عصام نعمان *
من «مؤتمر الحوار الوطني» في الربيع إلى «مؤتمر التشاور السياسي» في الخريف يحاول أركان النظام الطوائفي اللبناني إيجاد مخارج ملائمة من الأزمة المستفحلة التي تعصف بالبلاد منذ اغتيال رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري. المتحاورون في الربيع هم أنفسهم المتشاورون في الخريف، غالبيتهم نواب مشترعون. وكان الأمين العام لحزب الله وقائد المقاومة اللبنانية السيد حسن نصر الله قد أعلن، قبل أسبوعين، أن المعارضة ستجد نفسها مضطرةً إلى النزول إلى الشارع إذا أخفق المتشاورون في التفاهم على مخارج ملائمة من الأزمة المستعصية. هل يعوّض الشارع إذا ما أخفق المشترع؟
أحد أركان الائتلاف الحاكم من «قوى 14 آذار»، سعد الحريري، ردّ على السيد نصر الله: «شارع بشارع وتعبئة بتعبئة، والبادىء أظلم»! قادة الرأي والفعاليات السياسية انقسموا بين داعين إلى تفادي الاحتكام إلى الشارع ومؤيدين لذلك جهراً أو سراً. لعلني كنتُ أول من قدّم مقاربة مغايرة في هذا السبيل. فقد دعوتُ رئيس الحكومة فؤاد السنيورة إلى ان يقوم، بلا إبطاء، بوضع دراسة تقديرية للكلفة السياسية والاقتصادية والأمنية المترتبة على خيار النزول إلى الشارع، حتى إذا وجد انه أكبر وأبهظ كلفةً من مطلب المعارضة (تأليف حكومة وحدة وطنية) سارع إلى مصارحة متعهديه من «قوى 14 آذار» بالاستجابة لمطلب المعارضة لأنه أدنى ثمناً وأسلم سياسياً وأمنياً.
الدلائل، في معظمها، تشير إلى ان التشاور مرشح لإخفاقٍ مرجّح لأسباب عدّة أبرزها ثلاثة: الأول، أنه لا صفـة تمثيلية شرعية للمتشاورين. فالنواب بينهم من فاز في انتخابات مثيرة للجدل بل مطعون في صحتها من طرف المعارضة، إلى كونها انطوت على تحالفات سياسية انهارت خـلال أشهر معدودة بعد إجرائها، فأضحى حلفاء الأمس أعداء اليوم. الثاني، أن النواب المنتخبين في حمأة فورة سياسية وعصبية أعقبت اغتيال الرئيس الحريري لا يملكون اليوم تفويضاً بمعالجة قضايا ساخنة وشائكة لم تكن حاضرة في معركة الانتخابات في ربيع عام 2005. فلا الحرب الإسرائيلية العدوانية وذيولها كانت قد وقعت، ولا التحديات والمواجهات والمطالبات الناجمة منها كانت حاضرة، كما هي اليوم، في برامج القوى المتنافسة والمتصارعة أو محل مناقشة هادفة بينها. الثالث، أن لبنان أضحى، كما كان دائماً، ساحة صراع وتجاذب شديدين بين قوى إقليمية ودولية نافذة وقادرة على توظيف تناقضاته الطوائفية لأغراضها السياسية والاستراتيجية والأمنية، وسط غياب مدوٍ للوحدة الوطنية في أوساط الاجتماع السياسي اللبناني المأزوم.
في وضع، كما الوضع الراهن، مشحون بشتى المخاطر والتحديات والاحتمالات، لا يستطيع اللاعبون المتشاورون المطعون في شرعيتهم والمشكوك في قدرتهم، إيجاد حلولٍ أو مجرد مخارج من الأزمة المستفحلة. أقصى ما يستطيعه هؤلاء التوافقُ على النهج والآليات اللازمة للخروج من الأزمة، وهي على كل حال مهمة مفتاحية وبالغة الأهمية. يقتضي، والحالة هذه، ان تصفو النيات وينعقد العزم على إيثار المصلحة العامة وتقديمها على المصالح الضيقة. انها مهمة شاقة والتزام بالغ الأهمية لم يُؤثَر عن أقطاب الطبقة السياسية التقليدية المتحكّمة انهم نهضوا ووفّوا بهذه المهمة في الماضي بالجدية والإخلاص المطلوبين. لذلك يقف هؤلاء أمام تحدٍ وامتحان خطيرين اليوم وعلى مرأى من اللبنانيين جميعاً، ما يقتضي ان ينهض اللاعبون المتشاورون، ربما وسط ضغوط شعبية متصاعدة، إلى تحقيق نهج وطني ديموقراطي للخروج من الأزمة يتضمن خطوات إصلاحيـة مستحقة وآليات عملية لتحقيقها على النحو الآتي:
أولاً، التوافق على تأليف حكومة وطنية جامعة تضمّ، إلى أطراف المعارضة و«قوى 14 آذار»، ممثلين مقتدرين للقوى الديموقراطية الحية من خارج الطبقة السياسية التقليدية، لتكون الحكومة العتيدة هيئة حوار وطني وسلطة تقريرية إجرائية في آن معاً.
