صالح ج. آغا *
قبل الإجابة عن هذا السؤال، يجب أن نسأل عن طبيعة المعركة التي خاضها ويخوضها الحزب، وعن نوع الانتصار الممكن له تحقيقه في ظلّ ميزان القوى الحالي.
بداية، يجب أن لا يغيب عن بالنا أن الحزب يخوض أساساً معركة دفاعية عن وجوده كقوة سياسية وعسكرية لبنانية. وهو يخوض هذه المعركة ضد أقوى جيش في المنطقة. وفي هذه المعركة بالذات، يبدو هذا الجيش مدعوماً سياسياً، دبلوماسياً، وعسكرياً وبشكلٍ فاضح وغير مسبوق، من القوة العظمى الوحيدة في العالم، بالإضافة إلى كونه مدعوماً سياسياً ودبلوماسياً من العديد من الدول الأوروبية، وحتى بعض الدول العربية.
في حالٍ كهذه، فإن مجرد قدرة الحزب على الصمود والحفاظ على وجوده ــ بمعنى آخر، منع أعدائه من تحقيق أهدافهم وتكبيدهم خسائر عسكرية وسياسية ومعنوية كبيرة ــ هو إنجاز عسكري وسياسي ومعنوي كبير. والسؤال هنا هو: هل نجح الحزب في ذلك؟
فإذا كان الهدف من الهجمة على الحزب من كل هذه القوى هو القضاء عليه كقوة قادرة على المقاومة في الساحة اللبنانية ــ قوة منعت إدارة جورج بوش من استكمال «انتصارها الديموقراطي» في لبنان ــ فمن الواضح أن هذا الهدف لم يتحقق.
ورغم القيود المفروضة في القرار 1701 على تحركه، فمن الظاهر أن الحزب قد نجح في المحافظة على منظومته السياسية والتنظيمية، وأثبت قدرة فائقة وغير متوقعة على الثبات في أرض المعركة، مضيفاً بذلك درجة عالية من الصدقية على مزاعمه عن قدراته الدفاعية العسكرية. أما بالنسبة إلى محافظة الحزب على هذه القدرات، فتبدو مزاعم إسرائيل عن القضاء عليها في الميدان العسكري مبالغاً فيها كثيراً.
يبقى الميدان السياسي الناتج من القرار 1701، وتأثير هذا القرار على قدرات الحزب الدفاعية الرادعة لإسرائيل. ولكن هنا أيضاً، مع أن القرار المذكور يدعو في فقرته التنفيذية الثامنة إلى التطبيق الكامل لاتفاق الطائف والقرارين 1559 و 1680، اللذين يدعوان إلى نزع سلاح جميع الفئات المسلحة في لبنان، فمن الواضح أن نزع سلاح الحزب سيكون محكوماً بتوازنات وحوارات لبنانية داخلية شبيهة إلى حدّ كبير (مع بعض الفوارق) بما كان محكوماً به قبل نشوب هذه الحرب. فلا إسرائيل استطاعت، ولا أية قوة دولية تستطيع نزع سلاح الحزب من دون قبول الحزب بذلك ومن غير تدمير البلد. وهذا يبقي الحوار الداخلي سيد الموقف.
يبقى أن القرار 1701 يطالب بإبعاد حزب الله عسكرياً من أرض الجنوب ويدعو إلى انتشار الجيش اللبناني والقوات الشرعية اللبنانية فقط على جميع الأراضي اللبنانية (مدعومةً بقوات اليونيفل).
ولكن هذا يبقي مجالاً لإمكان عودة الحزب لاحقاً جزءاً من المنظومة الدفاعية اللبنانية الشرعية التي لا يمكن أن تُصاغ من غير توافقٍ لبناني يشكّل حزب الله جزءاً أساسياً منه. وعلى كل حال، يُبقي القرار 1701 آلية إبعاد الحزب من الجنوب غامضة، مما يترك مجالاً ممكناً للحزب بأن يحافظ على بعض وجوده العسكري في المنطقة، علماً بأن وجوده السياسي والاجتماعي مضمون، بل على الأرجح صار أقوى.
