الليبراليّة في الحكم في الدول الغربيّة أشنع من اليمينيّة في دعايتها السياسيّة: الطرفان يقتلاننا ولا يجدان غضاضة في إلقاء حمم القنابل والصواريخ فوق رؤوس الآمنين في الدول العربيّة والإسلاميّة. والطرفان متوازيان في رعاية الاحتلال الإسرائيلي والاستبداد العربي على حد سواء، لكن الفارق بينهما يكمن في أن الليبراليّة تعتبر أننا مدينون لها بتلقّي قنابلها وصواريخها. هي ترى أنه من واجب العرب والمسلمين حفظ جميل الغرب في الاستعمار والحروب المستمرّة لأن مقاصدهم نبيلة وأخلاقيّة رفيعة. دونالد ترامب يعبّر عن مقاصد سياسات الغرب بصراحة مطلقة، إذ يقول: نريد نفطهم ونريد من السعوديّة أن تحفظ مصالح أميركا في «أوبك»، ونريد من الثروات العربيّة أن تموّل حروب أميركا وإسرائيل وأن تُدوَّر عبر الاستثمار في أميركا، وعبر شراء كميّات هائلة من السلاح. الليبراليّة تقتل باسم الإنسانيّة والتطوّر، وباسم ضحايا قتلها.هذه هي خلاصة توجّهات كتاب بن رودس الجديد: «العالم كما هو» (الذي صدر قبل أسابيع). وبن رودس ارتقى السلّم الوظيفي في البيت الأبيض بسرعة مذهلة، من كاتب خطب لباراك أوباما في حملته الانتخابيّة وفي البيت الأبيض، إلى مستشار أساسي للأمن القومي. وهو كان قد عمل في «مركز ولسن» (الذي يستضيف خطب فؤاد السنيورة عندما يزور العاصمة الأميركيّة) عندما رئسه النائب السابق لي هاملتون. وكان رودس من الذين ساهموا في كتابة «تقرير دراسة العراق»، الذي استخلص دروس فشل حرب العراق (كشفَ التقرير رقما مذهلاً: لولا الستر الواقية والدروع التي وَقَت جنود الاحتلال الأميركي في العراق، لكانَ عدد القتلى بينهم يصل إلى نفس عدد القتلى من الجنود الأميركيّين في حرب فيتنام، الذي بلغ نحو ٥٨.٠٠٠، ص. ٥). الكتاب يذكّرك بصنف من الساسة والبيروقراطيّين خصوصاً الليبراليّين في الدول الغربيّة: هؤلاء الذين يضفون لمسة أخلاقيّة وعظيّة خاصّة على كل حروب وأعمال وكلام دول الغرب. هؤلاء الذين يربّتون على أكتافهم بأنفسهم وهم يؤدّون مهامهم الوظيفيّة في حكومات لا تتوقّف، ولا للحظة، عن قصف دول فقيرة، وعن التآمر ضدّها. لا، ليس الكتاب عن «العالم كما هو»، بل هو عن عالم كما تريده وكما تطوّعه، بالقوّة، أميركا. هو عالم يحمل على صفحاته ندوباً وجروحاً لا تندمل من أفعال الاستعمار الغربي الطويل.
كل ذلك التاريخ لا يعني لهؤلاء شيئاً أبداً، ومعاناة الشعوب الفقيرة تصبح أرقاماً في تقارير مؤسّسات دوليّة تستر نيات السيطرة بشعارات «الإصلاح» و«الشفافيّة». وعندما حضر رودس هذا، ممثلاً للحكومة الأميركيّة، جنازةَ فيديل كاسترو، جلسَ يستمع لممثّلين عن دول أفريقيّة وآسيويّة تلقّت في تاريخها دعماً محموداً من الثورة الكوبيّة، لكن هذا الليبرالي نفرَ من لهجة الخطب التي تذكّرُ بالاستعمار: وصفها بأنها «رسالة منهكة، خارج سياق الزمن» (ص. ٤١١). هذا هو خطاب البيض بعد عتق العبيد، الذي يتكرّر على مسامعهم يوميّاً في الولايات المتحدة: الاستعبادُ كان في الماضي، وما على السود نسيانه والتطلّع قدماً حتى لا ينقم البيض عليهم مرّة أخرى. لا أثقالَ من الماضي إلا تلك التي يعترضُ عليها الرجل الأبيض، مثل حالة المزارعين البيض في جنوب أفريقيا، التي لا تزال تشغل حكومات وإعلام الغرب.
