الأكاذيب الأميركية عن البرنامج النووي الإيراني لا تزال مستمرة. ولكي تتمكن واشنطن من فرض وجهة نظرها على «الوكالة الدولية للطاقة الذرية»، أرسلت قبل فترة الممثل الدائم لها في الأمم المتحدة نيكي هايلي، للقاء المدير العام للوكالة يوكيا أمانو لإقناعه بأن إيران خرقت الاتفاق النووي ولم تلتزم بتعهداتها.
وفيما ترصد أجهزة الرقابة والاستخبارات الأميركية عشرات المراكز النووية والمواقع العسكرية الإيرانية، على أمل اكتشاف أي نوع من النشاطات النووية السرية في البلاد، أشار نائب القائد العام للجيش والقوات المسلحة الأميركية الجنرال باؤول سلفا، في تموز الماضي، إلى أن «الأدلة التي عثرت عليها أجهزة الاستخبارات الأميركية تشير إلى التزام إيران بتعهداتها التي ينص عليها الاتفاق النووي». وبناءً عليه، يدرك الأميركيون جيداً عدم وجود أي دليلٍ على خرق إيران بنود الاتفاق النووي. فما من حاجة كي تقوم «الوكالة الدولية» بتفتيش مئات المواقع «المثيرة للشك»، بوصف هايلي.
بعد الاتفاق النووي، لم تغيّر طهران ــ إطلاقاً ــ مسيرتها العلمية في تطوير الصناعات والعلوم الذرية بهدف التخصيب، لأن تخصيب اليورانيوم اليوم يحظى بأهمية اقتصادية بالغة بالنسبة إلى جميع الدول النووية، ومن بينها إيران، إذ تقوم هذه الدول بالتخطيط والاستثمار في هذا المجال. 40 بالمئة من قيمة الوقود النووية لكل دولة متعلقة بشكلٍ مباشر بمنشآت التخصيب التي تمتلكها، والقلب النابض لهذه المنشآت هي أجهزة الطرد المركزي المعروفة باسم سانترفيوج. هذه هي الاستراتيجية التي تنتهجها إيران بعد الاتفاق النووي بشكل شرعي، وطبق الأعراف الدولية.
تريد أميركا أن توقف هذا التطور والمد العلمي في إيران لأنها تعلم جيداً أن الأخيرة بعد الاتفاق النووي حصلت على اعتراف دولي من قبل جميع الدول الأعضاء في مجلس الأمن، بحقها في تطوير برنامجها النووي للأغراض السلمية. في الحقيقة، حازت إيران انتصاراً سياسياً وصناعياً وعلمياً كبيراً في مجال العلوم النووية، ويأتي ذلك في وقتٍ تخضع فيه لأشد أنواع الرقابة والتفتيش التي تفرضها «الوكالة الدولية». أمانو الذي اعتبر الاتفاق النووي مع إيران أحد أبرز الإنجازات الدولية المعاصرة، وصف الاتفاق بـ«الإنجاز الواضح لاختبار نيات إيران النووية»، قائلاً إن «ايران تخضع لأشد نظم الرقابة في إطار التحقق من نياتها النووية، ومفتشو الوكالة يراقبون على مدار الساعة... المواقع النووية الإيرانية من خلال الكاميرات الدائمة وأجهزة حديثة أخرى».
وعلى خلاف الادعاءات الأميركية وأكاذيب هايلي، فقد صرّح المدير العام لـ«الوكالة» بأن «إيران قبلت الكثير من القيود التي تم فرضها على برنامجها النووي، وأنها فتحت المجال أمام الوكالة الدولية للوصول إلى المواقع والمعلومات المتعلقة بملفها النووي بشكل أوسع من ذي قبل».
ما قاله أمانو يؤكد أن إيران تخضع لأشد أنظمة المراقبة هو الحقيقة بعينها. فمنذ إبرام الاتفاق النووي، تخضع طهران شهرياً لعمليتَي تفتيش مفاجئ، كما أن عدد عمليات التفتيش التي تخضع لها المنشآت النووية الإيرانية ــ مقارنة مع السنوات الخمس السابقة ــ تضاعفت بنسبة مئتين بالمئة، إذ خضعت المنشآت النووية خلال اثني عشر شهراً بعد الاتفاق، لـ 402 عملية تفتيش وخمس وعشرين عملية تفتيش مباغتة، وتأكيد جميع التقارير الرسمية التزام طهران بكامل تعهداتها التي ينص عليها الاتفاق.
وتواصل إيران استراتيجيتها الرامية إلى تطوير برنامجها النووي للأغراض السلمية، وفي هذا السياق استعرضت «المنظمة الإيرانية للطاقة الذرية» قدراتها من خلال إقامة معرض قدمت فيه الأجيال المختلفة من أجهزة الطرد المركزي «P1» إلى «IR6» و«IR7»، بينما اعتكفت عن عرض «سانترفيوج IR8»، وهو من أجهزة الطرد المركزي الأكثر تطوراً وحداثة بسبب الزيارات المتكررة للمفتشين الدوليين، والتأكيد على عدم استخدام إيران لهذا الجهاز. اللافت أن جهاز «IR8» هو صناعة إيرانية خالصة مئة بالمئة، ما يشير بوضوح إلى تطور قدرات إيران في صناعة أجهزة الطرد المركزي الحديثة.
