«لتغيير الإنسان بأعمق ما فيه» من شعارات الثورة الثقافية

«خلال الثورة الثقافيّة، تمكّن ماو تسي - تونغ ومؤيدوه، عبر تحريك حشودٍ هائلة من النّاس، من التصدّي لموجة ردّةٍ رأسماليّةٍ عظيمة. ستتبعها موجاتٌ أخرى من دون شكّ. ستستغرق المسألة عقوداً، بل ربما قرناً أو قرنين، قبل أن تتمكّن الطبقة العاملة من بناء الاشتراكية في بلدٍ واحدٍ، وبشكلٍ متينٍ الى درجة أن لا يعود تحدّيها ممكناً بعد ذلك. في الحقيقة، فإنّ هذا لن يحصل على الأرجح قبل أن تتأسّس الاشتراكية على المستوى الكوني»
وليام هِنتون


حين نشر آلان باديو كتابه «الفرضية الشيوعيّة»، وفيه إحالات عديدة الى «الثورة الثقافية» في الصين الماويّة، ودعوات للاستيحاء منها في العمل السياسي المعاصر، ردّ عليه محرّر «ليبراسيون» (الـ«يسارية») لوران جوفرين بنقدٍ عنيف، يذكّره فيه بالآلاف الذين قضوا خلال سنوات «الثورة» (بين 1966 و1977)، ويتّهمه بأنّه «ديناصورٌ متحجّر». ردّ عليه باديو بنصٍّ عنوانه «من العتيق آلان باديو الى الجذّاب المدهش لوران جوفرين» جوهره أنّ جوفرين ومن مثله ليس جاهلاً فحسب، بل هو يريد تجهيل الناس. الثورة الثقافية كانت أهمّ حدث سياسي في العقود الأخيرة، وحرّكت عشرات (أو مئات) الملايين من الناس في نشاطٍ وصدامٍ وصراع، وهي تكتنف الكثير من معضلات عصرنا وأمثولاته، ولكنّ جوفرين وأشباهه، بحسب باديو، لا يحتاجون الى معرفة أيّ شيء عمّا جرى. يكفي أن يرفعوا لافتة عليها «أرقام ضحايا» (من دون أن يعرف أو يقول شيئاً حقيقياً عن هوية هؤلاء الضحايا أو كيف ماتوا وفي أي ظروف) ثم يصرخون عن «التوتاليتارية الشيوعيّة» ويقفلون الموضوع وقد ضمنوا بأنّ النّاس، مثلهم، ستظلّ جاهلةً وترتدع عن التشكيك في هذه السرديّة.
يذكّر باديو خصمه بأنّ الحرب العالمية الأولى، مثلاً، قتلت في فرنسا أناساً أكثر بكثير، بأضعافٍ مضاعفة، من عدد ضحايا الثورة الثقافية وصداماتها (من دون أن نأخذ في الاعتبار أن عدد سكان الصين أكبر بعشرين مرة من سكّان فرنسا). هذه الحرب، يضيف الفيلسوف الفرنسي، خاضتها حكوماتٌ أكثرها ديموقراطية ليبرالية، فيها مجالس تمثيلية وضمانات للحريات والعمال، وبعضها فيه أحزابٌ تقدمية قويّة. وهي كانت حرباً بلا هدفٍ من أيّ نوع ولا يمكن أن تخرج منها بأي أمثولة. ملايين الشباب تمّ تحريكهم لأجل الموت من دون سببٍ أو نتيجة، وهذه ليست إلّا حرباً واحدة من بين عدّة حروبٍ خاضتها هذه الدول الديموقراطية في أوروبا وخارجها. ملايين الأجساد الشابة تمّ تمزيقها على الجبهات، ولا يمكنك أن تتعلّم شيئاً واحداً من كلّ هذا الموت أو تعطيه تبريراً. ومع ذلك، لا أحد يرفع لافتة بأعداد الضحايا حتى يشتكي من «التوتاليتارية الديموقراطية». وهم بالطبع لا يفعلون ذلك مع الثورة الفرنسية (التي سببت حروباً وأدت الى مقتل مئات الآلاف وأعدمت شعراء ومبدعين) وهذا ببساطة ـــ يقول باديو ــــ لأنّ جوفرين يعرف شيئاً ما عن سياق الثورة الفرنسية، على عكس الصين، وكيف حدث ما حدث.