كاتب الخطب، هذا، لم يدخل نثرَه التاريخ (مثل الخطب البديعة - صياغةً - لثيودور ثرنسن، كاتب خطب جون كنيدي): إن أكثر الخطب تأثيراً في الأسماع الأميركيّة، بين كل تلك التي ألقاها أوباما، لم تكن من كتابة رودس، الذي يحبّ الاستشهاد بكلامه، ويتلمّظ على وقعه. خطب أوباما عن التنازع العنصري كانت من كتابته هو (وكتابه «أحلام لأبي» مكتوب بأسلوب أفضل بكثير من أسلوب كتاب رودس). لكن رودس موظّف يعرف كيف يقوم على المهمّة، وكيف يجعل كلامه يبدو كأنه من نطق أوباما، وهو قرأ كتابيْ أوباما (أكثر من مرّة) وكان يستقي جملاً وأفكاراً منها كي يقرّب نثره من نثر رئيسه، وهذا ما جعل أوباما يثق به ككاتب ينقل أفكاره بأمانة، حرفيّاً وفي اللهجة.
جولة أوباما ٢٠٠٧ كانت لإظهاره بأنه «قاسٍ» وقادر على تولّي قيادة القوات المسلّحة


والكتاب ذو السرديّة غير المملّة يفيد في معرفة آليّة صنع القرار في الإدارة الأميركيّة في مجال السياسة الخارجيّة. سيضحك الذي سيأتي إلى الكتاب محملاً بلغو الإدارات الأميركيّة المتعاقبة عن حقوق الإنسان والديموقراطيّة. لا أثرَ لهذه المفاهيم التي علكتها أميركا أكثر من غيرها، وخرقتها وناقضتها أكثر من غيرها أيضاً، في تقرير مسار السياسة الخارجيّة. السياسة الخارجيّة للإمبراطوريّة هي تراكمات لسياسات متعاقبة وبات للرئيس، أي رئيس، قدرة محدودة فعلاً، خصوصاً بعد ١١ أيلول، على تغيير مسارِها. صحيح أن الرؤساء الأميركيّين تاريخيّاً تمتّعوا بما أسماه خبراء الرئاسة هنا، مثل المؤرّخ، أرثر شلسنجر في كتابٍ له بنفس الاسم: «الرئاسة الإمبراطوريّة». يستطيع الرئيس أن يفعل في مجال السياسة الخارجيّة أكثر بكثير من مجال السياسة الداخليّة التي تخضع لحسابات دقيقة ومتشعّبة لأن الجمهور الأميركي له آراء محدّدة فيها. هذا الجمهور لا يكترث لأمور السياسة الخارجيّة ولا يفقه شيئاً فيها. هو يثق بأن ممثّليه سيفعلون ما هو صالح لهم ولمصلحة الإمبراطوريّة (سار الرأي العام الأميركي في حملات عداء ضد حاكم كوريا الشمالية، كما ساروا أخيراً في مسار التصالح معه).
قد يتعجّب من يتمعّن في سيرة بن رودس أن الرجل الذي كان نافذاً في صنع وخطب السياسة الخارجيّة في عهد أوباما لم يدرس السياسة الخارجيّة بتاتاً، بل هو مختصّ في شؤون الكتابة الأدبيّة. الرجل المناسب لا يكون دوماً في المكان المناسب هنا: الرجل المُلائِم سياسيّاً، لا مهنيّاً، يستطيع أن يكون في أي منصب يعيّنه فيه رئيسه. ورودس يريد أن يعوّض عن جهله الأكاديميي والمعرفي في موضوع منصبه عبر إيراد تفاصيل عن صراعات في بورما أو غيرها في صفحات الكتاب، كأن التثقيف في شؤون العالم ممكن أثناء الجلوس في مقعد وظيفي حكومي.
