strong>عبد الإله بلقزيز *
سينزعج البعض في منطقتنا العربية ــ ما من شك ــ من نتائج انتخابات مجلسي الكونغرس. في جملة هذا البعض قوى متداخلة المصالح الاقتصادية مع القوى عينها التي جاءت بالجمهوريين الى السلطة قبل ست سنوات. وفي جملته نخب سياسية حاكمة ثبّتت إدارة بوش حكمها المطعون في شرعيته أو المحاصر باعتراض سياسي وشعبي داخلي. كما في جملته «معارضات» عربية من نوع خاص: بعضها عاد الى وطنه على ظهور دبابات الاحتلال فسلمته اميركا «سلطة» على أنقاض دولة ووطن! وبعضها الثاني يأمل ان يعود العودة نفسها رافعاً شارة «النصر» على جثة كيان! أما بعضها الثالث، فركب وهم سياسة «نشر الديموقراطية» التي تراءت له أقصر السبل الى حيازة سلطة أينعت وحان قطافها!
سيصاب هؤلاء جميعاً بذعر شديد لأن إدارتهم ستصبح، منذ الآن، مكتوفة اليدين ويخشى ان لا يعود في وسعها ان تستأنف السياسات نفسها التي فتحت أبواب أمل أمام هؤلاء جميعاً في ان يستفيدوا من ثمرات حروبها على أوطانهم أو من ثمرات ضغوطها على دولهم. يرتفع مستوى الذعر مع السؤال التالي: ماذا لو ان الادارة الجمهورية أجبرت على إعادة النظر في السياسة برمتها إما تحت وطأة ضغط الكونغرس (الديموقراطي) وإما من أجل تهيئة مناخ مصالحة بين الأميركيين و«الحزب الجمهوري» لتحسين صورته في الانتخابات الرئاسية المقبلة بعد سنتين؟ يصل الذعر حينذاك الى يأس شامل. وبعدها من يضمن أن لا يحال «أصدقاء» أميركا هؤلاء على تقاعد؟ ألم تُضحِّ بأفضل منهم ممن قدموا للإدارة أجزل الخدمات: أحمد الجلبي (من بني جلدتهم) ودونالد رامسفيلد: بطل غزواتها؟
في الطرف المقابل، تبدي الكثرة الكاثرة في منطقتنا شعوراً بالارتياح الكبير لنتائج انتخابات الكونغرس، في جملتها أنظمة عربية موالية لأميركا أذلّتها سياسات بوش إذلالاً لا حدود له. وفي جملتها حركات سياسية مناهضة تقليدياً للإمبريالية والهيمنة أو لـ«الاستكبار» رفعت إدارة الجمهوريين منسوب حقدها على السياسة الاميركية. ثم في جملتها شعوب ومجتمعات عربية فقدت مئات الآلاف من أبنائها واستقلال أوطانها في حروب إدارة بوش عليها.
قد يكون من بين المرتاحين من يخامره شعور غامض بأن هزيمة الجمهوريين ستضع فصلاً ختامياً لتراجيديا القتل والحروب والابتزاز السياسي والاستضعاف في ديارنا. وقد يكون في جملتهم من يترجم ارتياحه في صورة تشفٍّ من الجمهوريين. لكنهم في الأحوال كافة مرتاحون الى رؤية رجال البيت الأبيض منكسرين، ماسكين ببقايا ولاية معروضة ــ هذه المرة ــ على رقابة أخصامهم واحتسابهم الشديد عليهم. من لم يشاطر منا هؤلاء المرتاحين ارتياحهم فهو لا يضع نفسه في مواجهة شعبه فحسب، بل في مواجهة الشعب الاميركي نفسه الذي عاقب الإدارة وحزبها. وإذا كان «أصدقاء» أميركا أصدقاء حقاً، فعليهم ان يحترموا إرادة شعبها في إخراج الجمهوريين من السطلة التشريعية قصد تقييد سلطة الرئيس المطلقة. نعرف سلفاً ان الكثرة الكاثرة من «أصدقاء» إدارة بوش لا يحفلون بإرادة الشعب وبما تقوله صناديق الاقتراع في بلدانهم (بدليل انهم يتحالفون مع البيت الأبيض ضد نتائج الاقتراع عندهم). لكننا ننصحهم بأن يحترموا نتائج الاقتراع في أميركا هذه المرة حتى يحتفظوا بـ«صداقتها» إلا اذا كانوا يحسبون التصويت ضد الجمهوريين تصويتاً ضدهم هم أيضاً (وفي هذا هم على حق الى حد كبير).