الحركة الشيوعيّة (والماويّة خاصّة) هي الطّور الأخير من «الثورة» في عالمنا، وآخر من رفع شعار الاشتراكية بين الناس في عصر الحداثة؛ وهي التجربة الأقرب إلينا زمنيّاً، وفي صعودها وفشلها وإشكالياتها أمثولات ـــ يقول باديو ـــ أكثر راهنية وأهم بكثير من أيّ شيءٍ يمكن أن تتعلّمه من الثورة الفرنسيّة، أو من النموذج الليبرالي الذي، بحسب باديو، استنفد نفسه فلسفياً منذ أواسط القرن التاسع عشر. إن كان هذا الصنف من «المعرفة» ضرورياًَ، في عرف المثقف الباريسي، للحركات السياسية في الغرب، فإنّه في بلادنا (حيث تحقّق، على الأرض، أسوأ ما يحذّر منه باديو في كتاباته عن عالمٍ مستقبلي تهيمن فيه الرأسمالية ويموت المجتمع ويسودّ الأفق بحروبٍ لا تنتهي) هو فرضٌ إجباريّ.

أن تقرأ المرحلة
يبدأ السؤال من هنا: ما الذي دفع ماو أصلاً الى هذه المقامرة؟ بعد أن تُحرّر البلد وتنتصر، وتُنشئ دولة حزبية مهيمنة وتحوز استقراراً وتبدأ بالبناء؛ لماذا تخاطر بهذا كلّه حتى تطلق «ثورة من داخل النظام الاشتراكي»، تهزّه وتدخله في المجهول وتهدّده بأكمله؟ ما الذي رآه ماو في سنواته الأخيرة، وأصابه بذعرٍ الى درجة أن يتوجّه الى النّاس مباشرةً، وأن يضع كلّ شيءٍ على المحكّ ويطلب منها أن تثور على طريقتها، وأن تستردّ بلدها قبل أن يضيع؟
المشكلة هي أنّ في وسعك أن تقرأ مرحلة الثورة الثقافية بأكثر من طريقة، وهي لن تكون خاطئة بالضرورة. من الممكن أن تصوّر الثورة الثقافية، ببساطة، على أنها كانت صراعاً على السّلطة داخل الدولة، بين المجموعة الماوية («عصابة الأربعة»، وعلى رأسهم زوجة ماو، جيانغ كينغ) من جهة، والجناح الحزبي الحاكم (يقوده ليو شاوكي ودِنغ شياوبينغ)، والاثنان يحرّكان، من مقرّهما، قواعد شعبية وحزبية تتصادم، وهذا لن يكون خطأً بالكامل. من الممكن أن تسرد الثورة الثقافية على أنّها كانت محاولة رومانسية فاشلة للانقلاب على الحزب من خارجه، وتطهيره وإقصاء أعداء ماو، وهذا ليس توصيفاً خاطئاً أيضاً. والبعض يرى تلك المرحلة على أنها فترة اضطرابٍ وقلاقل فحسب، وهذا ليس بعيداً عن الصّواب. فـ«الثورة الثقافية البروليتارية العظمى»، كما يشرح وليام هِنتون، كانت كلّ هذه الأمور وأكثر (هِنتون خبير في الاقتصاد الريفي، وقد عاش في الريف الصيني لسنواتٍ طويلة، خلال «الثورة الثقافية» وبعدها، وتقلّب موقفه من تأييدها في بداياتها الى معارضتها ونصرة فريق دِنغ، ثمّ الدفاع عنها مجدّداً بعدما تسلم جناح دِنغ الحكم وأطلق «الإصلاحات»)، بل إنّ آلان باديو في نصّ محاضرةٍ عن الثورة الثقافية من عام 2005، ألقاها في «نادي كتّاب باريس» (واستعاد الكثير من أفكارها في كتابه اللاحق «الفرضية الشيوعية») يذهب الى ما هو أبعد من ذلك (على الهامش: الشكر لعلي القادري الذي زوّدني بنصوصٍ وتوصيات حول الموضوع).
