علي الشامي *
يبدو أن أزمة الحكومة اللبـــنانية الراهنة قد حولت لبنان الى مركز ثقل جديد في منطقة الشرق الأوسط، بحيث لا تشرق الشمس كل يوم إلا مصحوبة بسيل من مواقف وتصريحات تجدد يومياً الدعم والتأييد لحكومة لبنان وفريقها الحاكم، بصرف النظر عن واقعها المشكوك في شـرعيته الدستورية والميثاقية وبموازين القوى الداخلية. وبقدر ما يرى الفريق الحاكم الى هذا الدعم الدولي والعربي والاسرائيلي بما هو دلالة على أهمية لــــــــــــبنان ودوره، يجسّد الدعم نفسه واقع لبـــــــــــــنان الفعلي بما هو ساحة للمــــــــنازعات الدولية والاقليمية، تنطلق منه الى قضايا تتجاوزه في أبعادها الاستراتيجية ومصالحها السياسية والاقتصادية. وهذا يعني ان الدعم المعلن وبشكل يومي لا يستهدف الأزمة اللبنانية كحالة قائمة بذاتها، وإنما يؤكد مدى ترابطها وتجسيدها حالات أخرى أكثر أهمية وحساسية.
وفي هذا السياق تندرج التصريحات الاميركية حيث يتكرر الدعم الاميركي وعلى جميع مستويات الإدارة، والتي تحذو حذوها تصريحات أوروبية وأخرى تصدر عن محور «الاعتدال» العربي، من دون ان نغفل الانحياز الاسرائيلي الرسمي والإعلامي الى جانب حكومة السنيورة. بيد ان ما يربط هذه التصريحات، على رغم ما بين أصحابها من تباين في حدود الدعم وحجم المصالح، يبقى القرار الاميركي الحاسم الذي يرى الى إسقاط الحكومة أو مجرد تنازل أمام مطلب المشاركة الحقيقية في القرار السياسي بما هو مقدمة لخسارة واحدة من أهم أوراق التفاوض مع المحور المناوئ للاستراتيجيا الاميركية في عموم المنطقة. فإذا كانت المواقف الاميركية اليومية تكرر الدعم والتأييد، فإن تصريح وزيرة الخارجية الاميركية لوكالة «فرانس برس» كان الأكثر تعبيراً عن أهمية إبقاء الأزمة اللبنانية ورقة بيد الديبلوماسية الاميركية وإن كانت كلمات ومفردات التصريح تشير الى عكس ما هو كامن في فنون المناورات الإعلامية. فالوزيرة الاميركية تنطلق من مسلّمة مفادها ان مستقبل لبنان غير قابل للتفاوض مع سوريا مقابل الأمن في العراق، ولا مع ايران مقابل العراق والملف النووي الايراني. ففيما يأتي دعمها «القوي» لحكومة السنيورة رداً على محاولات سورية ـــ ايرانية لتعديل شروط اللعبة الداخلية اللبنانية، لا يخفي هذا الدعم حقيقة ان الأزمة اللبنانية قد أصبحت محور تجاذب بين هذين المحورين. تقول الوزيرة الاميركية في تصريح مسهب ما يلي: «يجب ان يدرك أصدقاؤنا في الشرق الأوسط والقوى الديموقراطية التي تواجه مصاعب مثل رئيس الحكومة اللبنانية السنيورة وائتلاف الرابع عشر من آذار في لبنان، أننا مثل بقية الأسرة الدولية، ندعم في شكل تام وكامل كما ندعم أهدافهم وشرعيتهم... من غير الوارد ان تصل الولايات المتحدة الى وضع يمكن ان تتصور في ظله سوريا أو ايران ان من الممكن المساومة على مستقبل لبنان لقاء مصالح اميركية أخرى...». لكن من يقرأ بين سطور هذا التصريح، الذي نقلنا منه أهم ما فيه، لا يلاحظ فقط مصاعب الحكومة المدعومة أميركياً، بل أيضاً موقع لبنان في سياق المراجعة الاميركية المتوقعة لسياسة الادارة الحالية تجاه المنطقة وعلى رأسها ما بات معروفاً بتوصيات لجنة بيكر ــ هاملتون عن تصويب السياسة الخارجية نحو إضفاء المزيد من الواقعية السياسية بدل الاستمرار في استراتيجيا الحروب الاستباقية وإملاء الشروط بواسطة الاستخدام المفرط للقوة العسكرية.
وهذا يعني ان تصريح رأس الهرم الديبلوماسي الاميركي قد يكون موجّهاً ضد توصيات لجنة العراق أكثر مما هو من ثوابت الدعم لفريق لبناني. وفي كل الأحوال، فإن المجاهرة بعدم المساومة على مستقبل لبنان تؤكد ان مستقبل لبنان بالتحديد قد دخل دائرة التفاوض والمساومة بين وجهات النظر الاميركية الرسمية المؤيدة لتوصيات اللجنة المذكورة وتلك الرافضة لها. بيد ان ما يعني الشأن اللبناني في هذا السياق، ليس الإصرار على عدم المساومة، بقدر ما هو وضع لبنان الفعلي في المراجعة الاميركية التي دأب الإعلام الاميركي على إظهارها كأول بند على جدول إعادة النظر في السياسة الخارجية الاميركية، انطلاقاً من العراق وليس من لبنان أي إعادة ربط لبنان بأزمات المنطقة، وليس النظر إليه معزولاً عنها، فريداً في مأزقه وهمومه. وكما تدلّ التجارب السابقة، فإن لبنان كان دائماً، ولا يزال، بالنسبة إلى الولايات المتحدة الاميركية مساحة تختبر فيها موازين القوى بينها وبين معارضيها في المنطقة وليس في لبنان، وكان دائماً أيضاً الساحة التي تنقل إليها الإدارة الاميركية الصراعات الفعلية حيث لا تريد مواجهات مباشرة. وبالتالي، فان مأزق لبنان الحقيقي يكمن في إصرار الولايات المتحدة الاميركية على تحميل لبنان أوزار الصراع المحتدم في الشرق الأوسط، آملةً من خلال لبنان تمرير سياستها ومصالحها من دون مواجهة مباشرة مع أي محور إقليمي أو دولي آخر.
