بولس الخوري *
لمناسبة اليوم العالميّ للسلام الواقع فيه أوّل كانون الثاني 2007.
ربّما كان السلام أخطر التحدّيات التي قد تواجهها الدول والشعوب. فالعيش وفقاً لمنطق السلام يفوق صعوبةً بما لا يُحدّ العيشَ وفقاً لمنطق الحرب. ذلك أنّ السلام يتطلّب جهداً مستمراً للتغلّب على العوامل النفسيّة والاجتماعيّة التي تدفع البشر إلى تلبية نزعتهم الطبيعيّة إلى التصارع في سبيل السيطرة والاقتناء. يقولون في الإنسان إنّه حيوان ناطق، أي أنّه مركّب من أهواء وغرائز تربطه بالعالم الماديّ ، ومن عقلٍ يربطه بالعالم الروحيّ. فيتيه الإنسان عندئذٍ في الخُيَلاء، متوهِّماً تفوّقه المطلق على العالم الحيوانيّ، فيما هو، في واقع أمره، غالباً ما يكون عقلُه مجرّدَ أداةٍ لإشباع غرائزه الحيوانيّة.
حيوانيّة البشر
من حيث المبدأ، لا داعي لتحقير الحيوانيّة أو لتحقير الإنسان بحجّة حيــوانيّته. ذلك أنّ الحيوانيّة بحدّ ذاتها أمرٌ طبيعيّ، وأنّ الحيوانيّة في الإنسان عنصرٌ جـــــــــــوهريّ من عناصر فطرته. فلا حرج في ذلك إذا ما تـــــــــوازن في الإنسان العنصر الحيوانيّ والعنصر العقليّ. لكن إذا ما اختلّ التوازن وتغلّب الحيوانيّ على العقليّ، عندئذٍ يفقد الإنسان إنسانيّته، كما أنّه يفقدها إذا ما حاول أن يعيش عقلاً محضاً مجرّداً من الحيوانيّة.
وقد نشاهد أنّ العلاقـــــــــــات بين بني البشر، أفراداً وجماعاتٍ، قائمةٌ علــــــــى منطق الصراع والقوّة. صحيحٌ أنّ شيئاً من العـــــــــــدوانيّة أمرٌ طبيعيّ، بل ضروريٌّ للعيش وللتعامل مع البيئة الطبيعيّة ومع البيئة الاجتماعيّة، إلاّ أنّ الناس غالباً ما يتحوّلون من العدوانيّة الفطــــــــــريّة إلى العنف والخصومة في سبيل السيطرة والامتلاك. وهذا ممّا يضع الجميع في حالةٍ مستمرّة من القلق وفقدان الطمأنيـــــــــــنة. هذا ما يسمّيه داروين بقانون الصراع في سبـــــــــيل البقاء، وقـــــــــانون بقاء الأفضل أي الأقوى.
موقف المثاليّة الأخلاقيّة
في مواجهة مثل هذه العدوانيّة الصراعيّة العنفيّة، تقف المثاليّة الأخلاقيّة موقف الرفض المطلق. ذلك أنّها ترى في هذه العدوانيّة انتقاصاً للقيَم الإنسانيّة، بل انتفاءً للإنسانيّة في جوهرها وماهيّتها الأصيلة. ليس بالعنف يتحدّد الإنسان، بل بالعقل وما يُرشد إليه العقل من احترامٍ للكرامة الإنسانيّة. العنف ينطوي على نظرةٍ إلى الإنسان كأنّه شيء، لا كأنّه شخصٌ زيّنه العقل وشدّته إليها القيَم المثلى. لذا كان من متطلّبات الإنسانيّة إحلال السلام بين بني البشر، بنبذ الدوافع الغريزيّة وتحكيم العقل القاضي بالعدل وإحقاق الحقّ.
موقف الواقعيّة
تنطلق الواقعيّة من رفض التطرّف الحيوانيّ والتطرّف المثاليّ.
لكنّها تُبقي على شيءٍ من ميزات الحيوانيّة وعلى شيءٍ من ميزات المثاليّة، بحيث تكون وسطاً وتوازنًا، وإدراكاً للممكن، وتكيّفاً مع متطلّبات المثُل الأخلاقيّة ومع الحدود التي تفرضها ظروف الحياة، في آن.
تطبيقاً لهذه الواقعيّة في المجال السياسيّ، ابتدع الاختصاصيّون في الجغرافية السياسيّة أو السياسة الجغرافيّة (géopolitique) اللفظة الألمانيّة (Realpolitik) أي السياسة الواقعيّة أو الواقعيّة السياسيّة. في هذا المنظور تبدو العبارة المألوفة القائلة بالسلام القائم على العدل شاملةً لأمرين ينتميان في جوهرهما إلى عالم المثُل. هذا لا يعني أنّ علينا الإعراض عن السلام والعدل إعراضنا عن الأوهام. المثال ليس وهماً، بل هو ما ينبــــــــغي التمثّل به، أي السعي إلى تحقيقه وتحويله واقعاً. إلاّ أنّ المثال لا يتحقّق إلاّ تدريجاً، يوماً بعد يوم، وبقرارٍ يحكم بعدم الانصياع للأهواء والغرائز، بل بإخضاع الغرائز والأهواء لتوجيه العقل، بحيث تجهد قوّة الغرائز والأهواء في سبيل تحقيق المثال. علماً بأنّ المثال بما هو مثال يستحيل تحويله بالكلّيّة واقعاً، كما يستحيل حصر اللامحـدود ضمن الواقع المحدود.
فإذا عدنا إلى موضوع السلام القائم على العدل، استخلصنا من الواقعيّة السياسيّة العبَر الآتية: التخلّي عن موقف المثاليّة الأخلاقيّة، بمعنى عدم التمسّك بحرفيّة الحقوق المشروعة والشرعيّة الدوليّة. فالحرف بحدّ ذاته لا قوّة له ولا يحرّك القوى. فهو إذن وهمٌ يتعلّق به الضعيف المُشرف على الغرق تعلّقاً شبه مرَضيّ. في المعترك السياسيّ، وحده الموقف العمليّ والواقعيّ قد يُؤتي ثماره، بمعنى أنّ الحقّ تمنحه الفاعليّة لا النصوص المدوَّنة.
ولمّا كانت الآراء حول الحقوق غالباً ما تتضارب، بات محتَّماً اللجوء إلى التسوية السلميّة، القــــــاضية بأن يقيم كلّ طرفٍ وزناً لمصلحة الطرف الآخر، طلباً للتوافق على ما يجب اعتباره مصلـــــــــــحةً حيويّةً لكلّ طرف، بحيث تتحوّل المصلحة المُعترف بها حقاً مشروعًا. علماً بأنّ الحقّ يتغيّر بتغيّر المصالح، وأنّ المصالح تتـــــــــــغيّر بـــــــتغيّر الظروف الاجتماعيّة والتاريخيّة. هذا ما يقضي به التعقّل السياسيّ، تحاشياً للعودة إلى شريعة الغاب، وطلباً لأنسَنة عالم الإنسان.
* كاتب لبناني