يقول باديو إنّ الرّواية «الرسمية» عن تلك الحقبة، التي تقرأها في الأكاديميا الغربية المعادية للشيوعية وأيضاً في نصوص النخبة الصينية التي حكمت البلد بعد الانتصار على اليسار الماوي، تروي الأحداث على الشكل الآتي: شعر ماو، بعدما وجد جناحه وقد أصبح أقلويّاً ضمن المجموعة الحاكمة، بأنّ الأمور تفلت من يديه لمصلحة ليو ودِنغ، وهو ما تعمّق بعد الفشل الذريع لسياساته الريفية ومشروع «القفزة الكبرى الى الأمام». فقام باستحضار «الجماهير» من خارج البنية الحزبية، ومن خارج نظام الدولة وتراتبيتها وقوانينها، لضرب التيّار المعارض. أوصلت هذه الدعوة الى مرحلة من الفوضى والمصادمات والتطرّف اليساري واليميني وضعت البلد على شفير حربٍ أهليّة، وأضاعت سنوات من التنمية والبناء، ولم تعد «العقلانية» حتى موت ماو عام 1976 ـــــ الذي تلاه مباشرة اعتقال «عصابة الأربعة» وعودة القيادة الحزبية الى توجيه البلد منفردةً ومن غير تحدٍّ، ومن ثمّ أُطلقت مرحلة «الإصلاحات» والانفتاح وعودة النمو الاقتصادي.
سلسلة الأحداث هذه، كما يكتب باديو، ليست «خطأ» بالمعنى التوصيفي البحت، ولكن قراءتها وفق سرديّة المنتصر تخفي عنك عنصرين مهمّين: السّبب البنيوي الذي أطلق ماو، من أجله، دوّامة الأحداث، وفكرة أنه بين البداية والنهاية وفشل الثورة وضرب الحرس الأحمر حصلت «ثورةٌ» حقيقيّة في الصين، شاركت فيها فئات شعبيّةٌ ومتنوّعة وبأعدادٍ هائلة، وخرجت منها أشكالٌ حديثةٌ مختلفة من التنظيم. وانطلاقاً من هذين السؤالين، سنقوم باستجواب هذا الحدث.

لماذا الثورة؟
الإجابة السهلة والمختصرة هي أنّ ماو حكم بأنّ قيادة الحزب الشيوعي الصيني غلب عليها «أصحاب الطريق الرأسمالي»، وأنّ ما حصل للنخبة السوفياتية مع خروتشيف يوشك أن يتكرّر في الصين. فهم ماو أيضاً أنّ هؤلاء، الذين يمسكون بالحزب والدولة والاقتصاد، يملكون الأغلبية بين الكوادر، ولن يكون ممكناً أن يجري الإصلاح من داخل بورجوازية الحزب نفسها. لو تسلم هؤلاء الدولة، انتبه ماو، فلن يكون هناك ما يوقفهم، فهم يحكمون باسم الطبقة العاملة، والطبقة العاملة يمثّلها الحزب، والحزب يترأسه، شيئاً فشيئاً، كوادر «يمينيّون» يشبهون التكنوقراط السوفياتي ويريدون للصين أن تتبع «الطريق الرأسمالي». هذا، بالطبع، كان يجري في سياقٍ عالميٍّ تصطدم فيه الصين مع الاتّحاد السوفياتي، بينما النفوذ الأميركي يتوسّع في الجوار الآسيوي (حرب فييتنام) وكما يقول هِنتون (في مقالٍ له في «مونثلي ريفيو» عن شخصية ماو ــــ أيلول 2004)، فإن ماو كان يخشى من أن يستغلّ دِنغ هذه الوضعيّة، والحاجة الى التواصل مع الغرب لموازنة التهديد السوفياتي، ليقوم بـ«قلبة استراتيجية» يُدخل الصين معها في المسار الرأسمالي ويربطها الى غير رجعةٍ بالسوق العالمي ـــــ وهو تحديداً ما جرى في ما بعد. بمعنى آخر، كانت هناك تناقضاتٌ كثيرة، موضوعية وذاتيّة، في الصين يجب حسمها (من الاقتصاد الى الديموقراطية الى العلاقة مع الغرب الى حرب كوريا وفييتنام) و«الثورة الثقافية» كانت، بحسب باديو، الميدان الذي انفجرت فيه هذه النزاعات على شكل صراعٍ وثورة.
