قاسم عز الدين *
يحلو لقوى الاعتدال العربي، من سياسيين ومثقفين وإعلاميين أن تبرر خياراتها بتبنّي ما تنقله إليها الثقافة السياسية في الدول الصناعية، وهي ثقافة مشغولة في مراكز الأبحاث والاتصالات وما يسمى المؤسسات الدولية، تجتهد قوى الاعتدال في اقتباسها ولا سيما في شأن ما تسميه محور الشر الإيراني. ترى الأمور في بلادها تجري مجرى «حسناً بعد طول شدة لولا التدخل الخارجي الفارسي بخطره على العرق العربي وعلى عصبية مذاهبه». فنجاح عملية السلام بالمفاوضات هو قاب قوسين أو أدنى، والجهود من أجل الأمن والاستقرار التي يبذلها أولياء الأمر في «المجتمع الدولي» تبشّر بفأل حسن وبوافر الازدهار وبفرص العمل القادمة من وراء البحار وتنتظر إشارة الأمان للدخول الى البر العربي... لكن محور الشر يأبى بطبعه الاستبدادي المتعصّب تدفّق النعم على بني يعرب فيثير القلاقل ويستغل «ضعاف النفوس» في توتير العصبيات من أجل غايات لا شأن فيها لبني جلدتنا كالملف النووي وخروج ايران على «المجتمع الدولي». تتناسى قوى الاعتدال انها حكمت البلاد وجعلتها أثراً بعد عين وانها في تبنّيها خيارات «المجتمع الدولي» وثقافته السياسية، تزيد أمور المجتمعات خراباً على خراب.
في المقلب الآخر، يحلو لقوى الاحتجاج تضخيم حجم قدرة الممانعة بتغيير الثقافة السياسية المنقولة لقوى الاعتدال العربي من الدول الصناعية، فتعيب على خصمها المحلي ــ الاقليمي «تلاقي المصالح» ولا تتكبد مشقة كبيرة في رفض «مشروع الشرق الأوسط الكبير ــ الجديد»، أو التنديد «بالفوضى الخلاقة» وانحياز الدول الصناعية الى اسرائيل. لكنها بممانعتها تأمل التغلب على خيارات خصمها المحلي ــ الاقليمي بتلاقي مصالح وخيارات سياسية جديدة بين حلفها والمحور التائه في العراق وفلسطين ولبنان. وها هو تقرير بيكر ــ هاملتون يحمل إليها بشارات مشجعة فضلاً عن بعض التصريحات والمباحثات «السرية». الثابت في هذا الواقع السياسي محور واحد هو محور الدول الصناعية «والمجتمع الدولي»، والمتحوّل هو أحلاف ومتفرقات محلية ــ اقليمية تدور حول محور وحيد: حلف معتدل يتبنى ثقافته السياسية وما يسميه «تلاقي المصالح»، وحلف آخر يقارع ثقافته السياسية من أجل تلاقي مصالح وخيارات سياسية جديدة من غير ثقافة سياسية بديلة. هو مجرد رد فعل يأمل تعديل المصالح والخيارات بالممانعة ولم يبلغ طموحه السعي إلى انشاء محور بديل، فالمحور يقوم على استراتيجيا ورؤية سياسية وعلى تشابك المصالح ولا يقوم على ردود الأفعال والاحتجاج والممانعة. يأمل هذا الحلف إقامة حواجز الممانعة أمام زحف الدول الصناعية على المجتمعات الضعيفة ويراهن على تراجع خيارات خصمه المحلي ــ الاقليمي بالسياسة من فوق، لكنه يتآلف مع القواعد التي تقيمها الدول الصناعية لزيادة تخريب المجتمعات الضعيفة من تحت (اقتصاد الريع، تحويل المرافق العامة الى سلع تجارية، تصدير الزراعة المشبعة بالمياه وتلويث الأرض بالكيماويات، هدر الحقوق الاجتماعية وهي أساس في هدر الحقوق الوطنية...). إنه مثل خصمه المحلي ــ الاقليمي يتوهم امكانية تلاقي المصالح (الوطنية) مع الدول الصناعية من دون تغيير أسباب التبعية في قواعد التبادل الاقتصادي ــ الاجتماعي ومن دون تطوير المشترك بين المصالح الاقتصادية ــ الاجتماعية في المحيط الإقليمي على أساس تغيير السياسات المحلية والوطنية. وفي حقيقة الأمر يتلاقى حلف الاحتجاج العربي مع خصمه المحلي ــ الاقليمي في فصل السياسة عن أحوال المعاش وعن حراك القوى الاجتماعية من أجل