عمر كوش *
أثارت الزيارة التي قامت بها وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس إلى المنطقة العديد من الأسئلة التي تخص السياسة الأميركية وطرق تناولها قضايا المنطقة وهمومها، وأهداف الزيارة وتوقيتها، وكذلك الكيفية المطلوبة في التعاطي مع الملـــــفات الساخنة بغـــــية التوصل إلى حلول معقــولة ومنطقية، تأخذ بالحسبان مصالح شعوب المنطقة وكياناتها الوطنية.
وكان اللافت في هذه الزيارة أنها حملت جدول أعمال مثقل بالملفات، ومبطّن بالسعي لصياغة حلف أو «تحالف المعتدلين» في المنطقة، ومن ثم «إعادة إحياء عملية السلام» وفق صياغة جديدة، فيما زياراتها السابقة كانت تحمل عنواناً مكروراً ومخادعاً هو «تحريك عملية السلام» التي توقفت، أو بالأحرى، ماتت منذ مجيء الرئيس «جورج دبليو بوش» إلى الحكم في الولايات المتحدة الأميركية، فهل حملت زيارة رايس تغيّراً في الأولويات الأميركية؟ أو هل هنالك متغيرات سياسية جعلت الإدارة الأميركية تستحث الخطى في اتجاه إعادة إحياء عملية السلام على خلفية ما ذكرته رايس نفسها عن «صياغة جديدة» للاستراتيجيا التي اعتمدتها الإدارات الأميركية خلال أكثر من نصف قرن من الزمن.
يبدو، للأسف، أن زيارة الوزيرة رايس لم تكن أكثر من رمية حجر في بركة ساكنة، ذلك أن البحث عن حلف جديد القصد منه «مواجهة قوى التطرف في المنطقة» لا يعد بكثير من التغير، لأنه أشار إلى أن الأولوية هي تعزيز فرز جديد بين دول الشرق الأوسط كشرط مسبق لأي تحرك لاحق في اتجاه الملفات الساخنة، وكأن الهدف من الزيارة هو تحريك الملفات الساخنة، وليس البحث عن مخارج لها أو فتح قنوات تهدف إلى إزالة أسباب الانفجار. ويؤكد هذا الأمر تركيز الوزيرة الأميركية في محادثاتها مع المسؤولين السعوديين والمصريين والفلسطينيين على الوضع في العراق والملف النووي الايراني، بوصفهما الشغل الشاغل للإدارة الأميركية، بينما لم تحظَ القضية الفلسطينية بالاهتمام الكافي، حيث كان التطرق إلى عملية السلام من باب تحصيل الحاصل، ولم تأتِ الوزيرة بجديد بخصوص «إعادة إحياء عملية السلام»، فاكتفت بإبداء رغبتها في أن يجد الفلسطينيون طريقاً لحل أزمتهم السياسية، وأن تُؤلّف حكومة فلسطينية تستوفي شروط اللجنة الرباعية، المتمثلة بالاعتراف بإسرائيل والالتزام بالاتفاقات الموقعة معها، ووقف ما تعتبره «الإرهاب»، أي المقاومة المسلحة ضد إسرائيل.
ويُذكّر التحالف الجديد، «تحالف المعتدلين»، الذي تسعى الولايات المتحدة الأميركية إلى تأليفه ودعمه، بتحالف آخر، هو «تحالف الراغبين»، الذي شكلته الولايات المتحدة الأميركية عشية حربها على العراق، وقادته إلى تلك الحرب عام 2003. ويُذكّر «تحالف المعتدلين» بمصطلح «العرب المعتدلين» الذي كانت تطلقه الإدارة الأميركية، إبان الحرب الباردة، على الدول العربية التي كانت تعادي الاتحاد السوفييتي السابق والمنظومة الاشتراكية قبل انهيارها، لكن يبدو اليوم أن من بين أهداف التحالف المطلوب هو احتواء الوضع الذي نشأ في إثر الحرب الأخيرة على لبنان، وتحقيق أهداف لم تستطع تحقيقها الآلة العسكرية الإسرائيلية.
لا شك في أن الاعتدال مطلوب في المنطقة العربية، بل في منطقة الشرق الأوسط برمتها، لكن يبدو أن حرب تموز الأخيرة أضافت معطى جديداً إلى جملة معطيات سابقة يمكن البناء عليه كنموذج، وتتخوف الإدارة الأميركية من أن يساعد ذلك على نمو قوى «التطرف» في المنطقة، فقررت التحرك وطرح خطة جديدة لمحاصرتها، مقابل دعم «القوى المعتدلة» من خلال تقديم ما يطمئنها من ضمانات، ولو لفظية. فيما تستمر الإدارة الأميركية بالتستّر على أخطائها الاستراتيجية التي ارتكبتها في المنطقة بعد أحداث الحادي عشر من أيلول 2001، حيث قسمت العالم إلى قسمين: «معنا» و«ضدنا» في سياق حربها على الإرهاب، التي صورتها حرباً مقدسة، وعاجلة، وتختفي أمامها كل مشاكل المنطقة والعالم، وكل مسببات الإرهاب، فدمجت القضية الفلسطينية في سياق حروبها الاستباقية والوقائية بالرؤية الإسرائيلية، رافضةً بالمطلق اعتبارها جوهر الصراع في المنطقة.
لقد سكنت العقل السياسي الأميركي مقولة تفيد أن قضايا المنطقة ومشاكلها معزولة بعضها عن بعض، ولا رابط بينها، فلم تبدِ الإدارة الأميركية أي جهد يسهم في حل القضية الفلسطينية، بل شنّت حرباً غير معلنة على الشعب الفلسطيني بعد فوز حركة «حماس» في الانتخابات الفلسطينية. وآخر تصريحات المسؤولين الأميركيين تفيد أن الإدارة الأميركية ستعمل على إضعاف «حماس»، حتى لو تطلّب الأمر اللجوء إلى طرق غير قانونية. لذلك من حق المهتمين بقضايا المنطقة العربية التساؤل عن الجديد في المواقف الأميركية، وعن الهدف من زيارة «كوندوليزا رايس» المنطقة، لأنه يبدو أن سياسات الولايات المتحدة الأميركية لن تعرف أي تغير يصب في مصلحة السلام المنشود في المدى المنظور، وبالتالي فإن «الفوضى المدمرة» وحدها ستعرف طريقها إلى كيانات دول المنطقة، حسبما يشي الوضع في الأراضي الفلسطينية بعد الاقتتال الأخير بين أنصار «حماس» وأنصار «فتح»، وكذلك الاحتقان المتزايد للوضع في لبنان. ومن المؤسف أن يتم كل ذلك في ظل صمت أوروبي وتواطؤ عربي، وبعدما تأكد للعالم حجم الخراب الذي تسببه السياسات الأميركية في المنطقة العربية.
* كاتب سوري