صحيح أن إيران وافقت بموجب الاتفاق على فرض بعض القيود على نشاطاتها النووية، وخاصة في مجال تخصيب اليورانيوم، إلا أن الضمانات الدولية التي حصلت عليها بموجبه أتاحت الفرصة للعلماء والباحثين الإيرانيين لتطوير أبحاثهم في مجال تطوير أجهزة الطرد المركزي ذات الإنتاج المرتفع، في منشأة نطنز يوجد حالياً 5060 جهاز سانترفيوج، وفي الوقت الذي تراقب فيه «الوكالة الدولية» نشاطات إيران من خلال الكاميرات المستقرة فيها بشكلٍ دائم.
تفيد تقارير «الوكالة»، وتصريحات المسؤولين الإيرانيين عن وجود تسعة آلاف جهاز طرد مركزي كانت تعمل في منشأة نطنز قبل الاتفاق، وقد تم خفض عددها إلى 5060 جهازاً. ويؤكد المسؤولون في المنشأة أنه تم تجميد عمل ثلث أجهزة الطرد التي كانت تعمل فيها، كما تم جمع عشرة آلاف سانترفيوج كانت على وشك أن تدخل حيز العمل في «الصالة A» قبل الاتفاق النووي.
ورغم التزام طهران ببنود الاتفاق، أكّد رئيس «المنظمة الإيرانية للطاقة الذرية» علي أكبر صالحي، أن إيران يمكنها العودة بسرعة فائقة إلى مرحلة ما قبل الاتفاق النووي، في حال خرق الطرف المقابل الاتفاق. وقال إن طهران «تدرس مقدار الفائدة التي ستعود عليها من خلال التزامها بالاتفاق النووي، وتقيّم الأضرار الناجمة عن الاتفاق وتقايض بين الأمرين». وأضاف أنه في حال انسحاب أميركا من الاتفاق، والتزام الدول الأخرى، فمن المحتمل أن تستمر إيران في التزامها بتعهداتها.
ربما يريد صالحي من خلال هذا التصريح القول إن بلاده لا تقيم أي اعتبار للتصرفات الأميركية، فإيران عملياً لم تأت بأي ردّ على الخطوات الأميركية التي خرقت بشكل واضح الاتفاق النووي، في حين أنها ــ ومن دون أدنى شك ــ سوف تعود إلى مرحلة ما قبل الاتفاق النووي، لو كانت هذه الخروقات من قبل بقية الدول الأخرى المعنية به.
التطورات السياسية والعلمية تؤهل إيران لأن تكون في زمرة الدول النووية الكبرى. فإيران تصرفت بحنكة وذكاء عندما وقّعت الاتفاق، ووافقت على فرض بعض القيود على برنامجها النووي، لكنها توصلت إلى أحدث التقنيات النووية للأغراض السلمية. فهي تمتلك حالياً أجهزة طرد مركزي من نوع «IR2m»، وفي حال قرر المسؤولون العودة إلى مرحلة ما قبل الاتفاق النووي، فإنه سيكون جاهزاً لدخول الخدمة، كما أن إيران تملك في مستودعاتها عدداً كبيراً من أجهزة «P1» والأجيال «IR6» و«IR4» جاهزة لتخصيب اليورانيوم على أعلى المستويات. ويؤكد المسؤولون الإيرانيون أن إيران تستخدم أجهزة وتقنيات أكثر حداثة في منشآتها النووية، وتقوم بتنسيق الأجهزة القديمة وتضعها خارج الخدمة وتستبدلها بأجهزة ومعدات أكثر حداثة.
وفي حين زعمت بعض وسائل الإعلام أن الصور والأفلام التي تلتقطها الكاميرات المنصوبة في المنشآت النووية يتم إرسالها إلى خارج البلاد عبر الشبكة العنكبوتية، أكّد رئيس منشأة نطنز النووية أن هذه الادعاءات هي شائعة ليس إلا، مشدّداً على أن إيران لا تسمح للمفتشين بإرسال هذه الصور أو مقاطع الفيديو إلى خارج البلاد، أو امتلاك المقاطع المصوّرة أيضاً.
الآن، وبعد مرور أكثر من عامين على الاتفاق النووي، يمكن القول إن إيران نجحت في الحفاظ على مصالحها الاستراتيجية في برنامجها النووي للأغراض السلمية بشكل كامل من خلال مفاوضات رابح ــ رابح مع دول 5 + 1، كما وصفها الرئيس الإيراني حسن روحاني، وهذا الأمر يمهد الطريق أمام طهران لتصبح إحدى الدول النووية العظمى، بعد انتهاء المدة المحددة في الاتفاق.

*صحافي إيراني