تحمل الإدارة العامة المالية همّ جعل الإنفاق العام يتوافق مع الإيرادات. تعمل على خفض الإنفاق وضبطه، حيث هذا الأمر ممكن. الجامعة اللبنانية هي المؤسسة التي تحاول وزارة المال خفض إنفاقها بإصرار وبدون كلل.
1ــ الجامعة: عرض حالة

تمنح الجامعة اللبنانية وحدها شهادات لنصف متخرجي لبنان. بلغ متوسط عدد طلابها نحو 72 ألفاً خلال السنوات الثماني الأخيرة. يدرّس فيها أساتذة مثبّتون في الملاك ومتفرّغون ومتعاقدون كان عددهم في آخر 2012 نحو 5163 أستاذاً، منهم 1438 أستاذاً في الملاك ومتفرغاً. أي أن نسبة الأساتذة المثبّتين بلغت 28 بالمئة من المجموع، مقابل 72 بالمئة للمتعاقدين بالساعة (جبر، 2013).

لا تزال الجامعة اللبنانية تستقطب هذه النسبة الكبيرة من الطلاب، رغم نشوء عشرات الجامعات الخاصة التي تأخذ قسماً متزايداً منهم.
هذه الأخيرة هي مؤسسات تجارية عادية، ينجح من يرتادونها باستحقاق أو بدون استحقاق. ويشكّل ذلك مصدر «تنافسيتها». بالمقابل، تشكّل هذه الجامعات وبالاً على لبنان وعلى مستوى التعليم فيه، وعلى مستقبله الاقتصادي. لا تزال الجامعة اللبنانية تفخر بأنها تطبّق معايير جدية في عملها، تظهر في الأخذ بمبدأ الاستحقاق للنجاح في الامتحانات، ويعبّر عنها وجود نسبة رسوب مهمة فيها.
عاش أساتذة الجامعة اللبنانية مثلهم في ذلك مثل بقية موظفي الإدارة العامة، بمداخيل مزرية بعد 1984، أي خلال حقبة انهيار سعر صرف الليرة اللبنانية، وقبل تعديل سلسلة الرتب والرواتب في 1996. في نهاية الحرب اللبنانية، كان راتبهم الشهري لا يتجاوز مئتي دولار. وفي مطلع التسعينيات، إبان الانهيار الأخير لسعر صرف الليرة، لم يكن قد تجاوز الثلاثمئة وخمسين دولاراً. وحين ارتفعت رواتبهم بفعل تعديل سلسلة الرتب والرواتب، استعادوا القدرة الشرائية التي كانت لهم مطلع الثمانينيات. وقد تآكلت هذه القدرة الشرائية بنسبة خمسين بالمئة بعد سنتين من الحصول عليها.
أمضى الأساتذة بعد 1996 خمسة عشر عاماً من دون زيادة رواتب تقريباً. كانت مداخيلهم في 2011، مع معدّل تضخّم تراكمي بلغ 110% خلال الفترة ذاتها، قد فقدت نصف قدرتها الشرائية. أعادت لهم زيادة الرواتب عام 2011 القدرة الشرائية التي حصلوا عليها عام 1996. خلال الثلاثين سنة الماضية، جرى تصحيح الرواتب مرتين، مرّة كلّ 15 سنة.
الأمر الثاني المهم لوضع الأمور في نصابها، هو المقارنة مع الجامعات الخاصة. درّس أكثر الذين تم تفريغهم عام 2008، في جامعات خاصة معروفة. كانوا يقبضون في هذه الجامعات ضعف ما باتوا يحصلون عليه بعد تفرّغهم في الجامعة اللبنانية. قبلوا بهذا الوضع بسبب الأمان الوظيفي الذي توفره الوظيفة العامة، وبقي قسم منهم يدرّس سرّاً في القطاع الخاص لضمان دخل إضافي.
تتيح المقارنة مع مؤسسات القطاع الخاص إظهار أن رواتب الجامعة اللبنانية بعد الزيادة لا تزال أقلّ من أجور أساتذة الجامعات الخاصة. وقبل زيادة الرواتب عام 2011، كانت أقساط ثلاثة أولاد في المرحلة الابتدائية، في المدارس الخاصة، تستحوذ على أكثر من 40% من راتب الأستاذ الجامعي من الرتبة الأعلى.
