زياد سعيد
ليس في لبنان إلا الأزمات، وازدهارها أمر محسوم، ومرادف لازدهار القطاع المصرفي، الذي وللغرابة يستمر وحيداً في جني الأرباح ومفاقمتها. ليست الأزمات في لبنان كمثيلاتها في البلدان الأخرى، حيث تتكفل القوانين إيجاد المخارج أو اختراعها. أما في لبنان فإن للأزمات آليات اشتغال خاصة، تجعلها، هي الأخرى، فريدة في بابها.
في لبنان، الأزمة الواحدة تستولد أزمة أكبر وأشد. وإذا ما قيّض لأزمة أن تنتهي، فإنها تنتهي الى نوع جديد يسمى اصطلاحاً «تسوية»، هي في حقيقتها أزمة أشد وأدهى. ولكثرة الأزمات وشدة تواليها يمكن الاستنتاج أنها القاعدة التي تحكم كل مفاصل الاجتماع اللبناني «العريق». والأرجح انها ستبقى سيدة هذا الاجتماع. والتدقيق يظهر ان التاريخ اللبناني هو تاريخ أزمات. واللافت أنها بمعظمها، كبيرة كانت أو صغيرة، تتسم بقوة زلزالية تملك ان تهدد المرتكزات التي تؤسس للكيان.
أزمة اليوم، الناتجة من ممارسات الفريق السياسي الحاكم، والطابع الاستئثاري والتسلطي الفج لهذه الممارسات، هي في جوهرها استعادات باهتة للأدوار نفسها التي سبق للطبقة السياسية نفسها ان مارستها في العهود المنصرمة، ما يؤكد حقيقة معروفة، قوامها استعداد هذه الطبقة الدائم لإطاحة البلد وفكرته حين يلوح ما يهدد مصالحها. التجييش المذهبي الرخيص والمقيت الذي تلجأ إليه حكومة فؤاد السنيورة دليل على مستوى هذا الفريق ونوعيته.
من دواعي الأسف ان الصراع الدائر اليوم لا يمس في عناوينه ولا في مضامينه شبكات المصالح الراسخة، ولا يهدد قبضة الطبقة السياسية، وانتصار المعارضة لن يغيّر شيئاً في الأسس المفاهيمية أو التكوينية المقيدة لهذا النظام المتخلف، إذ القيمة الوحيدة لانتصار المعارضة تنحصر في منع إسقاط البلد في الحضن الأميركي واستخدامه قاعدة إضافية في حرب السيطرة على المنطقة ومواردها.
الأمر الجلي والواضح هو عمق العجز الداخلي عن إنتاج الحلول أو المخارج، وفي هذا العجز تكمن الإشارات المعبّرة التي تتجاوز الأزمة الراهنة لتشير إلى عجز بنيوي أصيل ملازم لاجتماع سياسي، لا يحسن غير إنتاج الأزمات، ما يوجب إعادة النظر في مجمل هذا الاختراع. يدخل تحرك المعارضة أسبوعه الثالث. التدقيق المحايد في المواقف التي سبقت هذا النزول أو تلته يكشف أنه لا جديد لدى السلطة غير المزيد من المناورات والمزيد من التعنّت. سقوط المبادرات العربية المتتالية، يكشف عن أن النية معقودة حصراً على تبديد الوقت. تبديد الوقت، وكذلك الفرص، هو البرنامج السياسي الوحيد الواضح، وكل ما عدا ذلك أوهام في أوهام، ويغيب عن أهل السلطة أن المراهنة المعقودة اليوم على «الفتنة» لن تكون بأفضل من المراهنة التي سبق أن عقدتها على العدوان الاسرائيلي. إننا بإزاء سلطة لا تجيد إلا الرهانات، والرهانات الخاسرة تحديداً.
من المؤكد أن الشارع، ونعني بالشارع الرأي العام، لم يعد إلى جانب السلطة، والأرجح أنه لم يكن يوماً كذلك. الشارع كان ولا يزال ضد الممارسات والأخطاء التي ارتكبت طوال السنوات الماضية. تبنّي قوى السلطة لمزاج الشارع يومها، جعله يبدو الى جانبها لكنه في الحقيقة لم يكن كذلك. قذارة المعركة التي تهدد البلد هي من قذارة الفريق السياسي الذي يلوّح بها، المحاولات الحثيثة الى نقل المعركة من مستواها السياسي الى المستوى القذر الذي يمثّله المستوى المذهبي برهان إضافي على وضاعة هذا الفريق الذي كبّد البلد ما لا طاقة له عليه. الأفق السياسي المسدود نتيجة إصرار «أكثري» واضح على سياسات بعينها لن يبقى كذلك، الشارع قال كلمة فاصلة، وحسم الأمر باستحالة التراجع عن مطلب المشاركة. الواقع أن الأزمة هي السلاح السلطوي المعتاد الذي يشهر في وجه أي مطلب سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي قد ينطوي على ما هو تقدمي أو ديموقراطي، وسيبقى الأمر كذلك سواء انتصرت المعارضة أو انهزمت السلطة.