لكن الكتاب يمثّلُ - بانتظار صدور كتاب أوباما عن تجربته في الحكم - أوثق شهادة عن صنع قرار السياسة الخارجيّة لعهده. والكاتب ينطلق من موقف الليبراليّة ذات نزعة التفوّق الأخلاقي التي وسمت صهيونيّة الحزب الديموقراطي هنا. الرجل لا ينكر أنه «كان» عضواً مساهماً في منظمة «إيباك» (أي اللوبي الصهيوني الرسمي)، وهو لا ينفك يذكر القارئ بأنه «نصف يهودي» (أمه يهوديّة وأبوه مسيحي). لكن ما مغزى هذا التذكير وهو غير نادر في المجتمع الأميركي؟ ليس هناك مَن يقول إنه نصف مسيحي أو نصف مسلم أو نصف ملحد، لكن تسمع كثيراً صفة «نصف يهودي»، ربما عندما يريد أحدٌ ما (في السياسة أو المجتمع) تبرير موقفٍ له يحيد، وإن بدرجة صغيرة جداً، عن موقف «إيباك» الرسمي. والمؤلّف له من الثبات في المبادئ ما يدفعه إلى تغيير موقفه ضد حرب العراق باتجاه نصرتها، فقط لأنه سمعَ خطبة واحدة لكولين باول (ص. ٦) الكتاب يعطي صورة عن طبيعة صنع القرارات، خصوصاً بعد ١١ أيلول، وكيف أن السيطرة المدنيّة على قيادة القوّات المسلّحة، التي وسمت الحكم الأميركي منذ الحرب العالميّة الثانية (تجرّأ ترومان على طرد الجنرال ماكآرثر، كما أن كارتر طرد الجنرال سنغلاوب لأنه عبّر عن رأي يخالف مشيئة القائد العام للقوّات المسلّحة) تقلّصت كثيراً. لم يعد ذلك ممكناً في الحكم الأميركي، خصوصاً في ظلّ رئيس ديموقراطي (لأن الحزب الديموقراطي منذ سنوات الحرب الباردة متهم بالتراخي، والتمنّع عن، استعمال القوّة المسلّحة حول العالم، مع ما تتصف به هذه التهمة من الظلم لجرائم وحروب الحزب المذكور). بعد ١١ أيلول، أصبح القادة العسكريّون مسيطرين على صنع القرار الأميركي، وعلى عدد القوّات العسكريّة التي ينبغي استعمالها في كل موقعة. يعترف رودس بأن جولة أوباما الخارجيّة عام ٢٠٠٧، عندما كان مرشّحاً للانتخابات، كانت من أجل إظهاره بأنه «قاسٍ إلى درجة» تسمح له بتولّي القيادة العامّة للقوات المسلّحة (ص. ٢١). هذه هي معايير الحكم في هذه البلاد!
الحساسيّة الليبراليّة المزيّفة تبدو جليّة في وصف وتحليلات الكاتب. الاستبداد هو فقط في تلك الأنظمة التي لا تطيع الإمبراطوريّة الأميركيّة، أما الأنظمة المستبدّة التي تطيع الإدارة، فالتعامل معها ليّن ولطيف للغاية. هو يزور قصراً من قصور صدّام في جولة رسميّة في العراق ويقول إن القصر يحتوي على هدايا نفيسة أعطاه إياها القذّافي وياسر عرفات (ص. ٤٣) ما هذا الكذب؟ عرفات لم يكن يعطي هدايا نفيسة: كان يعطي مجسّمات للأقصى وكتباً عن فلسطين. لكن الكاتب لم يرد أن يذكر الحقيقة: أنظمة الخليج، صديقة أميركا الحميمة، هي التي موّلت وسلّحت صدّام، وهي التي أمدتّه بالعطايا النفيسة. لكن هناك احتمال أن تلك الهدايا أزيلت من العرض حماية لسمعة حلفاء أميركا. ولا يضير المؤلّف أكاذيب ونفاق الحكومة الأميركيّة في خطابها الجميل عن الديموقراطيّة وفي ممارستها وحروبها في دعم الاستبداد وضد حقوق الإنسان. هو يقول إن «الاستثمار» - في الاستبداد - مقبول لأن عائده يجعله الاستثمار محقّاً حتى لو أدّى ذلك إلى «خسارات وإحراج ومساومات أخلاقيّة» (ص.٤٥.) هذا هو الكاتب ذاته الذي كان مسؤولاً بدرجة كبيرة عن خطاب أوباما في القاهرة في ٢٠٠٩، عندما اتسم بعظاته الأخلاقيّة الفوقيّة للعرب والمسلمين.
وأوباما الذي منحته شعوب حول الأرض آمالاً لا يستحقّها، والذي نصّبه الليبراليّون هنا مصدراً لإلهامهم، لم يكن يوماً ليبراليّاً أو تقدميّاً. حتى في سنوات دراسته في جامعة كولومبيا لم ينجذب إلى حجج إدوار سعيد ضد ثقافة الامبرياليّة عندما حضرَ صفّاً معه (على العكس، كانت يساريّة سعيد لا تنسجم مع قناعاته حتى في ذلك السنّ: راجع كتاب ديفيد مارينس «باراك أوباما: القصّة»، ص. ٤٤٩). الذين ظنّوا أنه تشبّع بآراء ضد الكولونياليّة من أب ذي خلفيّة يساريّة (قلّما ظهر في طفولة أوباما الذي ترعرع في كنف أمّه بعد انفصالها عن أبيه، وفي كنف جدّه وجدّته البيض من طرف أمّه) فوجئوا به كثيراً في الحكم. هو كما يصفه رودس: من الاستعماريّين (لم يستعمل رودس هذه الكلمة، هي من اختياري) الذين يؤمنون أن شعوب العالم الثالث غير مؤهلة للتحرّر من دون «مؤسّسات ناضجة». (ص. ٤٧).
