة، فإن أية مخالفة من أية مؤسسة دستورية قائمة، كمجلس النواب، والحكومة، وغيرها من المؤسسات، لتلك القيم والقواعد الأساسية، لا يمكن ان تستقيم قانوناً ولا عرفاً، وتكون باطلة أو معرضة للإبطال.
ولا بد من الإشارة الى بعض الملاحظات في سياق هذا البحث، أهمها:
أ ــ إن الدساتير المختلفة تجمع، حتى في الأنظمة الملكية التي تعتمد العناية الإلهية أساساً للولاية، وتلك التي تتخذ المنحى الاستبدادي، على ان الشعب هو مصدر السلطات، ولذا أي دستور يرعى أوضاع الدولة ومؤسساتها يجب ان يكون التعبير الصادق، لزاماً ووجوباً، عن القيم والمبادئ الأساسية التي يقوم عليها المجتمع، وبالتالي، مفيداً ومنتجاً وحامياً لمصالح وحقوق الشعب المذكور، وبالنتيجة تعلو مؤسسة الشعب على سائر المؤسسات والقواعد النظامية الأخرى داخل الدولة، ويأتي الدستور في مرتبة أدنى، باعتباره يشكل القاعدة الأساسية الموجّهة والناظمة للعلاقات القائمة داخل الدولة والمجتمع، ولا سيما في العلاقة بين المؤسسة الدستورية والإدارات وفي ما بين سائر الافراد في علاقاتهم مع المؤسسات وفي ما بينهم، فضلاً عن أنها تشمل الأطر العامة لتحرّك هذه المؤسسات واستمراريتها.
ب ــ ومن جهة ثانية، فإن الأحكام الدستورية، التي تعلو في التراتبية على الأحكام القانونية والتشريعية العادية، ومن باب أولى، على المراسيم والقرارات الحكومية والوزارية، واجبة الإعمال والتطبيق، ولا سيما تلك التي تؤثر في النظام العام وفي السلم الأهلي، ومنها على سبيل المثال، المسائل التي تثير مواضيع تتناول كيان الدولة، والنظام السياسي فيها، وحقوق الأفراد والمواطنين الأساسية، ومحاولات إدخال تعديلات على شكل الحكم والنظام القائم بوسائل عنفية، وبحيث يجب، وفي مثل هذه الحالات، الرجوع والاحتكام الى الشعب، لاستطلاعه والوقوف على توجّهاته في مثل هذه الأمور المصيرية.
ج ــ ولا بد من الإشارة هنا الى ان الإدارة الأميركية دأبت منذ فترة على اعتماد نهج التحريك الشعبي في إطار استراتيجيا خاصة بها أطلقت عليها تسميات تتركز على نوع من الفوضى البنّاءة والخلّاقة، بقصد تدجين الأنظمة الخارجة على إرادتها وهيمنتها، وهو نهج أثبت جدواه في بولندا، ثم في دول أخرى، كأوكرانيا، وفشل في بعض أخرى منها، كما حدث في جمهورية بلاروسيا (روسيا البيضاء) أخيراً.
د ــ إن الأحداث المتراكمة مدى سنة ونصف سنة، وعجز الحكومة القائمة عن المعالجة واستئثارها بصياغة القرار ، فضلاً عن التداعيات التي أحدثها العدوان الاسرائيلي خلال الصيف المنصرم، والاندفاع الذي أبداه العالم الغربي، بقيادة وإدارة وإرادة أميركية جامحة، في التحريض وإطلاق المواقف المتشنّجة، وانقلاب التحالفات السياسية، وحملة الاغتيالات التي حصلت من دون الوقوف على أسبابها الحقيقية ، وتجاوزها بخفة، من دون تحقيق جدّي ورصين، كل هذه الأمور حملت القوى المناهضة للحكومة على التحرك على غير صعيد، فاستقال ستة وزراء، منهم خمسة يمثّلون طائفة أساسية ومركزية بأكملها، سياسياً وعقائدياً وشعبياً وجماهيراً، وأتبعت الاستقالة بتحرك شعبي واسع جمع شرائح مختلفة الانتماءات الدينية والمذهبية والجغرافية والسياسية وحتى العقائدية، ولا يزال التحرك الشعبي في أوجه، مستمراً ومتواصلاً حتى حدوث تغيير حكومي وإحداث تبديل في الأدوار والنهج.
* خبير قانوني