فوزي الأسمر *
يخطئ كل من يعتقد أن تداعيات حرب لبنان على إسرائيل وأميركا، وحتى على منطقة الشرق الأوسط برمّتها، قد انتهت. ويمكن القول بتأكيد كامل إنها ستستمر لفترة ليست بالقصيرة، وإنه سيكون لهذه التداعيات أثر كبير في حياة شعوب هذه المنطقة ومستقبلها السياسي والعسكري والاقتصادي.
وبلا شك، أنه لو كان كل من إيهود أولمرت وجورج بوش وطوني بلير يعلم أن نتائج هذه الحرب ستسفر ما أسفرت عنه من هزيمة نكراء، وإحباط اجتماعي كبير، لفكروا مرتين قبل خوضها والسماح لآلة الحرب الإسرائيلية الاستمرار لمدة تزيد عن الشهر.
ولو فكر هؤلاء القادة بهذه النتيجة، لما سارعوا إلى الاستهانة والسخرية من تصريح الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، عندما عبر عن موقفه الإنساني الرفيع عندما قال إنه لو كان يعلم أن إسرائيل ستقوم بحربها الإجرامية، قبل أسر الجنديين، لما قام بهذه العملية.
فعندما سخر أولمرت من كلام نصر الله، أثناء أول جولة له في كريات شمونة، التي دمرتها صواريخ المقاومة اللبنانية، حيث استقبل بالتظاهرات المعادية، عندما قال إنه يتحرك بحرية في حين يختبئ نصر الله في ملجأ حصين. عندما قال ذلك، رد عليه أحد كتّاب صحيفة «هآرتس»، متسائلاً عما إذا كان سيُستقبَل نصر الله عندما يخرج الى الشارع بمثل استقبال كريات شمونة، ومن هو القائد المحترم لدى شعبه وحتى في العالم أولمرت أم نصر الله؟
وبنظرة مراقبة لما يحدث داخل إسرائيل، نستطيع أن نجزم أن تداعيات الحرب في لبنان، بدأت تقصف رؤوساً، كان بدايتها رأسه قائد منطقة الشمال الإسرائيلي أودي آدم، وعلى إثر ذلك بدأت الأصوات تنادي باستقالة قائد الجيش دان حالوتس، ورئيس الوزراء ايهود أولمرت ووزير الدفاع عمير بيرتس، وقد جاءت هذه الأصوات من أعضاء في الكنيست من اليمين واليسار.
وبالإضافة الى التظاهرات المعادية للحرب وللحكومة، تجرى تحركات أخرى، على غرار الخيمة التي أقيمت أمام الكنيست، ويجلس فيها مضربون عن الطعام ينادون بـ«تغيير نوعي في الحكم» وغير ذلك من التحركات.
وهناك حديث كثير عن «هروب رؤوس أموال الى خارج البلاد»، ومطالبة بعض المصانع والشركات بتعويضات مالية بسبب خسائر الحرب، بما في ذلك شركة الطيران «العال» التي تطالب بمبالغ طائلة «لأن الجيش الإسرائيلي استخدم بعضاً من طائراتها إبان الحرب». وهناك هجرة يهودية كبيرة إلى خارج إسرائيل، وخصوصاً هؤلاء الذين يحملون جنسيات أجنبية، وعددهم كبير في إسرائيل. وغيرها من المظاهر.
ويبدو أن هذه الحرب أيضاً، أثّرت على قادة الجاليات اليهودية في العالم الذين انتقدوا الحكومة الإسرائيلية. فقد نشرت صحيفة «هآرتس» مقالاً مطوّلاً عن هذا الموضوع (4/9/2006) كان عنوانه «كيف جرؤتم على عدم الانتصار؟». واقتبس الكاتب من أقوال بعض هؤلاء القادة جملاً تشير الى أن هزيمة إسرائيل قلّلت من تأثير هؤلاء القادة على حكومات الدول التي يعيشون فيها، بما في ذلك الولايات المتحدة وبريطانيا وغيرها من الدول الأوروبية، وشككت في موضع إسرائيل على الخريطة الإستراتيجية الغربية.