وعمليّة صنع خطب الرئيس الأميركي ليست أدبيّة أو حتى سياسيّة: فرودس كان صريحاً في أن أجهزة الاستخبارات كانت تتدخّل في صياغة وتعديل خطب الرئيس الأميركي في أمور تعنيها أو تهمّها. (ص. ٥٠). وأراد أوباما أن تصل فكرته إلى جمهور القاهرة في ذلك الخطاب الشهير: ومفاد الفكرة أن المشكلة ليست الإسلام بقدر ما هي العالم العربي، أو إسلام العالم العربي. وفي كل هذه التحليلات، يغيب دور الاستعمار الغربي وحروبه، كأنها كانت ولم تكن، أو أنها تجري من دون أثر أو دماء أو دمار. وفهم أوباما لشكاوى واعتراضات واحتجاجات المسلمين حول العالم ضد الحكومة الأميركيّة لا يقلّ سطحيّة عن فهم المعلّقين على شبكة «فوكس نيوز»: تراه يخبر كاتب خطبه بأن المسلمين يعترضون على «وجود مطعم ماكدونلدز في الشارع تحت منزلهم، وعلى الثقافة الشعبيّة الأميركيّة على شاشة التلفاز» في منازلهم. (ص.٥٢). هذا مكمن الاحتجاج في رأي أوباما. أما في القسم المتعلّق بخطاب القاهرة عن الصراع العربي - الإسرائيلي، فإن رودس يعترف، أكثر من مرّة، بتدخّله للتخفيف أو لإزالة أي نقد لدولة العدوّ الإسرائيلي. يعترف أنه في الحملة الانتخابيّة ألحَّ على أوباما ألا ينتقد حتى المستوطنات (ص. ٥٥)، التي كان نقدها أسهل نقد على الرؤساء الأميركيّين قبل عهد بوش (الابن). ورودس لم يرد أن يستعمل أوباما كلمة «احتلال» عن إسرائيل، فسأله أوباما: «وماذا نسمّيه غير ذلك»؟ (ص. ٥٨) (موقف رودس هذا مطابق لموقف سفير ترامب الحالي في دولة الاحتلال).

عندما زار رودس السعودية وجد كبقية الموظفين في الوفد الأميركي حقائب من الهدايا النفيسة


ويقول رودس بصفاقة إن معظم الأميركيّين «يشعرون بتعاطف طبيعي مع إسرائيل»، كأن ذلك ينم عن معرفة وعن خلق لا عن جهل وتعصّب أعمى. والنقاش في مسائل الصراع العربي - الإسرائيلي في إدارة أوباما (وفي إدارات سبقته أيضاً) بات صراعاً بين صهاينة (جلّهم لكن ليس كلّهم من اليهود)، هم يوازنون بين مطالب الرئيس ومطالب اللوبي الإسرائيلي (مع أن المواقف تتطابق في الكثير من الأحيان). وكان رئيس أركان موظّفي البيت الأبيض، رام إيمانويل (الذي حارب في جيش العدوّ) يصف رودس بأنه «حماس» (ص. ٥٦) لأنه كان أقل ليكوديّة من إيمانويل. وكان لـ«إيباك» دور مباشر في صياغة الخطاب والتأثير في رسالته، أي إن خطاب الرئيس الموجّه إلى العالم الإسلامي عليه أن يمرّ بالضرورة عبر اللوبي الإسرائيلي المؤتمن على مشاعر... المسلمين؟ وأراد اللوبي التأكّد من أن الخطاب لا يحمل رسالة تنسب مشكلات المنطقة إلى القضيّة الفلسطينيّة، وهذه النسب يزعج صهاينة أميركا كثيراً. والذي لم يدركه العالم العربي بعد - الذي رحّب في قطاع كبير منه بخطاب أوباما في القاهرة - أن الحضور في الخطاب الشهير كانوا منتقين بعناية عبر... الحكومة الأميركيّة نفسها. (ص. ٥٩).