ولكن هناك معنىً أبعد لسبب المواجهة في الصّين وصعود «أصحاب الطريق الرأسمالي» من داخل النظام، وهو لا يتعلّق بالحسابات الداخلية الصينية حصراً. كما يشرح هنتون (في «مونثلي ريفيو» أيضاً مقالٌ وافٍ لدايف بوغ عن مواقف هِنتون من الثورة الثقافية ـــــ آذار 2005)، فإن المأزق الذي واجهه ماو هو مصير كلّ حركةٍ ثوريّة أو اشتراكيّة، وبخاصة في دول الجنوب، ومن هنا الأهمية الأولى لتجربة ماو في سنواته الأخيرة. لا يكفي أن «تنتصر الثورة» أو أن تقيم نظاماً اشتراكياً حتّى تتحقّق العدالة أو الاشتراكيّة على الأرض. التناقضات والتباينات في المجتمع لا تنتهي بمجرّد وصول طاقم حكمٍ جديد، يزعم تمثيل «الطبقة العاملة»، ولو جاء أصلاً من بين صفوفها ونفّذ سياسات تقدمية لوهلة. «المجتمع القديم»، يشرح هنتون، يظلّ موجوداً بأشكالٍ كثيرةٍ بعد أن «تنتصر الثورة»، مهما كانت راديكالية، وموروثاته وتقاليده لن تزول من العقليات والمجتمع قبل عقودٍ طويلة. ستظلّ، حتى في «المجتمع الاشتراكي»، تمايزاتٌ في الفرص والحياة بين الرجل والمرأة، أو بين الريف والمدينة، أو بين العامل «الذهني» والعامل اليدوي، وبين من هم قريبون من السّلطة ورجالها ومن هم بعيدون عنها، الخ…
هذه التمايزات المستمرّة، مهما كانت صغيرة أو نسبيّة، يضيف هِنتون، ستتكوّن في «عقدٍ» للمصالح داخل المجتمع وتتحوّل الى حوافز لتشجّع الحسد والفرديّة والانتهازيّة، فالجميع سيفضّل أن يكون على الجانب الرابح من الأمور؛ ونظام الامتيازات هذا سوف يتكتّل في نهاية الأمر ضمن «طبقة»، ولو كانت كوادر في الحزب الشيوعي الحاكم. لهذا، أنت تحتاج الى «ثورة»، والثورة لا يمكن أن تكون من داخل الحزب وكوادره ومؤسساته. البديل من الثورة وتصحيح المسار هو أن يرجع المجتمع الى قسمةٍ تشبه ما كان عليه قبل «النّصر» عام 1949: طبقة عاملة، هي فعلياً حشود الناس الذين لا يملكون هذه الامتيازات، وبورجوازية تسيطر على الدولة والحزب باسم تمثيل الطبقة العاملة. يشبّه هِنتون هذه الحالة بالعلاقة بين الأرستقراطية البائدة والفلاحين، و«مأزق الاستغلال»: الفلاحون لا يحتاجون الى الأرستقراطية، ولكنها تحتاج الى عملهم؛ والطبقة العاملة الصينية اليوم، أيضاً، لا تحتاج الى البورجوازية الحزبية، ولكن الأخيرة تحتاج الى عمل الطبقة العاملة وكدّها، واستغلال فائض إنتاجها، من أجل تنفيذ طموحاتها (وحتى تكون هذه الطبقة موجودة أصلاً).

«الطريق الرأسمالي» وأهله
يجب أن نتذكّر هنا أنّ المقياس الأساسي لنجاح أي «ثورة» هو في تأسيس العدالة، وليس في رفع مستوى الإنتاج أو أرقام النموّ، وهذا ما يجب أن يكون المعيار الأساسي لتطوّر الأمور. التسابق على النموّ والإنتاج، بالمناسبة، أصبح هدفاً «طارئاً» ومركزياً لأي دولة أو حركة (سواء كانت ثورية أو يمينية) لأسباب الحرب والتنافس العسكريّ فحسب؛ وهذا يشبه الإشكالية التي وجد قادة الصين أنفسهم أمامها في أواسط الستينيات: أنت في الصين تحتاج الى السلاح الحديث والتكنولوجيا حتى تصدّ السوفيات والأميركيين، و«الطريق الرأسمالي» هنا، وفي سياق تاريخي بدأت الحركة الشيوعية فيه بالذبول، واكتسحت النظرية الليبرالية النخب من واشنطن الى موسكو، فإن «الطريق الرأسمالي» يبدو بديهياً بالنسبة الى القادة الحزبيين في بيجينغ.
