هنري كيسنجر*
إيران ببرنامجها النووي وثرواتها المهمّة مؤهلة لهيمنة استراتيجيّة على محيطها. واستناداً إلى الدافع الأيديولوجي الشيعي الراديكالي وسياسة الاستخفاف بقرارات مجلس الأمن الدولي، تقوم إيران بتحدي النظام القائم في الشرق الأوسط، وتحاول أن تقف إلى جانب شعوب إسلاميّة تتعرض لهيمنة أكثريّة غير مسلمة.
وقد اقترح الأعضاء الخمسة الدائمون في مجلس الأمن، إضافة إلى ألمانيا، رزمة حوافز لإيران لإنهاء تخصيب اليورانيوم كخطوة أساسيّة لإنهاء برنامج التسلح، وهددوا بفرض عقوبات، في حال رفضت إيران عرضهم، لكن إيران أصرت على «حقها» في مواصلة التخصيب. وقد بقيت الولايات المتحدة خارج عملية التفاوض بسبب تمنعها عن الخوض في مفاوضات مباشرة مع دولة من دول «محور الشر».
أخيراً أعلنت وزيرة الخارجيّة كوندوليزا رايس سياسة مختلفة. فقد تشارك الولايات المتّحدة ــ ممثلة بالوزيرة نفسها ربما ــ في المحادثات النوويّة بشرط تعليق إيران برنامج التخصيب. إلاّ أنّ طهران لم تظهر، حتى الآن، اهتماماً بالتفاوض مع الولايات المتّحدة، سواء في الإطار الدولي المتعدد الأطراف، أو في شكل منفصل. فطهران لا ترى مصلحة وطنيّة تجبرها على التخلي عن طموحها للتحول إلى قوّة نوويّة، وتملك أسباباً سياسيّة إقليميّة قويّة تدعوها إلى التمسك بذلك. إنّ مواصلة برنامج الأسلحة النوويّة يهدف إلى تحقيق الكرامة والاعتزاز الوطني الإيراني ودعم الوضع الداخلي المهتز، على عكس ما يُعتقد.
إنّ المفاوضات النووية تتحرك في اتجاه نتيجة غير حاسمة. إذ سيكون على الأعضاء الستة، في النهاية، الاختيار بين عقوبات فعالة وبين حيازة إيران قدرات تسلح نووية، وما يقتضيه ذلك من انتشار للأسلحة النووية عالمياً.
إنّ عمل الولايات المتّحدة العسكري هو أمر بعيد الاحتمال جداً في السنتين الأخيرتين من ولاية الرئيس الذي يواجه مجلس شيوخ ذا نظرة عدائية تجاهه. إلاّ أنّ إيران لا تستطيع، بالتأكيد، تجاهل إمكانية توجيه إسرائيل، منفردة، ضربة عسكريّة. أمّا الجدال الواسع الآن، فيدور حول جر إيران (وسوريا) الى عملية تفاوض على أمل تحقيق تحوّل في مواقفهما، كما حصل في الانفتاح على الصين منذ جيل مضى. إنّ ديبلوماسيّة تستثني الخصوم، هي ديبلوماسيّة متناقضة، إلاّ أنّ النقاش في فائدة التفاوض يركّز، في معظم الأحيان، على فتح الطريق أمام المحادثات بدلاً من التركيز على جوهرها. والانفتاح على الصين سهّلته الضغوط العسكريّة السوفياتيّة على الحدود الشماليّة للصين، إذ التقارب بين الولايات المتّحدة والصين أدى إلى إيجاد تقاطع مصالح على منع الهيمنة السوفياتيّة. لكن إذا كانت نهاية ديبلوماسيّة كهذه ستسوّغ لإيران الحصول على قدرة نووية، وحدوث فراغ سياسي تقوم هي بملئه، فإنّ وقع ذلك على النظام في الشرق الأوسط سيكون كارثياً. إنّ فهم الطريقة التي تنظر بها طهران الى العالم يعتبر أمراً شديد الأهميّة. فالمدرسة الفكرية التي يمثّلها الرئيس أحمدي نجاد، ترى، في شكل واضح، أنّ الإمكانات والفرص الإيرانيّة واعدة أكثر مما كانت عليه قبل قرون. فالعراق انهار كقوّة توازن، والقوى العراقيّة يقودها رجال دُرّبوا في طهران.
