نادر صباغ
قبل أن ينقطع الاتّصال بالصحافيين لاختيار بابا جديد بعد وفاة يوحنا بولس الثاني، تناول عدد كبير من الكرادلة المئة والخمسة عشر المجتمعين فى روما انتشار الإسلام بوصفه أحد التهديدات الرئيسية التي تنبغي مواجهتها بشكل سريع في الفترة المقبلة.
حسب تصريحات مسؤولين في الكنيسة، فقد سيطر على مداولاتهم السؤال الآتي: هل الإسلام شريك في الكفاح ضد العلمانية، أم هو منافس ديني للكاثوليكية؟ والواقع أن كثيراً من رجال الفاتيكان يرون أن النصرانية تعاني من الحصار والانحسار في أرجاء العالم في وجه الدعوات الأخرى الدينية منها، والعلمانية على السواء.
شغل الألماني جوزيف راتزينغر، قبل أن يصبح البابا بنيديكت السادس عشر، منصب عميد كلية الكرادلة، ورئيس التجمع من أجل ميثاق الإيمان. في عام 2000 صدر لراتزينغر كتاب بعنوان «الرب يسوع» يؤكد مضمونه أن تقوية الإيمان في صدور الكاثوليك شرط أولي لنجاح الحوار بين الأديان، ويشدد على تفوق الكاثوليكية على غيرها من العقائد.
في 16 فبراير 2006 اتّخذ البابا بنيديكت السادس عشر قراراً بنقل الأب مايكل فيتزجيرالد (69 عاماً، بريطاني الجنسية) من منصب رئيس المجلس البابوي للعلاقات مع الأديان غير المسيحية، إلى منصب مبعوث بابوي في القاهرة وموفد لدى الجامعة العربية، منصب يفرض عليه الكثير من الأعباء، أعظمها لقاء المسؤولين مرة في العام لمناسبة العيد الوطني. دمج بنيديكت المنصب الشاغر بالمهام الأخرى التي يقوم بها وزير الثقافة في الفاتيكان الكاردينال الفرنسي بول بوبار (76 عاماً)، بما يشبه عملياً إلغاء الموقع.
مرّ هذا القرار دون أن يأخذ حقه من الدلالات التي يؤشر إليها، أقله في التعاطي بين الكنيسة والعالم العربي والإسلامي. رأى عارفون بشؤون الكنيسة أن هذا التغيير أهم تغيير تشهده الحكومة البابوية منذ انتخاب راتزينغر، وهو أكثر من مجرد إعادة توزيع للحقائب الوزارية على اعتبار أن البابا يؤمن بقوة أن «الاتصال مع غير المسيحيين لا يجب أن يركز فقط على الدين حيث يعدّ الاتفاق صعباً إن لم يكن مستحيلاً»، كما أكد بشكل علني في أكثر من مناسبة.
فيما تحدثت أوساط الفاتيكان عن هذا التعيين كتعبير عن الرغبة في تقوية علاقاتها بالدول العربية المعتدلة، إلا أن الغالبية كانت تعلم أن فيتزجيرالد لا يتّفق مع توجّهات فريق راتزينغر المتشددة.
كان فيتزجيرالد مسؤولاً عن قسم في الفاتيكان لتعزيز الحوار مع الأديان الأخرى، وهو باحث متعمق في الشؤون العربية، وخبير له باع طويل في العالم الإسلامي. ولم يكن إقصاؤه في نظر المتابعين ترقية بل العكس.
في مقابلة مع هيئة الإذاعة البريطانية أجريت في نيسان الماضي، أعرب الأب توماس ريز، وهو باحث يسوعي متخصص في شؤون الفاتيكان، عن قلقه حول هذه الخطوة بالقول «لقد كان أسوأ قرار للبابا حتى الآن هو نفي الأسقف فيتزجيرالد. لقد كان الأكثر فطنة في الفاتيكان في ما يتعلق بالعلاقات مع المسلمين. شخص مثل هذا لا ينبغي إقصاؤه بل الاستماع إليه».
وأضاف «إذا قال الفاتيكان شيئاً غبياً عن المسلمين، فسوف يموت أناس في أجزاء من أفريقيا وستحرق كنائس في إندونيسيا، ناهيك عمّا سيحدث في الشرق الأوسط. سيكون من الأفضل للبابا بنيديكت أن يكون فيتزجيرالد إلى جواره».