ما معنى ان يكون المرء مرتاحاً إلى نتائج انتخابات الكونغرس النصفية؟ هل هو سعيد مثلاً بفوز الديموقراطيين؟ قطعاً لا، فلا أحد يراهن عليهم وقد جربناهم أكثر من مرة فلم نتلق منهم إلا اللسع واللدغ، الأصح أن يقال إن مأتى هذه السعادة هو من هزيمة الجمهوريين على وجه الحصر، حتى وإن كان ثمن تلك الهزيمة عودة الديموقراطيين الى صدارة المشهد، إذ لا مهرب من هذا الثمن الفادح لرد الثمن الأفدح . ليس بين القنافذ أملس، فالمسافة بين الديموقراطيين والجمهوريين (مثلما بين العماليين والمحافظين في بريطانيا «العظمى») هي عينها المسافة بين «حزب العمل» و«ليكود» ــ واليوم بين «كاديما» و«إسرائيل بيتنا» ــ في اسرائيل، فلا أوهام. جاء الديموقراطيون الى الكونغرس، وسيأتون غداً الى البيت الأبيض، ولن يتغير شيء كثير في مبادئ السياسة الاميركية: المصالح النفطية، الدعم اللامشروط للكيان الصهيوني، المناهضة الكاملة لسياسات التحرر الوطني ولحركات المقاومة، وأشياء أخرى. غير أنه بين تضاعيف هذه الثوابت العليا ستتغير أشياء كثيرة: النزعة الى الحرب أولها. عقدة العراق تشبه عقدة فيتنام في الضمير الجمعي الاميركي (الانتخابات الأخيرة دليلاً). سوف يتذكر الأميركيون جحيم العراق كلما فكر قادتهم في الحرب مستقبلاً.
الترجمة الفورية لهذا أن بلداناً مثل سوريا وايران وكوريا الشمالية ستخرج سريعاً من دائرة الاستهداف العسكري، التي وضعت فيها، لئلّا يستجرّ العدوان عليها أميركا الى ما جرها إليه عدوانها على العراق. أما المغامرات الحربية الاميركية السابقة، فقد يتأخر موعد العودة عنها بالانسحاب والتراجع الى ما بعد نهاية ولاية جورج بوش الثانية، اذا لم يكن عليها ان تزدرد ما رفضته طويلاً: إعلان جدولة للانسحاب. وقطعاً، ستختفي من المشهد سياسات فرض «الإصلاح» و«الديموقراطية» بالدبابات والأساطيل اذا لم تختف مفرداتها من الخطاب السياسي لمصلحة الاستقرار والتوازن وما في معناها...
أليس خليقاً بالمرء، إذاً، ان يبدي الارتياح إلى هزيمة الجمهوريين من دون ان يستتبعه بالضرورة ارتياح لفوز الديموقراطيين؟
على من يرغب في أخذ موقفنا بجريرة هذه «المفارقة» (بين الارتياح إلى هزيمة الجمهوريين وعدم الارتياح إلى انتصار الديموقراطيين) ان يتذكر أن هزيمة الأوّلين ما كانت بفعل الأخيرين حصراً. فالذين هزموا حزب جورج بوش لهم أسماء أخرى غير أميركية: المقاومة العراقية، المقاومة اللبنانية، المقاومة الفلسطينية. هذه زرعت المأزق، والديموقراطيون حصدوا النتائج.
* استاذ جامعي - المغرب