في العراق تتسع المؤسسات الديموقراطيّة لهيمنة الأكثريّة من الجماعات الشيعيّة، أما في لبنان، فإنّ حزب الله، المدرَّب والموجَّه من إيران، هو القوّة العسكريّة الأقوى. وفي مواجهة هذا الحزام الشيعي الذي يلوح في الأفق، وقدرته على جذب الشيعة في العربيّة السعوديّة وفي الخليج، تتصاعد المواقف وتتدرج في الدول السنية ــ مصر، الأردن، العربية السعوديّة، ودول الخليج ــ من القلق الى الذعر والهلع. وهذا ما قد يفسر سلوك أحمدي نجاد المتغطرس أثناء زيارته نيويورك حيث أراد أن يوصل الرسالة الآتية: «لا تحدثوني عن نظامكم العالمي الذي لم نشارك في صنع قوانينه، والذي نزدريه. فالجهاد، من الآن فصاعداً، سيحدد قواعد هذا النظام».
إنّ ثقة القادة الإيرانيين بأنفسهم قد تجعلهم يسهّلون انسحاباً أميركياً مناطقياً في العراق، ولكن بهدف تحويل هذا الانسحاب الى هزيمة ساحقة وعلى المدى البعيد. وإنّ الجدال في أنّ لدى إيران مصلحة في التفاوض حول العراق لتجنّب حدوث فوضى على طول حدودها، يبقى مجدياً بشرط أن تحتفظ الولايات المتّحدة بقدرة تخوّلها القيام بدور فعال في السيطرة على الفوضى.
وهناك حافزان للتفاوض فقط بالنسبة إلى إيران: بناء منظومة إقليميّة تضعف نفوذ السياسات الإمبرياليّة. والحافز الثاني: القلق من تدهور الأوضاع من حيث تقوم أميركا بضربة عسكريّة. وما دامت إيران تعتبر نفسها ثكنة، بدلاً من دولة، فلن يتم التوصل إلى تقاطع مصالح من خلال التفاوض. وللتوصل إلى وجهة نظر تكون أكثر توازناً، يجب أن يكون هناك هدف واضح للديبلوماسيّة الأميركيّة. وربما تلتفت إيران، في لحظة ما، إلى أنها لا تزال بلداً فقيراً نسبياً وليست في موقع تحدّي النظام العالمي كله.
واليوم، الدول السنية في المنطقة مذعورة من الموجة الشيعيّة. فالمفاوضات بين إيران والولايات المتّحدة قد تولّد فراراً جماعياً يقضي باعترافات وقائيّة بموقع إيران ونفوذها، إلاّ إذا سبق ذلك، أو على الأقل ترافق مع مجهود فاعل لتوحيد موقف هذه الدول وحشدها. وفي سياسة كهذه، يجب أن تجد إيران لنفسها مكاناً محترماً لا مهيمناً. ويجب أن تؤدي عملية سلام فلسطينيّة جديدة دوراً مهماً، من حيث سترفع من مستوى التعاون بين الولايات المتّحدة، أوروبا والدول العربيّة المعتدلة. إنّ إيران في حاجة إلى تشجيعها على السلوك كدولة لا كحركة. لن يكون لدى إيران دافع للظهور بمظهر الإله في مسرحية دراميّة يقوم بإنقاذ البطل.. من حيث تسمح لأميركا بالإفلات من مواقفها المحرجة. ولن يكون هناك حل إلاّ إذا حافظت الولايات المتّحدة على قدرتها على ملء الفراغ، أو على الأقل أن تكون عاملاً في ملئه.
تحتاج الولايات المتحدة إلى إعادة تموضع انتشارها الاستراتيجي، لكن إذا ما اعتُبِرَ ذلك مقدمة للخروج من المنطقة، فقد تنهار التركيبة القائمة.إنّ الديبلوماسيّة القائمة تجاه إيران أمر مهم لبناء منطقة واعدة، لكن ذلك ممكن في حال تخلّي إيران عن الاعتقاد بقدرتها على صوغ مستقبل المنطقة بنفسها، أو في حال تفسّخ أحجار بناء النظام الجديد في الوقت الذي تقوم فيه أميركا بتصنيف أهدافها.
*وزير خارجية أميركي أسبق
(نشر هذا المقال في مجلة صنداي تايمز بتاريخ 19 تشرين الثاني 2006)