وبهذا المعنى، ورغم إجحافه وعدم توازنه والقيود التي يفرضها على لبنان وعلى حزب الله، سيبقى القرار 1701 موضع شدّ وجذب بسبب غموضه في بعض مواضعه التي ستسمح (نظرياً على الأقل) لحزب الله بالحفاظ على معظم مواقعه في شكلٍ أو آخر. لذلك، يمكن القول إن الحزب قد نجح في تحويل معركته من معركة عسكرية مدمرة، تهدد وجوده ووجود قاعدته الشعبية، وحتى وجود لبنان كدولة، إلى معركة سياسية داخلية إلى حدّ كبير، يملك فيها أوراقاً كثيرة وقوية.
أضف إلى ذلك الرصيد الكبير الذي أضافه الحزب الى سمعته على المستوى العربي والإسلامي ــ وخصوصاً على مستوى العلاقات السنية ــ الشيعية ــ وعلى مستوى حركات التحرر المناهضة للأحادية الأميركية في العالم. وهذا من شأنه أن يعزز أوراق الحزب الداخلية بعض الشيء.
بالطبع، جاء هذا الانتصار الحزباللهي على حساب ثمن كبير دفعه لبنان وبنيته التحتية، وخصوصاً على حساب ثمن باهظ جداً دفعته الطائفة الشيعية، قاعدة الحزب الشعبية. ومن الواضح أن هذا الثمن الذي دفعته وتدفعه هذه القاعدة، بالإضافة الى الثمن الذي دفعه وسيدفعه لبنان ككل، كانا من أهم العوامل التي دفعت الحزب إلى قبوله (المتحفّظ طبعاً) بالقرار 1701. فمصلحة الحزب الأهم في هذه الأوضاع هي في الوصول إلى وقف للعدوان على لبنان وعليه، وخصوصاً إذا كان هذا يحفظ للحزب وجوده الأساسي ويسمح له بالحفاظ على القدر الأكبر من استراتيجيته. وهذا يتطلب عودة قاعدته الشعبية إلى مجالها الجغرافي الطبيعي.
لا شك في أن لبنان دولةً ومجتمعاً قد خسر كثيراً بسبب هذه الحرب المفروضة عليه من إسرائيل والولايات المتحدة ــ وقد عملت الأخيرة المستحيل لإعطاء إسرائيل المزيد والمزيد من الوقت لاستكمال تدميرها للبنية التحتية للبلد وارتكاب مجازر مهولة. فقد تعرّض لبنان لعدوان شرس. ولكن مسؤولية هذا العدوان تتحمّله إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية على نحو أساسي. فلولا المباركة الأميركية لهذه الحرب الإسرائيلية، ولولا إصرار الولايات المتحدة على تطبيق القرار 1559 بأي وسيلة بما فيها العنف المدمّر للبلد، لما استطاعت إسرائيل المضي في عدوانيتها ووحشيتها.
ويبقى هذا الموضوع برسم «أصدقاء الولايات المتحدة» في لبنان من جماعات 14 آذار التي تحالفت مع واشنطن لتأمين نجاح «الثورة الديموقراطية» المزعومة ونظرت إلى الولايات المتحدة كحليفٍ يمكن «الاستفادة» من «تقاطع المصالح» معه، ضاربةً عرض الحائط بكل ما علمتنا إياه تجاربنا السابقة معها عندما يتعلق الأمر بإسرائيل، ومتناسيةً الطبيعة الإيديولوجية لهذه الإدارة الأميركية بالذات.
إذن، هل ربح حزب الله الحرب؟ الحزب نجح في الدفاع عن نفسه ببسالة وبراعة مدهشة، ونجح في الحفاظ على وجوده كأهم قوة شيعية على الساحة اللبنانية. أما لبنان فقد خسر كثيراً بسبب «احتضانه الخانق» من أصدقائه الجدد، محبي «الديموقراطية» وناشريها في المنطقة ولو على أشلاء أطفالها.
* كاتب لبناني