دور المال الخليجي وأثره في السياسة الأميركيّة يظهر في الكتاب. يصل وفد أميركي إلى السعوديّة، فيجد حتى الموظّفين فيه، بما فيهم رودس، حقائب من الهدايا النفيسة (مجوهرات) تقدّر قيمتها بعشرات الآلاف من الدولارات. وحكّام الخليج يبذّرون في إرضاء واشنطن إلى درجة أن حكامها لا يتبرّعون فقط لمشاريع خيريّة أميركيّة، بل يقدّمون هدايا بمئات الآلاف من الدولارات إلى رؤساء وساسة واشنطن رغم علمهم أن ذلك محظور قانوناً هنا. فالرئيس الأميركي لا يستطيع أن يقبل أي هديّة تزيد قيمتها عن ٣٩٠ دولاراً (القانون المتعلّق بالهدايا التي يتلقّاها الرئيس وكبار المسؤولين والموظّفين في الحكومة عُدَّل في عام ١٩٦٦ لأن قيمة الهدايا التي كان الملوك والأمراء العرب يمنحونها لرؤساء ومسؤولي الإدارة كانت باهظة الثمن ما أشاع رائحة من الفساد. وعليه، الرئيس الأميركي مُلزم، كما كبار الموظّفين، بإرجاع أي هديّة تزيد قيمتها عن المبلغ المذكور. وتُحفظ تلك الهدايا التي تفيض عن القيمة المسموح بها في «الأرشيف الوطني»). وعليه، إن الخيار أمام رودس وغيره من الموظّفين كان شراء حقيبة المجوهرات التي تركها المُضيف السعودي في غرف أعضاء الوفد الأميركي، أو إرجاعها إلى المُضيف أو تسليمها للحكومة الأميركيّة للحفظ في الأرشيف. لكن الهدايا إلى الرؤساء السابقين (بعد انتهاء الولاية) تصبح بالملايين من الدولارات. إن كل المكتبات الرئاسيّة الأميركيّة في السنوات الماضية تتموّل في قسم كبير منها عبر أثرياء العرب: الكويت والسعوديّة تولّتا تمويل مكتبة جورج بوش الأب في تكساس.
الحديث عن سطوة القيادة العسكريّة ونفوذها يتضح من قرار أوباما الرضوخ لقرار القيادة العسكريّة بزيادة عدد قوّات الاحتلال في أفغانستان. وطريقة الضغط على أوباما تكرّرت أكثر من مرّة، وهي تبدأ بتسريبات إلى الصحافة من مصادر عسكريّة حول إجماع القيادة العسكريّة على ضرورة زيادة عدد القوّات (ص.٧٤) أو مواجهة عدوّ ما، ما يضع الرئيس كائناً مَن كان في موضع حرج لو أراد مخالفة مشيئة القيادة. والرأي العام الأميركي يرى القيادة العسكريّة أنها قدس الأقداس، ويتعامل الكونغرس معها على نفس الأساس، ما يعطيها سلطة فوق سلطة الرئيس نفسه. هذا جانب من أن الإمبراطوريّة الأميركيّة تسير على مسار لا يستطيع أي رئيس التغيير فيه كثيراً. هناك سلطة عسكريّة - استخباراتيّة مؤثّرة في تضاد مع الرئيس الحالي. والمواجهة مع إيران هي في جانب منها قرار من القيادة العسكريّة (يمثّلها جيم ماتيس، وزير الدفاع الحالي) بالاقتصاص من إيران وحزب الله لدورهما في تدريب وتمويل وإعداد المقاومة العسكريّة ضد الاحتلال الأميركي في العراق (العمليّات الكبيرة المؤثّرة التي طاولت القوّات الأميركيّة المحتلّة في سنواتها الأخيرة كانت من قوّات متحالفة مع الطرفيْن المذكوريْن). وماتيس، عندما شغل منصباً رفيعاً في إدارة أوباما، كان يطالب بمعاقبة إيران بسبب إبحار زوراقها الصغيرة في مسار السفن الأميركيّة في الخليج (أي الحديقة الخلفيّة للإمبراطوريّة الأميركيّة). يحاول رودس في سرديّته أن يفصلَ بين فريقيْن في إدارة أوباما: الفريق التقليدي المتمثّل بهيلاري كلينتون ووزير الدفاع، بوب غيتس، وجو بايدن، والفريق المتمثّل به وبسمانتا بَوِر (سفيرة أميركا في الأمم المتحدة) وبالموظّفين الشباب، من خرّيجي السلك الخارجي في وزارة الخارجيّة، وهم المثاليّون وفق وصفه. أما أوباما، فهو طبقاً لهذه الرواية يقع بين الفريقيْن، وتنتابه نزعات تشدّه إلى هذه الجهة أو تلك. لكن التصنيف هذا يعظّم من خلاف غير موجود بين الفريقيْن.
(يتبع)
* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)