يرى فيتزجيرالد في ما ينقل عنه من مواقف «أن المسلمين والمسيحيين في حاجة إلى حوار أشمل لمنع امتداد الصراع السياسي في الشرق الأوسط إلى المجتمعات الغربية»، وهو دعا صنّاع السياسات في الدول الغربية والولايات المتحدة الأميركية إلى مزيد من التفهّم والتعرّف على الدين الإسلامي.
يعتبر فيتزجيرالد أن أحداث 11 سبتمبر وغزو أفغانستان وحرب العراق والأحداث المحيطة بالحرب زادت من ضرورة الحوار بين المسلمين والمسيحيين، ويرى في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني «جرحاً مفتوحاً وبحاجة ملحّة لحلّ». وعن موضوع نشر الرسوم المسيئة إلى النبي محمد، أكد أن «ممارسة حرية التعبير ينبغي استخدامها بشكل مسؤول وهذا ما غاب عن هذه القضية».
أظهر إبعاد فيتزجيرالد جلياً رغبة البابا في اعتماد منحى أقل تفاؤلاً وأكثر واقعية في موضوع الحوار مع الإسلام. وقد ردّد الحبر الأعظم مراراً أنه سيظل متمسّكاً بمقرّرات مؤتمر «الفاتيكان 2» لمصلحة الحوار بين الأديان لكن ليس بأي شكل من الأشكال، للإشارة إلى أن الحوار المتساوي بين الأديان قد انقضى أجله، وأن الخطر الداهم للإسلام على المسيحية سيفرض تغيراً في قواعد إدارة اللعبة في الفترة المقبلة، وهو ما أكّدته بالفعل تصريحاته الأخيرة.
ليس من المستغرب أن يصدر عن رجل بهذه المواصفات والخلفية ما صدر عنه حول الإسلام ونبيّه، ومن الجهل وصف من قضى عقدين من الزمن مؤتمناً على العقيدة أن يكون جاهلاً بالعقائد الأخرى. بنيديكت السادس عشر كان صادقاً مع نفسه ومع الآخرين، جاهر علناً بما يقال سراً لعقود كثيرة، ذلك جلّ ما اقترفه، وله أسبابه. في مقابلة مع صحيفة الفيغارو الفرنسية عام 2004 قال بنيديكت إنه يعارض انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي بما أنها تنتمي إلى «قارة» لطالما عارضت أوروبا المسيحية. في آب 2005 خاطب القادة المسلمين قائلا «الإرهاب على كل أشكاله، عمل شاذّ وقرار قاس، يظهر ازدراءً تجاه الحق في العيش ويهدد أسس المجتمعات المدنية». في أيار الماضي أكد أنه يشجع الحوار مع الاسلام بشرط أن يتم على أساس المعاملة بالمثل، أي أنه إذا أراد المسلمون التمتع بالحريات الدينية في الغرب، فإنه ينبغي أن يكون للمسيحيين الحقوق نفسها في ممارسة شعائر دينهم في البلدان الإسلامية.
قيل الكثير عن «أبوس داي» هذه المنظمة الكاثوليكية المحافظة التي أسسها الاسباني خوسيه ماريا اسكريفا دو بالاغير عام 1928، وعلاقتها بالكنيسة ورأسها. ما هو مجهول عنها أكثر مما هو معلوم، لكن المؤكد أن البابا يوحنا بولس الثاني الذي سمى اسكريفا قديساً في ساحة القديس بطرس في روما في عام 2002، قال في تلك المناسبة «سنكمل مسيرته».
الكتاب الأهم لأسكريفا يدعى «الطريق»، وقد كُتب خلال الحرب الأهلية الاسبانية ويشكل مديحاً للذهنية الفاشية وللديكتاتور فرانكو الذي منح أسكريفا لقباً تشريفياً (مركيز بيرالتا). تشدد «أبوس داي» على العودة إلى أصول تعاليم الرب وتقوية إيمان المؤمنين الذي يضعف تجاه مغريات الحياة العصرية.
لتوقيت تصريحات البابا أهمية تفوق مضمونها، إنه الحاجة الملحّة لاختيار الإسلام كمدخل لإعادة المسيحيين إلى تعاليم الكنيسة، فرصة لتقوية إيمانهم الذي يذوي مع مادية الحياة الغربية. ليس الاستغراب مبرراً، فشخصية راتزينغر وكل ما قام به منذ تسلمه منصبه كان من الطبيعي أن يوصل إلى هذه النتيجة.
قد تكون المرة الأولى التي تصدر تصريحات كهذه عن رأس الكنيسة أمراً لا يدعو إلى الاستهجان والسخط إذا عرف المراد منه. في الدين كما في السياسة، الحاجة دوماً لوجود عدو، أمر لعلّه يحرّك راكداً.