مشكلة ماو مع «الطريق الرأسمالي» ليست أنه غير عادلٍ أو يقوم على الاستغلال فحسب، بل لأنّ ماو كان يؤمن بعمقٍ بأنّ دولاً مثل الصّين لن يكون «الطريق الرأسمالي» متاحاً لها، وأنّ «لبرلة» البلاد لن توصل الى استنساخ التجربة الأوروبية في التنمية البورجوازية والديموقراطية، بل ستضع الصين تحت رحمة الشركات الرأسمالية والسوق الخارجي، ولن تلبث التجربة بأكملها أن تنهار. لماذا لا يكون «الطريق الرأسمالي» متاحاً أمام الصين؟ هذا مما سنناقشه في المقال القادم؛ ولكن يكفي أن نذكّر هنا بأنّ الردّة التي تنبّأ بها ماو، وحاول منعها في بلاده، قد جرت علينا واكتسحت نخبنا منذ زمنٍ بعيد. دعك من الحكومات التّابعة، بحلول السبعينيات، وفي أغلب الأنظمة العربيّة «الثورية» (أي مصر وسوريا والعراق)، كانت السلطة قد سقطت بشكلٍ محكم في أيدي نخبٍ تشبه تماماً مثال ماو عن «أصحاب الطريق الرأسمالي»: ليبراليون اقتصادياً ومع الإصلاح والانفتاح بدلاً من هدف بناء الاشتراكية، مقتنعون ــــــ على عكس جيل الخمسينيات ــــــ بأنّ الاشتراكية الى هزيمة على مستوى العالم وأن الرأسمالية ستنتصر، ويحاولون التقرّب من الحلف الغربي وفتح علاقاتٍ معه. هذه «الردّة»، التي لم يكن هناك من صادٍّ لها، هي الجذر الحقيقي لأكبر هزائمنا ولتفكيك بلادنا وتدميرها منذ ذلك الزمن، وإغلاق كوّة الأمل أمام الشعوب والفقراء على هذه الأرض.
كما في الصّين أيام الثورة الثقافية وما بعدها، هناك في بلادنا «أصحاب طريق رأسمالي»، وطبقة تكنوقراط طفيلية، وأرستقراطية وأحفادها، وهؤلاء جميعاً يتوافقون على كراهية من رفع راية الاشتراكية في وجههم يوماً ولا يكلّون عن تعميق قبرها، حتى بعد عقودٍ على فشلها واندثارها. لا حقد في العالم يشبه الحقد الذي يحمله النخبوي على من «سرق» منه، أو من جدّه، أملاكه وامتيازاته. السياسة السودانية والأوليغارشيا في البلد ظلّت ــــــ لعقودٍ ــــــ مسكونةً بهاجس عودة الشيوعيين لأنهم وصلوا يوماً الى الحكم وخلقوا عندهم «صدمة» وردّة فعلٍ عنيفة ضدّ اليسار. الكراهية المرضية التي تكنّها النخب المصريّة لعبد الناصر وما يمثّله، والتي لا تموت أو تخفت مع الزمن، ولا تجد مثيلاً لها تجاه السادات الذي أذلّ مصر وأفلسها، أو حتّى حاكم مصر الحالي. أبناء الأرستقراطية السورية والإقطاع الذين تحولوا فجأةً الى «ثوريين». هؤلاء كلّهم لا يكفيهم نكوص التجربة وفشلها، بل هم سيلاحقونها ــــــ برموزها وذكراها، وأطيافها التي تخيفهم ــــــ حتّى آخر رمق، وسيفعلون المستحيل لكي يمنعوا إمكانية بعثها من جديد. هنا في بلادنا، لمن يسخر من الثورة الثقافية، أنت لا تواجه ليو ودِنغ، بل أحفادهم الفاسدين، الذين أصبحوا أكثر ثراءً وفوقيّة وشراسة، ولن تكفينا اليوم ــــــ إن أردنا القيامة من حالتنا ــــــ «ثورةً ثقافيّة» على منهج ماو، ناهيك عن «ثورة بورجوازيّة» على الطريقة الغربية، بل سنحتاج الى ما هو أشدّ وأعنف بكثير.
(يتبع)