من بين المقالات القليلة التي أكملتها لجوزف سماحة نصٌّ يهاجم فيه الراحل رأس المال اللبناني بشدّةٍ ويقرّعه؛ ليس من منطلق أنه لا يلعب دور "برجوازية وطنية"، تقدمية وتنموية، بل من منطلق أنه لا يؤدّي، حتى بالمقياس الرأسمالي والليبرالي، الأدوار التي تلعبها ــــ تاريخياً وتقليدياً ــــ الطبقات الرأسمالية، كأن تفرض شروطاً على النظام، وتأخذ مواقف حازمة حين يلزم الأمر، وتجبر السياسيين على عدم تخريب الاقتصاد ــــ من أجل مصلحتها هي واستمرارها، لا من أجل الوطن.في الحقيقة، لا توجد رأسمالية في العالم تحتقر مواطنيها ووطنها كما في لبنان. حتّى في بلدٍ ليبراليٍّ استغلاليّ كأميركا، تحاول المصارف باستمرار تصنّع الوطنية، والتمسّح بالعلم عند كلّ فرصة. وفيما المؤسسات المالية ذات الأسماء العائلية و"اليهودية" تظلّ محصورةً في "وول ستريت"، فإن مصارف التجزئة، التي تتعامل مع الناس مباشرة، تحمل أسماء مثل "بانك أوف أمريكا" ( شعاره العلم الوطني) أو يختار المصرف رمزاً يحيل الى الذاكرة التاريخية للبلد ــــ عربة تجرّها خيولٌ تقلع صوب الغرب الأميركي… ومع أنّ المصارف هناك تؤدي المهمات التي تطلبها منها الدولة، داخلياً وخارجياً، بكلّ أمانة، وقد بنت ــــ تحت إشراف الحكومة ــــ أسواقاً كفوءة للتسليف والرهن العقاري وكل مستلزمات الرأسمالية الأميركية، فإن ملّاكها يعرفون جيّداً أن الناس تمقتهم، ويراقبون، بقلقٍ، تلذذ الجمهور بأخبار سجن المصرفيين ــــ ومطالبته المستمرة بأحكام إعدام في حقهم ــــ ويسجّلون كلّ هجومٍ يتعرّضون له في المهرجانات السياسية والإعلام.
في لبنان فقط، تشرح المصارف لزبائنها بكلّ وضوح أن القانون اللبناني لا يعني شيئاً، وتؤمّن لك ألف وسيلة للتهرّب من الضرائب وإخفاء الأموال. ولكنّ القانون الأميركي هو، لديها، "قانون البلاد"، وصولاً الى تطبيق العقوبات الأميركية ضدّ المقاومة (وتبّاً للوطنية، ومعها "السرّية المصرفية"، وكلّ ما يدّعيه القطاع المصرفي عن نفسه). لمن ليس مطّلعاً على ما يجري في لبنان: المسألة ليست في أن القطاع المصرفي قد قرّر الانصياع للعقوبات الأميركية ومنع من يظهر على لوائحها من تملّك حساباتٍ بالدولار (من الممكن، واقعياً، أن نقنع أنفسنا بأننا في عالمٍ ليست فيه سيادة مطلقة، وبأنّه في وسع أميركا، إن شاءت، أن تحظر أسواقها المالية، وبالتالي الدولار، على أعدائها، والمصارف اللبنانية لن تتطوّع لتحدّي واشنطن)، المسألة هي أنّ البنوك ــــ وبأمرٍ من المصرف المركزي ــــ ستلتزم بإغلاق كلّ الحسابات التي تظهر على اللوائح الأميركية، ولو بالعملة اللبنانية، وتحاصر هؤلاء الأفراد والشركات والمؤسسات وتحظرهم عن القطاع المصرفي بالكامل. ولأنّ هذه اللوائح تصدر عن حكومة أجنبية، لا يمكننا التحكم فيها ولا تفنيدها، فهي قد تضمّ أيّ شخصٍ وقد تتسع لأي مقدار، ومن الممكن أن تطال أياً منّا لسببٍ أو بلا سبب، والمصارف قد تطوّعت مسبقاً لأن تكون أداةً لتنفيذ هذه العقوبات، والأميركيون والاسرائيليون ينوون استخدامها الى الحدّ الأقصى (وكي لا يظنّ أحد أن الحادثة "تمثيلية" لخداع الأميركيين، أو أنها ستحلّ بسهولة "بالحوار"، فإن المسألة جديّة للغاية، والمعلومات الواردة عن المفاوضات بين القطاع المصرفي ومسؤولي الادارة الأميركية تعطي صورةً بشعة عن موقف المصارف).
