وليد شرارة
المتأمل في مواقف ما يسمّى قوى الأكثرية، أي المجموعة الحاكمة في لبنان حالياً، من حزب الله لا بد من أن يتعجب من اصرار بعض أبرز رموزها على استفزاز هذا الحزب واستعدائه. لا يتعلق الأمر بطبيعة الحال بحق هذه المجموعة في الاختلاف مع حزب الله وفي توجيه النقد اللاذع لسياساته ومواقفه. المشكلة تبدأ عندما تسمح الرموز المذكورة لنفسها بالتفوه بكلمات تفوح منها رائحة العنصرية الطبقية (racisme de classe) عند حديثها عن جمهور المقاومة. الأزمات الحادة عادة ما تكون كاشفاً جيداً لحقيقة سياسات افرقائها وخلفياتهم ودوافعهم العميقة. فبمجرد أن احتدم السجال السياسي في لبنان، بدأ احدهم يقسم اللبنانيين بين «نوعية» و«كمية»، وذهب آخر الى حد وصف جمهور المقاومة بالقطيع. النائب وليد جنبلاط حذا الحذو نفسه عندما قال إن حزب الله حزب شمولي، وإن جمهوره يتمتع بانضباط عسكري حديدي يجعله عاجزاً عن التفكير. وهو رأى أن الفارق الأساسي بين هذا الجمهور وذاك الذي نزل الى الشوارع بين 14 شباط و14 آذار 2005 هو أن الأ خير متنوع وتعددي، مما يعني، بكلام آخر، أنه مكون من أفراد دفعتهم قناعاتهم الفكرية والسياسية للنزول الى الشارع بملء ارادتهم. المواجهة السياسية في لبنان، من منظور النائب جنبلاط، تدور إذاً بين «كتلة صمّاء» مستنفرة مذهبياً وعاجزة عن التفكير، و«رأي عام» مكوّن من أفراد وجمعيات وأحزاب تجمعهم قضيتا الحرية والديموقراطية. هو لا يتردد في تبنّي الصورة النمطية الغربية، العنصرية بامتياز، عن العرب والمسلمين، وفي إسقاطها على حزب الله وجمهوره. هيمنة هذه الصورة النمطية على المستوى الأيديولوجي في الغرب تدفع غالبية وسائل الإعلام الغربية مثلاً، إلى استخدام مفهوم «الشارع العربي» بدلاً من مفهوم «الرأي العام»، الذي يخصص حصراً للشعوب «المتحضرة».
المتمعن في مواقف النائب جنبلاط لا بد من أن يلحظ أنها تتضمن رسائل متعددة. قسم من هذه الرسائل موجّه إلى الغرب ومفاده أن هناك تقاطعاً حقيقياً في المصالح بينه وبين المجموعة الحاكمة في لبنان، في مواجهة المقاومة وحلفائها الإقليميين. هذا معنى اصراره المستمر على ربط الصراع السياسي الدائر في لبنان مع المواجهة بين واشنطن وطهران بشأن المشروع النووي الايراني. كلامه الأخير عن حزب الله يهدف إلى التأكيد أن المساحة المشتركة مع الغرب باتت تتعدى المصالح لتشمل القيم والمبادئ الأساسية. إنه يعلن وقوفه الى جانب «الديموقراطية» في مواجهتها مع «الشمولية». استخدامه لهذا المصطلح للحديث عن حزب الله ليس بريئاً بعد أيام من تصريح الرئيس الأميركي جورج بوش عن «الفاشية الاسلامية» باعتبارها الخطر الشمولي الجديد. لقد وصل الأمر بالزعيم «التقدمي الاشتراكي» الى حد تبنّي مفردات الخطاب البوشي ومصطلحاته.
قسم آخر من رسائل النائب جنبلاط موجّه إلى الداخل اللبناني وهو الأخطر. فهو أصبح يتعمد إهانة مشاعر جمهور المقاومة، كما ذكرنا سابقاً، ويسعى لاستفزازه عبر التطرق الى قضايا عقائدية ودينية لإثارة ردود فعل ذات طبيعة طائفية وإيجاد أجواء من الاحتقان الداخلي علها تساعد على زعزعة الإجماع النسبي الذي ساد حول المقاومة خلال العدوان الاسرائيلي الأخير وما بعده، وتعيد إنتاج الاستقطاب السياسي الحاد الذي تلى جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري. طموحات استعادة زعامة دامت بضعة أشهر بعد اغتيال الشهيد الحريري، وحسابات أخرى مرتبطة بتحالفاته الإقليمية والدولية تدفعانه إلى محاولة استدراج حزب الله الى مواجهة داخلية ذات بعد مذهبي بدون أن يأبه بالمخاطر التي قد تقود اليها مثل هذه السياسات. لكن من يعتقدهم «كتلة صماء» سيفاجئونه بحكمتهم، كما فاجأوا غيره من اللاعبين الإقليميين والدوليين بصمودهم في الآونة الأخيرة.