شكّل انهيار مرحلة الحرب الباردة، إضافة إلى تراجع المنظومة الاشتراكية على المستوى العالمي، وظهور انزياحات فكرية وسياسية وأيديولوجية، وأخرى تتعلق بالعقائد العسكرية، مدخلاً إلى تحولات عالمية تفتح الباب واسعاً أمام تساؤلات تتعلق بمستقبل الملامح السياسية للقرن الحالي، واتجاهات النظام العالمي بعد «تصدع الشمولية» وانهيار بعضها، وهبوب «رياح الديمقراطية». وجميعها تحولات تقض مضاجع الحكام والشعوب في أربع جهات العالم. في الإطار ذاته، فإن تسارع التحولات التي نشهد بعضاً من تجلياتها في عالمنا العربي. وتعاظم تأثير الثورة الرقمية والعلمية والتكنولوجية. يجعلنا ندرك أننا في سياق لحظة عالمية تسودها تحديات مختلفة ومتباينة. وعليه فإن المعرفة الدقيقة لأوضاعنا العربية السياسية منها والاقتصادية وأيضاً الاجتماعية، وارتباطها بالتحولات العالمية، تشكل تحدياً كبيراً للسياسيين والمثقفين وبشكل خاص الجهات البحثية المتخصصة، فيما يشكل البحث في التساؤل عن: «هل نعيش نحن العرب، الزمان العالمي؟ أم أننا نعيش زماناً عربياً مفارقاً»؟. مدخلاً لتحديد ملامح اللحظة العربية الراهنة، وبالتالي الإجابة عن التساؤلات المفصلية.
فإذا قارنا أوضاعنا العربية الراهنة مع التقدم الغربي الناتج عن تراكم تاريخي شامل وعميق. نلحظ أن الأوضاع في عالمنا العربي تتسم باستمرار تفاقم التخلف الاقتصادي والتصدُّع الاجتماعي والتراجع الثقافي. وجميعها عوامل ساهم في تكريسها الاستبداد السياسي. ويندرج في ذات الإطار اشتغال أنظمة الاستبداد على تجويف المجتمع وتفريغه من طاقاته البشرية الإبداعية، وتجفيف منابع الفكر السياسي، وبشكل خاص المعارض، وصولاً للجم وتقييد وقمع حوامله الشعبية، وفي أدنى الأحول تهميشها، أو استتباعها وتحويلها لأدوات تدور في فلك السلطة. وتجلى ذلك سورياً في إلحاق السوريين من مختلف الأعمار إلى المنظمات الشعبية منها والسياسية الرسمية. وجميعها أسباب وعوامل ساهمت في وصولنا إلى اللحظة الراهنة.
تعاني مجتمعاتنا بعد «الربيع العربي» من فوضى تساهم
في زعزعة أسسها

لكنَّ ذلك لا يعفينا من التساؤل عن ارتباط أوضاعنا الراهنة، بالتحولات العالمية، وسياسات دول كبرى، ما زالت حتى اللحظة وبغضِّ النظر عن مستوى ارتباط الأنظمة العربية بها. تمارس سياسات معولمة لا تمت للديمقراطية بصلة. ويتقاطع ذلك مع سياسات لها، اقتصادية استتباعية احتوائية أساسها الاحتكار والنهب والسيطرة. ما يعني أن استمرار دعم أنظمة سياسية بعينها. أو محاولات إسقاط أخرى بالقوة العسكرية، كالذي نشهده في سوريا. ليس لها علاقة بطبيعة وبنية النظام السياسية، حتى وإن أظهرت الحرب الإعلامية ما يخالف ذلك. ما يعني أن أوضاعنا الراهنة ترتبط بشكل مباشر بتحولات وتغيرات بنيوية سياسية واقتصادية عالمية تتسم بالاستقطاب والاضطراب.