المفارقة الأكبر ليست هنا، بل هي في أنّ هذه المصارف، تحديداً، تتعامل مع مواطنيها بلا اعتذاريات، بل وتقدّم نفسها ــــ بلغةٍ فوقية ــــ على أنّها "عطية" للبنان، يجب علينا شكرها، والتضامن معها، وأن نجثو أمام الحائط المتضرّر للمصرف في "فردان" ونضع أكاليل الزهر. في لبنان، دعت "أحزابٌ" منذ أيّام لتظاهرةٍ "دعماً للقطاع المصرفي" (على حدّ ما أعلم، لم يحصل مثل هذا في العالم يوماً ــــ أن يتظاهر أناسٌ دعماً لمصارف)، وقد استهلّ سعد الحريري إفطاراً منذ أيّام بالطّلب من الحضور الوقوف "دقيقة تصفيقٍ"، تحيّةً للمصارف (تصفيقٌ للبنوك، خلال إفطار، في شهر رمضان، هل يفهمون كم هم كاريكاتور؟). والقطاع المصرفي، حين يحاول أن يبرّر وجوده وأرباحه ونظرته المتعالية الى نفسه، يكرّر لازمة أنه يدفع ضرائب للدولة ــــ يا للغرابة ــــ من دون ذكر مليارات الدولارات التي يأخذها، في المقابل، من دافعي الضرائب فوائد على الدين العام؛ ثم يذكّر، ويمنّن، بعدد الموظفين في القطاع، كأن الرواتب التي يدفعها لمن يصنع أرباحه هي هبةٌ أو حسنة. والمثير في الموضوع أنّه لا يحقّ لأحد أن يتصرّف بأبويّة، أو يدّعي أنّه يحيي الاقتصاد أو "يحفظ" النظام، فلا اقتصاد في لبنان ولا توازن لولا تحويلات المغتربين (التي لا يخلقها النظام ومصارفه ولا يجتذبها، بل يستفيد منها فحسب)، ولو توقّفت هذه التحويلات غداً لانهارت الليرة وتوقّفت الأعمال فوراً، ولن ينقذنا حينها القطاع المصرفي ولا "حكمة" مصرف لبنان.

النظام والمقاومة

في تعريفٍ شهيرٍ للوطن (أو للمنزل الأوّل)، صاغه روبرت فروست، يُقال إن الوطن هو المكان الذي "إن كنت مضطراً الى اللجوء اليه، فهو مجبرٌ على استقبالك". يبدو أنّ النخبة اللبنانية مصرّةٌ على حرماننا من أيّ مفهومٍ لـ"الوطن"، حتى في صيغته البديهية والبدائية، كملجأ ودرع. ولو أُتيح لهم الأمر، لجعلوا من "وطننا" مكاناً تطاردنا فيه القوانين الأميركية، وتسرح فيه فرق الاغتيال الاسرائيلية، وتحرسه "شرطة دولية". نواجه هنا ما يمكن تسميته "المسألة اللبنانية". وهي، باختصار، الاعتقاد السائد بأن النظام اللبناني عصيّ على التغيير، وهو طائفي وتحاصصي، لا يمكن لأي طرفٍ فيه الهيمنة (حتى ولو فاز في الانتخابات)، وتحكمه نخبةٌ مكرّسة قديمة، فلا جدوى من السعي الى إصلاحه، بل إن الوصول الى صفوف الحكم فيه، وبشروطه وضمن لعبته، يستدعي تنازلاتٍ تنفي فعالية أي مشروعٍ تغييري. هذه الحال هي ما يجعل أكثر اللبنانيين، من كلّ منبتٍ، يشتركون في الشعور بالغربة عن وطنهم وشؤونه، وأن لا يد لهم في الخيارات الأساسية للبلد، ويكون سقف الطموح هو في التسلّق، فردياً، الى هذا "النادي" (وقمته مكوّنة من مئات الأشخاص لا أكثر) الذي يحكم البلد، ويملك المال والسلطة، ويتزاوج بعضه من بعض في مجتمعٍ مغلق، وما الذي يقدّمه لنا، في المقابل؟
لا يكفي لتفسير النظام اللبناني أن نقول إنّه "طائفي"، فالأنظمة الطائفية تأتي بأشكال متعددة (بعضها ديمقراطي تنافسي، وبعضها عدائي، وبعضها فولكلوري تعايشي)، وصفة "الطائفية"، وحدها، لا تشرح لنا لماذا تحكم لبنان أوليغارشيا صغيرة، حولها مصالح وشركاء، وتحتها طبقة وسطى ميسورة "معولمة"؛ وهم لا يشكلون، مجتمعين، أكثر من عُشر البلد. من شاء نقد النظام أو تغييره، فهو هنا، وليس في شخص وزيرٍ أو عنصر أمن. هذه النخبة، التي تعيش بين لبنان والغرب وترتبط مالياً بالخليج، من الطبيعي أن تنصاع للعقوبات الاميركية وأن ترى أن قطعنا عن النظام المالي الأميركي، أو معاداة السعودية لنا، ستكون "نهاية العالم" (هو، بالفعل، نهاية العالم بالنسبة اليهم). لهذا السبب، يرى هؤلاء أن الارادة الأميركية هي "قدر"، وأفراد هذه النخبة، أنفسهم، كانوا "ينصحون" اللبنانيين، منذ بدايات الاحتلال، بأن لا يضيّع اللبنانيون وقتهم وتضحياتهم في "حركات" مقاومة من هذا النوع، فقدر لبنان هو الانتظام في السياق الأميركي والخليجي، ولا مكان فيه ــــ عاجلاً أو آجلاً ــــ للـ"مقاومة" وما يشبهها.
