خالد صاغيّة
وسط الصخب السياسيّ المتعالي، يحدث أن تصدر، بين حين وآخر، بعض الأصوات الخافتة. أصوات تبدو خافتة، إذ يحجبها فجور منابر الإفطارات والمهرجانات.
لا أحد يريد أن يتوقّف عند تلك الأصوات التي قد تملك رأياً في السياسة والاستراتيجيات الدفاعيّة، لكنّها تشكو أوّلاً ممّا آلت إليه أوضاعها الاجتماعيّة الاقتصاديّة. لا أحد يريد أن يتوقّف عند هذه الأصوات الاحتجاجيّة. وإن فعل ذلك، فإنّما انتهازاً لفرصة تحقيق مكسب على خصومه، لا يلبث أن ينسى بعدها موضوع الاحتجاج نفسه.
سبق لجرس الإنذار أن قُرع مرّةً في حيّ السلّم. وهذه المرّة، يُقرَع من طريق المطار. وقبل ذلك، في البقاع، وفي التبّانة، وعند الأساتذة والمزارعين وسائقي السيّارات العموميّة، والعمّال المصروفين... لكنّ الأجراس تُقرع هباء، حتّى حين يتحوّل رنينها إلى رصاص ودماء وقتل مجانيّ.
كم شهيداً للقمة العيش ينبغي أن يسقط اليوم على طريق المطار كي يروّض هذا الوحش الاقتصاديّ نفسه؟ كي يفهم أنّ ثمّة ما يجمع بين ضواحي بيروت وبين ضواحي باريس وبين ضواحي العالم؟ على الأرجح، لن ينتبه أحد لذلك. وسيُفتح الباب على مساعٍ سياسيّة لـ«ضَبْضَبة» الموضوع.
لكنّ ما يحدث في ضواحينا تحديداً، في حيّ السلّم سابقاً، وعلى طريق المطار حالياً، يستدعي جملة ملاحظات:
أولاً، إنّ تداعيات «مشروع» إعمار بيروت ما زالت مستمرّة، ولن تزول بالسهولة نفسها التي يتصوّرها البعض.
ثانياً، كثيراً ما ترتفع أصوات محذّرة من أنّ انحسار زعامة تيّار «المستقبل» في الوسط السني لن تترك مكاناً إلا للتيارات الأصولية السنية، وهو ما يوجب الحفاظ على هذه الزعامة مهما بلغت أخطاؤها. أمّا حين يتمّ الحديث عن حزب اللّه وزعامته الشيعية، فغالباً ما يأخذ الحديث سياقاً، وكأنّ البديل عن الحزب هو مجموعة من الشخصيات الشيعيّة الليبرالية. ويتناسى البعض حين يتحدّث بضيق عن مصادر تمويل الحزب، أنّ الحزب قام هو ومؤسّساته برعاية القسم الأكبر من أبناء الضواحي الذين لم تدرجهم الدولة يوماً على لائحة أولويّاتها. لنضع جانباً مسألة السلاح. ولنسأل أولئك الذين يطالبون الجمهور الملتفّ حول الحزب بالانفكاك عنه، هل حاولوا، ولو مجرّد الإيحاء أنّ ثمّة ذراعاً أخرى، هي ذراع الدولة، تنتظر هذا الجمهور لتحضنه، لا لتُطلق الرصاص عليه؟
ثالثاً، إنّ استمرار حال الفقر بين عدد من أبناء الضواحي يؤكّد أنّ الحزب، مهما بلغت إمكاناته، لن يستطيع أن يتحمّل وحده (حتّى إذا رغب في ذلك) عبء توفير بديل عن شبكات الأمان الاجتماعي التي يفترض أن تؤمّنها الدولة لكل مواطنيها. والدولة، في مراحل سابقة، بدت كأنّها قد «لزّمت» الحزب تلك الجماعة، فألغتها من حساباتها التوفيريّة. ويستطيع المرء أن يتخيّل الرئيس السنيورة بالذات كم كان يشعر بالسعادة، وهو يجري حسابات ميزانيّته، حين يرى أنّ ثمّة فئةً تزيح عن كاهل الخزينة عبء بعض المواطنين.
رابعاً، ينبغي التذكير بأنّ حزب الله ليس «حزب الكادحين». وسياساته لم تصبّ دوماً في خدمة الطبقات الفقيرة والمهمّشة. وبقدر ما كانت تطلق يده في أمور، بقدر ما كان يغض الطرف عن أمور أخرى اعتبر أنّها لا تعنيه ما دامت المقاومة وسلاحها بخير.
ثمّة دماء سالت أمس في ضواحي بيروت. إنّها دماء الفقراء في مواجهة رجال الأمن. فليشعر مساهمو «سوليدير» بالراحة. وليحصِ أصحاب المصارف ما يجنونه من فوائد. وليتنعّم المستوردون بما تدرّه عليهم احتكاراتهم. وليطمئنّ القادة السياسيّون إلى مزاريبهم. فالدماء التي سالت هي دماء فقراء، وهي لا تستدعي تحقيقاً، ولا بحثاً عن الحقيقة.