تحقّق للجامعة إنجازان بالغا الأهمية خلال السنوات الأخيرة. أولهما تفريغ 700 أستاذ دفعة واحدة عام 2008، بعد حقبة طويلة من الحجر على الجامعة، بدأت مع تسلّم الوزير ميشال إده وزارة الثقافة والتعليم العالي. بدا الرقم كبيراً، لكنه لم يغطِّ سوى جزء بسيط من الشغور الفادح في الجهاز التعليمي الدائم، وخصوصاً أن المتفرّغين توزعوا على أكثر من 50 فرعاً لكليات الجامعة الست عشرة. لا تكتسب الكليات وفروعها كياناً إلا بوجود كتلة متفرغين مهمة فيها.
كان الإنجاز التالي، اعتماد سلسلة رواتب جديدة عام 2011، أعادت للأساتذة القدرة الشرائية التي كانت لمداخيلهم قبل خمسة عشر عاماً، كما سبقت الإشارة. لم تنجح تحركات الأساتذة خلال 2012 و2013 في تفريغ دفعة جديدة من الأساتذة، تبيّن أوضاع كليات الجامعة وفروعها أنها بأمسّ الحاجة إليها. تقدّمت أولويات أخرى لدى الحكومة منعت تحقّق هذا الأمر. يخضع الإنفاق العام لقاعدة توازن المداخيل والمصروفات، ويؤدي إلى تأجيل أوجه كثيرة من الإنفاق سنة بعد سنة.
تشهد الجامعة تراجعاً في جهازها الإداري لجهة تزايد الشغور وتقدّم الإداريين في السن وعدم تجديد الملاكات الإدارية للجامعة. أول من يتحقّق من ضعف الملاكات الإدارية هم الطلاب الذي يفاجأون من تردّي الخدمات المقدمة لهم. ترخي حالة الشغور بثقلها على بيئة الجامعة، وتجعل الجو داخلها قاتماً، ومدعاة لكثير من الخيبة لدى المتضرّرين.
تبدو الجامعة خلال الحقبة الأخيرة أكثر تعرّضاً للضغط عليها من أجل خفض موازنتها وأوجه الإنفاق فيها. يظهر ذلك من الخلاف القائم منذ فترة حول موازنة صندوق التعاضد. ويظهر أكثر من الاقتطاعات التي يقال إنها ستتناول البنود المختلفة لموازنة الجامعة. ومنها ما يتناول الإشراف على أبحاث الطلاب وتصحيح المسابقات ومراقبة الامتحانات. قيل إن عمداء كليات لا تتضمّن مناهجها إجراء أبحاث من قبل الطلاب، طالبوا بإلغاء بدل الإشراف.
المعنيون من مسؤولي الجامعة بالدفاع عن موازنتها، هم الأكثر تماساً مع مشاكل تسييرها اليومي، والأكثر اطلاعاً على مظاهر الفساد وعدم المسؤولية وعدم الأهلية في أداء بعض العاملين فيها. يزداد غبنهم حين تأتي التدخلات الخارجية لمنع محاسبة أو معاقبة مرتكبين ومخلّين بواجباتهم. لطالما شكّلت فئة المرتكبين هذه من العاملين في الإدارة العامة، العدو الرئيسي لهذه الأخيرة. يجعل هذا الوضع المستمر على مدى حقبة ما بعد الحرب، بعض المسؤولين أكثر قابلية للتنازل عن مكتسبات الجامعة. ولو أخذنا الإشراف على أبحاث الطلاب مثالاً، فإن إلغاء البدل يفاقم تردي عملية الإشراف، في حين أن الأفضل، التعرّف على مصدر الخلل القائم، وإجبار الأساتذة المخلّين على القيام بواجباتهم.

2ــ سقوط النيوليبرالية في العالم

النقاش الأهم هو حول موقع الجامعة اللبنانية في مجتمعنا ونظامنا السياسي. هل نريدها وهل هي حاجة؟ هل ينبغي خصخصة التعليم العالي، وتالياً الجامعة اللبنانية؟ هل تنسحب الدولة أكثر من أدوارها، ومنها دورها في توفير الحماية الاجتماعية (social protection) للمواطنين. الجواب يكون أفضل باستقراء تجارب غيرنا.
شهد العالم كلّه خلال الحقبة النيوليبرالية المستمرة منذ أكثر من ثلاثين عاماً، تمدّد اقتصاد السوق وحلول القطاع الخاص محل القطاع العام في بلدان كثيرة.
