وليد شرارة
المواقف التي أعلن عنها الرئيس الفرنسي جاك شيراك في مقابلته مع اذاعة «أوروبا 1» عززت صدقية التحليل الذي أكد منذ نهاية العدوان الاسرائيلي الأخير على لبنان اتجاه فرنسا مجدّداً إلى التمايز عن السياسة الأميركية في الشرق الأوسط. يرى أصحاب هذا التحليل أن إشارات عديدة إلى التمايز برزت خلال العدوان. فمن ادانة الرد الاسرائيلي «غير المتوازن» على عملية أسر الجنديين الاسرائيليين، مروراً برفض فكرة ارسال قوة أطلسية الى الجنوب اللبناني والإصرار على زيادة عديد وعدة قوات اليونيفيل حصراً، وصولاً إلى اعتبار سلاح حزب الله مسألة داخلية لبنانية والتخلي عن فكرة نشر قوات دولية على الحدود اللبنانية ــ السورية، أظهرت فرنسا قدراً من الاختلاف عن المطالب الأميركية ــ الاسرائيلية ساهم دون شك في اقناع المقاومة اللبنانية بعدم الاعتراض على ارسال المزيد من قواتها الى الجنوب، ودعم حجة من يعتقد أنها عادت إلى اعتماد سياسة أكثر توازناً حيال قضايا المنطقة. ولا شك أيضا في أن اقتراحات الرئيس شيراك في المقابلة المذكورة، المتعلقة بالملف النووي الايراني وبالقضية الفلسطينية، ساهمت في تأكيد الانطباعات المستجدة عن السياسة الفرنسية.
تتطلب المواقف الفرنسية مراجعة أكثر دقة للوقوف على مدى جدية التمايز المشار اليه. صحيح أن فرنسا دانت «لاتوازن» العدوان الاسرائيلي، لكنها حمّلت مسؤولية بدء المواجهات العسكرية في لبنان وفلسطين لحركات المقاومة وتبنّت، بداية، المطالب الاسرائيلية، ومنها اطلاق الجنود الأسرى ونزع سلاح المقاومين، لوقفه متجاهلة المطالب اللبنانية والفلسطينية. عودة سريعة إلى المقابلة التي أجراها الرئيس الفرنسي على القناة الفرنسية الأولى في 14 تموز الفائت، وإلى تصريحات المسؤولين الفرنسيين، تظهر هذه الحقيقة. شارك هذا الموقف الفرنسي في تغطية العدوان سياسياً. أما الاعتراض الفرنسي على ارسال قوات أطلسية الى الجنوب، الذي برز بعد نحو ثلاثة أسابيع على بداية العدوان، فكان سببه، أولاً، أن الولايات المتحدة وبريطانيا لن تشاركا في مثل هذه القوات، بحجة أنهما متورطتان في العراق وأفغانستان، وأن أعباء المشاركة وأكلافها ستتحملها فرنسا ودول غربية أخرى. بكلام آخر، رفضت فرنسا الانجرار الى ورطة المواجهة المباشرة مع المقاومة الاسلامية لحساب الولايات المتحدة وإسرائيل، وإلى محاولة انجاز ما عجزت هذه الأخيرة عن انجازه. يضاف إلى ذلك اعتبار مبدئي، وهو أن فرنسا ما زالت تعارض تحويل الوظيفة «الدفاعية» لحلف الناتو الى وظيفة هجومية. فشل العدوان الاسرائيلي في تحقيق أهدافه العسكرية هو الذي أدى الى تراجع جميع أطراف التحالف الغربي ــ الاسرائيلي عن أهم شروطهم ومطالبهم لوقف اطلاق النار، وإلى موافقتهم على صيغة الحل الوسط التي اعتمدت عبر القرار 1701. ومنذ دخوله حيز التنفيذ، هناك محاولة لفرض التأويل الأميركي ــ الاسرائيلي للقرار على لبنان. أبرز نقطة في هذا التأويل، نزع سلاح المقاومة. الرئيس شيراك رأى تقرير مصير هذا السلاح مسألة داخلية لبنانية، لكنه ما انفك، كلما سنحت له الفرصة، يطالب بنزعه. يفعل ذلك متجاهلاً الانتهاكات الاسرائيلية المستمرة لنص القرار 1701 وروحه منذ أن دخل حيز التنفيذ. الأمر نفسه ينطبق على وزيرة دفاعه التي زارت الجنوب اللبناني وتحدثت بصرامة عن صلاحيات قوات الأمم المتحدة وتجهيزاتها العسكرية وأسلحتها الثقيلة التي تجعل منها «قوات رادعة وذات صدقية»، بينما تنتهك الطائرات الاسرائيلية في الوقت عينه الأجواء اللبنانية وتستمر القوات الاسرائيلية في انتهاكاتها في المناطق المحاذية للحدود تحت مرأى القوات الدولية ومسمعها. لا حاجة إلى التظاهر بالبراءة والسؤال عن الجهة المطلوب ردعها برأي الوزيرة الفرنسية. لن ينجح التمايز الشكلي الفرنسي عن المواقف الأميركية ــ الاسرائيلية في إنجاز دور يتكامل، من حيث الأهداف التي يسعى إلى تحقيقها، مع الاستراتجية العامة لواشنطن وتل أبيب.