ثانياً، التوافق على أولويات المرحلة الانتقالية المبتدئة بتاريخ تأليف حكومة الوحدة الوطنية والمنتهية بتاريخ انتهاء ولاية رئيس الجمهورية العماد إميل لحود في 22 تشرين الثاني 2007. أهم هذه الأولويات: قانون الانتخاب، المحكمة الخاصة ذات الطابع الدولي لمحاكمة المتهمين باغتيال المغفور له الرئيس رفيق الحريري، مواجهة آثار الحرب الإسرائيلية العدوانية سياسياً وأمنياً وإعمارياً وإجتماعياً، وضع الخطوط العريضة لاستراتيجيا الدفاع الوطني بما في ذلك التنسيق بين المقاومة والجيش، معالجة الاختلالات المالية والاقتصادية الناجمة من الدين العام والسبل الكفيلة بوقف تفاقمه وخفض عجز الخزانة والموازنة ومعالجة غلاء المعيشة وتشجيع المشاريع الاستثمارية لمضاعفة الدخل الوطني.
ثالثاً، التوافق على قانون ديموقراطي عادل للانتخاب قوامه نظام التمثيل النسبي، أو أقلّه المناصفة بين المقاعد النسبية والمقاعد الأكثرية في مجموع المقاعد النيابية.
رابعاً، إجراء الانتخابات النيابية في ربيع عام 2007 في ظل رقابة مؤسسات دولية غير حكومية تعنى بديموقراطية الانتخابات وحقوق الإنسان.
خامساً، انبثاق حكومة وطنية جامعة من المجلس النيابي الجديد، وانتخاب رئيس جمهورية جديد قبل نهاية تشرين الثاني 2007.
إن تعثّر التوافق على النهج الوطني الديموقراطي المطلوب للمرحلة الانتقالية على النحو المبيّن آنفاً يفتح الباب أمام قوى المعارضة للنزول إلى الشارع. فماذا تراها تكون الأشكال التي سيأخذها هذا الخيار والمواقع والأهداف التي سيتناولها؟
إن حساسية الوضع السياسي عموماً وخطورة الوضع الاقتصادي خصوصاً ستدفعان قوى المعارضة إلى توخّي الحيطة والحذر، والتشديد على سلمية التحركات الشعبية وابتعادها عن المراكز والمواقع السياسية والمذهبية الحساسة، ومباشرة النضال المطلبي والاجتماعي قبل التركيز على المطالب الإصلاحية السياسية. ولعل الغاية الأولى المتوخاة من النزول إلى الشارع هي توليد الضغوط الشعبية الكفيلة بحمل الحكومة والقوى السياسية المؤيدة لها على الاقتناع باستحالة الاستئثار بالسلطة وممارستها والقيام بمهماتها بمعزل عن قوى المعارضة ومشاركتها الفاعلة في الحكم. من هنا تنبع أهمية تنظيم التحركات الشعبية الضاغطة ومواصلتها وتصعيدها تدريجاًَ من أجل الوصول إلى الغاية المرتجاة.
في هذا السياق، يستحسن اللجوء بادىء الأمر إلى أسلوب الاعتصام الشعبي الكثيف في مواقع ومفاصل تقود إلى أو تؤثّر في مراكز ومرافق عامة ذات أهمية سياسية وخدماتية، ومنع مسؤوليها من الوصول إليها أو ممارسة مهماتهم فيها أو عبرها. بعد ذلك يصار إلى تصعيد المجابهة بتنظيم اجتماعات شعبية حاشدة في العاصمة والمناطق لتظهير التعاطف الشعبي مع المطالب المطروحة وحشد المزيد من التأييد والدعم الشعبي لقوى المعارضة، على ان يجري تتويجها بمهرجان شعبي حاشد يملأ المشاركون فيه ساحة الشهداء في العاصمة من أقصاها إلى أقصاها. ولا بأس في ان تحذر قيادات المعارضة في هذا المهرجان الحكومة والقوى المساندة لها من ان عدم استجابتها للمطالب المطروحة سيحمل قوى المعارضة والأحزاب والهيئات المتحالفة والمتعاطفة معها على تصعيد حملتها بمباشرة أشكال متطورة من العصيان المدني.
غني عن البيان ان الغاية السياسية القصوى المتوخاة من نزول المعارضة الى الشارع هي التوصل تدريجاً الى «تسوية تاريخية» بين القوى السياسية المتصارعة يكون من شأنها الانتقال بلبنان من نظام كونفدرالية الطوائف المركانتيلي الفاسد إلى الدولة المدنية الديموقراطية القادرة والعادلة المبنية على أساس حكم القانون والمؤسسات وحقوق الإنسان والتنمية المتوازنة الشاملة والمستدامة. وبالنظر إلى جلال هذه المهمة التاريخية من جهة وكلفتها السياسية والاقتصادية العالية من جهة أخرى، فإن الحملة المنظمة من أجل بلوغها وحمايتها وتطويرها يجب ان تبقى متواصلة وذات نَفَس طويل إلى لحظة تحقيق أهدافها العليا.
هل ثمة نهج بديل؟
* وزير سابق