حقوقها الفئوية والعامة، وفي فصلها عن إعادة بناء الدولة الوطنية ضمن بناء المحيط الاقليمي على أساس تبادل المنفعة وتبادل النفوذ شرطاً ضرورياً لتبادل المصالح مع الدول الصناعية. فالقوى السياسية في حلف الاحتجاج وحلف الاعتدال متشبّعة بثقافة سياسية عمومية بشأن ما تسميه المصلحة الوطنية وهي في حقيقتها مصالح سياسية متحركة ومؤقتة تفيد القوى السياسية وحدها ولا تغيّر في أسباب انهيار المجتمعات وفي قواعد تهميشها، ومشبعة أيضاً بأوهام بناء المصلحة الوطنية في علاقات ثنائية (ودعم أخوي) بدل بنائها من الأعلى في المحيط الاقليمي، عبر تخلّي كل رقعة جغرافية عن بعض سيادتها لمصلحة السيادة المشتركة. ومغبّة الأمر الواقع هو في تخلّيها عن كل سيادتها لمصلحة زحف الدول الصناعية على سيادة الدول الضعيفة. والحاصل ان الدول الصناعية زحفت على البلدان العربية ــ من تحت وفككت البنى الاجتماعية ــ طوال عقود «الانفتاح» بإشراف البنك الدولي ومؤسسات «المجتمع الدولي» وزحفت عليها من فوق فوضعت يدها على السياسات الخارجية والدفاعية والاقتصادية ــ الاجتماعية. وقد استخدمت في سبيل توسع مصالحها كل الوسائل الطبيعية في حماية مصالحها الوطنية من استراتيجيات عسكرية ــ أمنية وحرب ثقافية وسياسات ومنظومة فكرية متكاملة وبات «الشرق الأوسط الكبير ــ الجديد» واقعاً حقيقياً لا تغيّر فيه الكثير توصيات بيكر ــ هاملتون أو غيرها (إذا ما أُخذ بها!)، إنما توسّع رقعة التشابك السياسي مع قوى الممانعة بانتظار ولادة قوى ممانعة أخرى يخلقها خراب المجتمعات وسياسات إدارتها. لقد أنجزت الدول الصناعية احتلال الفراغ العربي الذي قدمته قوى الاعتدال بتخلّيها عن المصلحة الوطنية بتلاقي مصالحها التجارية والمالية مع الدول الصناعية وشركاتها، وقد جذب هذا الفراغ توسع النفوذ الايراني وسيجذب توسع نفوذ دول اقليمية أخرى مثل تركيا وباكستان وبعدها الهند والصين وكل الدول المتضررة من احتكار الدول الصناعية للنفط والطاقة العربية والقواعد العسكرية والنفوذ، فتوسّع النفوذ الايراني في الأراضي العربية بجذبه احتلال الدول الصناعية للفراغ العربي وهو منطلق لها في احتلال فراغات أخرى في ايران وغيرها من البلدان القريبة والبعيدة، الأمر الذي يحث هذه البلدان على الدفاع عن مصالحها الوطنية في الفراغ العربي بمواجهة نفوذ وتوسع مصالح الدول الصناعية، والحال هذه لا تستطيع قوى الاعتدال العربي ان ترى الديك حماراً في النفوذ الايراني وتتغافل عن جريرتها في حرب معلنة من أراضيها على ايران والدول اللاحقة. كما لا تستطيع بالمقابل قوى الاحتجاج والممانعة تبرير توسع النفوذ الايراني دفاعاً عن مصالحه الوطنية في الأراضي العربية من دون ان تأخذ ايران المصالح الوطنية العربية بعين الاعتبار، وهي مصالح تتجاوز دعم المقاومة وعلاقات الصداقة الى إعادة البناء المشترك في المحيط الاقليمي على أساس تبادل المنفعة وتبادل النفوذ في رؤية استراتيجية وسياسية مشتركة ومتكافئة. فهذه الرؤية المشتركة إن لم تحملها قوى الاعتدال العربي لتلاقي مصالحها التجارية والمالية مع الدول الصناعية، يمكن ان تحملها المقاومة في العراق وفلسطين ولبنان دفاعاً عن تدعيم خياراتها، لكنها ليست شأناً خاصاً بالمقاومة التي تحمل أعباءً فوق طاقتها إنما هي أولاً وأخيراً وظيفة القوى السياسية (الممانعة) في توسيع المقاومة الى بنى المجتمعات لكن على أساس مشروع بديل تتلاقى فيه المصالح الوطنية بالحقوق الاجتماعية والسياسية والحقوق المدنية.
*كاتب لبناني