نجد هنا ما يماثل قضيّة أمين معلوف، وشروط الدخول الى "النخبة العالمية"، أو ثمن أن تكون في المنظومة الأميركية ومشاركاً سالباً في "العولمة"؛ والأوليغارشيا اللبنانية قد أخذت خيارها، وهي لا يمكن ــــ حتى إن أرادت ــــ أن تتخيّل اقتصاداً ونظاماً مالياً لا يقوم على الانفتاح على أميركا والسمسرة للخليج (وماذا ننال، تحديداً، من العلاقة مع أميركا؟ وما هي الاستثمارات والمنافع التي تصلنا منها؟). قد يجزم البعض بأنّ اقتراح "نظامٍ بديلٍ" هو كلامٌ غير واقعي، حتى فيما النظام الحالي يترنّح، ويصدر كل الإشارات بأنه على وشك السقوط. انعدام الواقعية، حقيقةً، هو في أن نترك هذا النظام على مساره الحالي ونحن على متنه. عقوبات المصارف ليست الّا بداية، والمقاومة فهمت أنّنا لم نعد في التسعينيات، حين لم يكن أحدٌ ــــ من داخل النظام ــــ يتجرّأ على المقاومة، وكان في وسعها الانسحاب من السياسة، وأن تعتمد على قوى وأن تثق بأخرى.
يحكم الكثيرون بأن حرب سوريا وبالٌ على "حزب الله" في لبنان، ومأزقٌ سياسي له؛ ولكن الحرب، على الأقلّ، قد أدامت شعوراً بالتهديد والخطر، وفهماً لدى الجمهور بضرورة المعركة والاستعداد لها، وأهمية المنظومة العسكرية ومصير جبهات المنطقة. أمّا حين تنتهي المعارك في سوريا، أو تخفت، ويزول الشعور بالتهديد ويلتفت الناس الى أوضاعهم، فسيخرج صوتٌ، لا محالة، يسأل عن الهدف من "المقاومة"، وسبب العسكرة، ولماذا نتحمّل العقوبات والعزلة ونعادي أميركا وإسرائيل؛ وننتظر حرباً مدمّرة على الدوام بدلاً من أن يكون الجنوب سلاماً وسياحةً واستثمارات ــــ أمن أجل فلسطين والفلسطينيين؟ ــــ هذا الصّوت سيخرج بلا ريب، وسيخرج في الوقت المناسب، حين يكون له وقعٌ وحجّة، والسياق يُعدّ له على أكثر من صعيد.
هناك مقولةٌ ماركسيّة بمعنى أن الرأسمالي مستعدّ لارتكاب الكذب من أجل ربحٍ بقيمة عشرةٍ في المئة، ولأن يخون شرفه من أجل عشرين، وأن ينتهك الشرائع مقابل ثلاثين في المئة. النخبة التقليدية في لبنان ليست مستعدّة لأن تتعايش مع اقتصادٍ يحمي المقاومة، ولا يعتاش على فتات الخليج، وينظر الى دمشق وبغداد وطهران ــــ عمقنا الحقيقي ــــ بدلاً من واشنطن وباريس، ولكن غيرهم قد يكون مستعدّاً لذلك. العقوبات الأميركية تستهدف أناساً يربطهم بهذه الأرض ما هو أقوى وأعمق من المال والحسابات المصرفية، وهم مستعدّون للذهاب الى ما هو أبعد بكثيرٍ مما يتصوّره أكثر الرأسماليين جشعاً وضراوةً من أجل الدفاع عنها، ولكلّ امرئ ما كسب.