وهذا بالتحديد جوهر توصيات لجنة بيكر ـــ هاملتون. فالعراق يشكل، الآن، مركز الاستراتيجيا الاميركية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، وأي خلل يصيب هذه الاستراتيجيا في مركزها الاقليمي، ينذر بتداعيات لا يمكن وقفها. ففي العراق تجتمع أهداف اميركية ثلاثية الأضلاع: هدف يحدد مآل المنازعات الاميركية الداخلية، وهدف يحدد قدرة القطب الواحد على فرض شروطه على الأقطاب الأخرى الفاعلة في تدبير السياسة الدولية، وهدف يرتبط بمتغيرات متسارعة في الشرق الأوسط نفسه، وتحديداً لجهة حلفاء الولايات المتحدة الاميركية في المنطقة بدءاً بإسرائيل وصولاً الى الدول العربية المتحالفة معها. وعطفاً على هذه الأهداف، ينبغي وضع العراق في سياق استراتيجي آخر يتعلق بالهيمنة الاميركية على القرار الدولي وعلى مصادر الطاقة وكيفية تطويق كل منافسة إقليمية أو دولية تنطلق من المأزق الاميركي في العراق بهدف إعادة ترتيب موازين القوى الدولية.
وفي هذا السياق يصبح لبنان وحكومته المأزومة تفصيلاً صغيراً في استراتيجيا أكثر شمولية وعلى المستويات كافة. وبالتالي فإن المراجعة الاميركية المتوقعة تبقي لبنان في وضعية الساحة لا المركز أو الهدف القائم بذاته، فالتوصية التي تطالب بإجراء مفاوضات مع سوريا وإيران إنما تطالب بذلك من أجل إعطاء دفع للمصالح الأميركية ما يضمن توفيرها واستمرارها انطلاقاً من العراق. وعليه، تستبطن التوصية هذه وغيرها، ضرورة المساومة في مواقع النزاعات الأخرى، في فلسطين ولبنان وسوريا وايران. وما الحديث عن ضرورة ايجاد تسوية سريعة ومعقولة للصراع العربي ـــ الاسرائيلي يكفل قيام الدولتين والانسحاب من الجولان سوى مؤشر الى واقعية المساومة والتنازل، ما يستتبع ذلك من مساس بمصلحة الحليف الأقوى للولايات المتحدة في المنطقة، اسرائيل. وما الحديث عن إشراك سوريا وايران في معالجة قضايا الأمن والسلطة في العراق سوى انكشاف لعجز الأحادية الاميركية عن إدارة الشأن العراقي معطوفاً على عجز الدول العربية الداعمة لهذا الاحتلال الاميركي. فإذا كانت الاستراتيجيا الاميركية تعتبر العراق نقطة ارتكازها، فهذا يعني انها سوف تساوم على قضايا أخرى مع هاتين الدولتين، مساومة تحفظ لها نقطة الارتكاز الأساسية ومعها جملة المصالح المتحققة انطلاقاً منها، وما تبقى يصبح داخلاً في لعبة التفاوض والمساومة.
قد تصطدم هذه المراجعة بعراقيل اميركية داخلية، وعلى رأسها أقطاب شركات النفط وصناعة الأسلحة وقوى الضغط اليهودية، وعراقيل خارجية وعلى رأسها الدول الملتصقة بالاستراتيجيا الاميركية والمناوئة لسوريا وايران، بيد ان هذه العراقيل قد لا تصمد طويلاً أمام الواقعية السياسية المقترحة التي تخطط لضمان المصالح الاستراتيجية نفسها، بين ان تكون مصالح تتدفق من خلال الاستقرار ومصالح تبقى رهينة المنازعات والمنافسات الإقليمية والدولية. وعندما يقول وزير الدفاع الجديد، روبرت غيتس، ان المهم ليس الديموقراطية وإنما الاستقرار، فهذا يعني ان أنشودة الديموقراطية اللبنانية وثورة الأرز والدعم المطلق لحكومة السنيورة، تبقى كلها مشدودة الى حبل صرّتها الاميركي الذي أصبح ميالاً إلى اختيار استقرار المصالح على ديموقراطيات لا تغني ولا تسمن، في المفهوم الاميركي.
وعليه، فإن حصة لبنان في المراجعة الاميركية، إذا ما تحققت، سوف تعود الى أصلها وفصلها في فنون الديبلوماسية الاميركية المعهودة، التي اعتادت توفير مصالحها من خلال تحميل الفاتورة لحلفائها، وللأصغر بينهم تحديداً، وبينما تشدد التصريحات العلنية على إرادة اميركية لعدم المساومة على مستقبل لبنان، فإن التشديد نفسه ينبغي ان يثير ارتياب الفريق الحاكم: فما هي المصالح العليا التي تجعل من هذه المساومة أكثر أهمية من نفط العراق وأمن اسرائيل والملف النووي... أي باختصار، ان وضع لبنان بالمقارنة مع نقاط النزاع الأخرى بين المحاور الإقليمية والدولية، لا تجعل منه مجرد ساحة للنزاع المذكور فحسب، بل أيضاً ساحة للمساومة. هكذا كان، ويبدو انه كذلك سيبقى حتى إشعار آخر...
* باحث وأستاذ جامعي