من جانب آخر، فإن ارتفاع مستوى التخلف العربي وتنوع تجلياته، مقابل تصاعد وتيرة التطور الغربي يدفعنا للتأكيد على أننا نعيش لحظة مفارقة للزمن العالمي تتجاوز في أبعادها أنماط التفكير وأشكال المعيشة. ولا يكفي في هذا المجال اتهام أنظمة الاستبداد بما آلت إليه أوضاعنا من بؤس وتخلف. رغم إدراكنا للعلاقة التاريخية البنيوية والعضوية بين الاستبداد والتخلف. لكن الحكومات الغربية تتحمل جانباً كبيراً من المسؤولية. فالأخيرة اشتغلت على مدار عقود سابقة وما زالت، على تعميق التخلف والتفتت العربي. ولم يتجلَّ ذلك فقط من خلال دعمها أنظمة أمر الواقع، أو حتى محاربة بعضها لأسباب ليس لها علاقة بالقيم «الديمقراطية الغربية». لكن أيضاً من خلال استمرارها في اعتماد سياسيات استعمارية نيو ليبرالية عمقت من إقصائنا كشعوب ودول عن لحظة التطور والحداثة. وما نشهده حالياً من فوضى واضطرابات وتناقضات وحروب في غير دولة عربية، يشكل امتداداً للفوضى والاضطراب والتناقض، التي تتسم بها اللحظة العالمية الراهنة.
إن ما يمر به عالمنا العربي، وبشكل خاص سوريا من أزمات اقتصادية وسياسية وأخرى اجتماعية. إضافة إلى الأزمة البنيوية لنظام الحكم. يكشف عنه تفكك اجتماعي، وتحلل للقيم السائدة، وتنافر مختلف ضروب السلوك السياسي والاجتماعي سواء لدى النخبة أو الجماهير. وهو يرتبط كما أسلفنا باضطراب يشكل سمة العصر العالمي. لكننا من جانب آخر ما زلنا نعيش لحظة ذاتية خاصة تتسم بالتناقض والتداخل والتفارق بين: وعي مشيخي سلفي يقوم على النقل، واعتماد التكفير بديلاً من التفكير. ثانياً تفكير إسلامي يدعو إلى قراءة عصرية للتراث الإسلامي، ويؤكد أصحاب هذا التيار عدم تناقض الفكر الإسلامي مع التطورات العلمية، ثالثاً: وعي ليبرالي يدعو إلى القطع مع التراث وتبني الفكر الغربي بالكامل سياسة واقتصاداً وثقافة. رابعاً: هياكل سياسية شيوعية ينطبق على بعضها مصطلح «محنطات». وأخرى متلبرلة فقدت علاقتها بالمجتمع، بعدما أضاعت أدوات التحليل الماركسي العلمي وبشكل خاص الطبقي منه. أما الأحزاب القومية العربية الحاكمة منها، وأخرى خارج السلطة، فإنها تعاني تناقضاً بين أهدافها الوحدوية والتنموية من جهة، وبين واقع جيو سياسي يزداد انقساماً. ويتزامن ذلك مع تفاقم حدة الشرخ بين الدولة «السلطة» والمجتمع. وابتلاع السلطة «الحاكم» للدولة والمجتمع.
في السياق فإن عالمنا العربي يعاني بشكل عام، وتحديداً بعد اندلاع «ثورات الربيع العربي» من فوضى، تساهم في زعزعة أسس مجتمعاتنا، وتهدد وجودها الذاتي. ويتزامن مع ذلك تصدع النظام العربي، وأيضاً الدولة القطرية. ويتجلى ذلك بتراجع وتلاشي تأثير النظام العربي في التحولات العالمية الراهنة. وذلك لا يتعلق فقط ببنية مجتمعاتنا، وتحول أنظمتنا السياسية إلى أدوات لنظام العالمي يزداد اضطراباً وتناقضاً. لكنه يرتبط بالغزو الأميركي للعراق الذي شكل فاتحة للانهيار العربي. فالتناقض الذي تعاني منه مجتمعاتنا العربية، إضافة لطبيعة النظام السياسي، وتقاطعه مع لحظة اضطراب عالمي. شكَّل مناخاً مناسباً لانتشار وتمدد ظاهرة إرهاب معولم لم تقف تجلياته الصارخة في سورية والعراق بشكل خاص، إذ تأثرت به دول أوروبية متعددة منها فرنسا وبلجيكا، وأيضاً الولايات المتحدة الأميركية، تحديداً بعد ظهور تنظيم «داعش» وقيامه وأخواته بمذابح مروعة تذكرنا بفظاعات القرون الوسطى. وأيضاً بتنبؤ نيتشه بأنَّ القرن الواحد والعشرون سيكون قرناً عدمياً، وكذلك بتوقّعات أندريه مارلو بأنّه سيكون قرناً دينياً. فاللحظة الراهنة يجتمع فيها الديني والعدمي. ما يعني التقاء العدم بالمطلق، والعبث بالمُقدّس. وجميعها عوامل تشير إلى أنَّ النظام العالمي يعاني من فوضى واضطراب بنيوي.
* باحث وكاتب سوري