نجيب نصر الله
خلافاً لكل ما يبدو أو يُقال، فإن الخريف «الأكثري» لم يعد أبداً ببعيد، محاولات كثيرة ولا شك، بذلت لاستئخاره، بعدما تعذر إلغاؤه، لكن عناد الواقع، واقع القوى الحية، وواقعية تطلعاتها، رسمت الخط الفاصل بين ما هو ممكن وغير ممكن.
الاشارات الدالة على هذا الخريف كثيرة، الا ان الاحدث بينها ما صدر أول من أمس من واشنطن، حيث سارع الرئيس الاميركي جورج بوش الى تجديد إعلان وقوفه الى جانب حكومة فؤاد السنيورة، وإيفاده مسؤولاً عن المساعدات الخارجية الى بيروت، في محاولة منه اضافية لتدعيم الموقع المتداعي للسلطة، التي ما برحت تجتهد في الاستئثار والتسلط بحجج ممجوجة ومملة من نوع امتلاك الأكثرية.
الامر الواضح ان ألاعيب المشروع الانقلابي الذي انطلق في وقت سابق على اغتيال رفيق الحريري، باتت في حكم اللامعنى. لكن الامر لن يقف عند هذا الحد.
للمقامرة منطق خاص جداً، يقوم على الصرامة الكاملة، ولأنه كذلك فإن علاقته بالتسويات واحتمالاتها هي علاقة إكراهية، ومشروطة بالتأخر. كانت المقامرة ولا تزال سمة مميزة للمحاولات الانقلابية اللبنانية، واقع السلطة القائمة اليوم هو في جوهره واقع انقلابي غير مسبوق، نقاط الضعف فيه كثيرة، الا ان الابرز بينها يكمن في طبيعة الرهانات ونوعها. واقع العجز الذي يهدد بإطاحة كل المشروع الانقلابي، سوف يضع المنقلبين في زاوية صعبة، وقد يدفع بهم الى وضع قد تزيد معه المغامرة، لذا المتوقع للبلد ومن بعد ربيع ملتبس، أو كاذب، ان يجد نفسه أمام خريف لن يكون قليل العواصف، وخصوصاً ان الغيوم السوداء تحتشد في سمائه. واقعية الرهانات التي عقدتها قوى «الأكثرية» اللبنانية لم تجعل منها حقائق. «الأكثرية» التي ساورتها الظنون، وفكرت أنه في مستطاعها ركوب المركب الاميركي، بل الوصول السهل الى حيث ينعقد لها اللواء، تعيش هي الاخرى أياماً ربما لا تختلف في وطأتها، عن تلك التي تحيط بأصل المشروع الذي أراد الانطلاق من البناء على الوضع العراقي.
التعثّر الذي يلازم الاحتلال الاميركي لأرض الرافدين، يسلك طريقاً نقترب معه من الدخول الى زمن آخر يمكن وصفه بزمن الغرق الأميركي، ما يجعل من الرهانات «اللبنانية» التي انعقدت عليه، ترتدّ على أصحابها. ومن باب الإنصاف يمكن التأكيد ان هذه «الأكثرية» بذلت ما استطاعت، ولم توفر ما أُتيح لها من فرص، كان آخرها العدوان الاسرائيلي، فكان العجز وكان الفشل.
هل بدأ العد العكسي لاستئثار «أكثري» كلّف البلاد ما لا طاقة لها عليه، إذ جعل منها قاعدة عسكرية دولية؟ الأرجح أن نعم. فشل العدوان الاسرائيلي أطاح الأساس السياسي للمشروع الانقلابي الذي أراد أخذ لبنان خارج فلكه العربي.
مبادرة نبيه بري بالصيغة التي أتت بها تأكيد لا يقبل النقاش للوجهة التي سوف تحكم الأمور. الأكيد ان «المدّ» الأكثري الذي استند مباشرة إلى الاحتلال الاميركي للعراق بات في حال انحسار فعلي. الاصابات الاميركية التي وصلت الى رقم شبه قياسي تزيد من حدة المأزق الاميركي وتضعه أمام احتمالات بالغة الصعوبة. الاشارة الاميركية الواردة في خطاب جورج بوش الأخير، الى دور سوري في مساعدة حكومة السنيورة، ينطوي على اعتراف متأخر بالحاجة الى تسوية ما، تكسر مع دعوات العزل السابقة. لا جدال في ان الانتصار اللبناني الذي حققه «حزب الله» كانت له مساهمة في جعل فكرة الانكسار الاميركي في العراق ممكنة، وخصوصاً ان الهدف الأساس من الحرب الاسرائيلية التي قيل انها تمت لحساب السيد الاميركي هدفت الى الإمساك الكامل بلبنان حتى يسهل الامساك بالعراق وتالياً بالمنطقة.
التواضع يقتضي الاعتراف بأن المسافة التي تفصلنا عن التسليم البوشي بالهزيمة ليست بالقصيرة، بل إن هذا التسليم على فرض حصوله لن يكون بلا عواقب تلزم محاصرتها وقتاً ليس بقليل.