ومن جملة ما جاء في هذا المقال قول أحدهم: «لقد عشنا مدة شهر كامل ونحن نسمع كيف تقوم إسرائيل بهدم لبنان وقتل المدنيين»، و«لقد كنا نتوقع انتصاراً إسرائيلياً ساحقاً وتدميراً كاملاً لقاعدة حزب الله»، وغير ذلك.
فقدان الثقة بالقيادة الإسرائيلية انعكس في البحث الأكاديمي الذي قام به الدكتور أودي لابل، من جامعة بن غوريون، حيث تبين أن معظم الإسرائيليين صدّقوا ما كان يقوله حسن نصر الله أكثر من الأخبار التي كانت تبثها الحكومة الإسرائيلية.
يقول د. لابل: «لقد وصلنا الى وضع مجنون، فبدلاً من أن يصغي الجمهور الإسرائيلي إلى الحقيقة عن طريق التصريحات الإسرائيلية، لما يحدث كان يوم، تحوّل الشعب (الإسرائيلي) إلى تصديق ما يقوله قائد العدو الذي نحاربه» (يديعوت أحرونوت 3/9/2006).
ونتائج حرب لبنان أرخت بظلالها على المتطرفين من اليهود، وخصوصاً المستعمرين الذين يسكنون المستعمرات في الأراضي المحتلة، حيث وجدوا فرصة للتمرد على الحكومة، وعلى أي مشروع يدعو إلى إزالة هذه المستعمرات أو تقليصها. فقد أصدر «مجلس اليهودية والسامرة»، وهو مجلس يمثل المستعمرين اليهود في الأراضي المحتلة بياناً تحريضياً ضد الحكومة.
ومما جاء في هذا البيان نداء للمستعمرين بالتمرد ومطالبة بأن يستمر السكان في المستعمرات ببناء مزيد من الوحدات السكنية: «إنه يتحتم على كل ساكن هنا، صبي وشاب وعجوز أن يتحمل مسؤولية بناء ما أرادوا أن يهدموا... إن الطفل الذي زرع شتلة ورد يكرس وجوده هنا» (يديعوت أحرونوت10/9/2006).
وتعكس وسائل الإعلام الإسرائيلية، الإحباط الذي يمر به الشارع الإسرائيلي، وهو إحباط مركب من عدم الثقة بقدرة الجيش أن يحمي عمق البلاد، وعدم مقدرة القيادة العسكرية على وضع استراتيجية تعيد إلى الأذهان فرض ثقافة الهزيمة على الجانب العربي، وعدم الثقة بقدرة السياسيين على تسيير الأمور وحل المشاكل الأساسية التي تواجه الشعب في إسرائيل. ويشاهد رجل الشارع هناك، تدهوراً اقتصادياً وهجرة معاكسة، وشرخاً بدأ يحصل بين إسرائيل والجاليات اليهودية في العالم.
ولكن أشد ما يلفت انتباه الإسرائيلي، هو نجاح المقاومة في استعمال أسلحة حديثة ومتطورة على غرار الصواريخ المضادة للمدرعات، والاستراتيجيات العسكرية الحكيمة التي اتبعتها المقاومة في حربها ضد الجيش الإسرائيلي، وخصوصاً تدمير السفينة الحربية في المياه اللبنانية، ويتساءل عما يحمله له المستقبل.
هناك صورة لطفل فلسطيني مقاوم، اشتهرت كثيراً وزرعت في الأذهان، إبان انتفاضة الحجارة الأولى، حيث يشاهد هذا الطفل وهو يقف أمام دبابة إسرائيلية ضخمة، ويقذفها بحجر.
هذه الصورة ظهرت في الحرب الأخيرة، ولكن المقاوم كان لبنانياً يحمل صاروخاً مضاداً للدبابات. هذا التطور «النوعي» بحد ذاته يثير الكثير من التساؤلات في الشارع الإسرائيلي.
اليوم لا يتحدثون في إسرائيل عن «تقصير» في مسيرة الحرب كما حدث إبان حرب عام 1973 بل عن «هزيمة عسكرية واضحة»، الأمر الذي يضع كثيراً من النقاط على الحروف، ويثير إحباطاً واضحاً في المجتمع الإسرائيلي، الشيء الذي تحاول الحكومة الإسرائيلية التغلب عليه. ولكن الشارع يتساءل: «وماذا بعد؟».
* باحث لبناني