تم ذلك حتى في البلدان التي امتلكت بعد الحرب العالمية الثانية قطاعاً عاماً واسعاً، كدول أوروبا الغربية، ومنها فرنسا. وإذا كان صحيحاً أن النيوليبرالية غيّرت وجه العالم، لجهة حلول القطاع الخاص محل القطاع العام في مختلف البلدان، فإن الصحيح أيضاً، هو أن تطبيقها لم يترافق في كل التجارب مع النيل من مكتسبات المواطنين الاجتماعية. يصح هذا الكلام على بلدان أوروبا الغربية وبعض بلدان أميركا اللاتينية وشرق آسيا. حققت بلدان أوروبا الغربية الخصخصة للاقتصاد من دون المساس بالمكتسبات الاجتماعية للمواطنين. تخصّص فرنسا نحو ثلث موازنتها السنوية للإنفاق الاجتماعي، ومواجهة الانعكاسات السلبية للخصخصة على القوى العاملة.
ترصد هذه المبالغ لتغطية نفقات ضمان البطالة والضمان الصحي وضمان الشيخوخة والإنفاق على دورات التدريب والتأهيل التي يخضع لها العاملون في مختلف القطاعات، إلخ (إيفانز وسويل، 2013: 32). استفادت شعوب أميركا اللاتينية من دمقرطة الأنظمة السياسية فيها. أتاح لها ذلك التعبير عن مصالحها، والنضال من أجل مزيد من الحماية الاجتماعية من قبل الدولة لها. يقيم إيفانز وسويل ترابطاً بين الدمقرطة والقدرة على التعبير السياسي والمطلبي، وبين التحسّن لشروط المعيشة والتقديمات الاجتماعية للأكثر حاجة إليها بين المواطنين (المصدر نفسه: 34). وفي عز الهجمة النيوليبرالية على العالم، اعتمدت بلدان كالبرازيل وفنزويلا وبوليفيا، وتشيلي أخيراً، نماذج أقرب إلى الاشتراكية الديموقراطية ومؤسساتها التي عرفتها حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وفّرت هذه السياسات لشعوب هذه البلدان مزيداً من الحماية الاجتماعية التي كانت تحتاج إليها، في مجالات العمل والطبابة والتعليم والحد الأدنى للدخل.
أما تجربة العالم الأنكلوسكسوني، والولايات المتحدة على وجه الخصوص، فهي عكست ازدياداً هائلاً في تفاوت الدخل، حيث حافظ الأجر الفعلي على مستواه خلال الأربعين سنة الماضية، في حين تضاعفت خمس مرّات مداخيل العشرة بالمئة الأغنى خلال الفترة ذاتها، وتراجعت جودة التقديمات الاجتماعية، وخصوصاً الصحية منها، وتزايدت نسبة المهمّشين والفقراء (المصدر نفسه: 26). أظهرت التجربة الأميركية تلازم هيمنة الفكر النيوليبرالي واحتلال القوى المحافظة لسدة الحكم وازدياد التفاوت الاجتماعي والإفقار للشرائح الدنيا من المجتمع.
توافقت الولايات المتحدة مع المؤسسات الدولية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، على نقل هذه التجربة إلى عموم البلدان النامية عبر «توافق واشنطن». كانت سياسات التنمية النيوليبرالية الطابع، ودور المؤسسات الدولية في وضعها موضع التنفيذ في مختلف البلدان النامية، وبالاً على هذه البلدان.
تفرّد لبنان بعد الحرب بأن الدولة فيه أخذت جانب «أصحاب الريوع المالية»، وأهملت المنتجين وما له علاقة بحاجات المواطنين من بنى تحتية وتعليم وصحة. ستدفع الدولة، وفقاً لمشروع موازنة 2014 نحو 6117 مليار ل. ل. أو أربعة مليارات دولار، فوائد على الدين العام، تضاف إليها المبالغ التي يدفعها البنك المركزي على المبالغ المودعة فيه العائدة للقطاع المصرفي الخاص. تبلغ موازنة الجامعة السنوية 345 مليار ليرة لبنانية، أو 230 مليون دولار (الحاج، 2014). أي أن خدمة الدين العام تفوق بـ 18 مرّة موازنة الجامعة.
لا تتلكأ الدولة في دفع كلّ ما يجب عليها للمدينين، لكنها تتهاون في القيام بواجباتها تجاه عشرات آلاف الطلاب، الذين يمثلون مع أهلهم غالبية الشعب اللبناني.
منذ الأيام الأولى للاستقلال، كان بعض الاقتصاديين النقديين يتساءلون لماذا تخصّص الدولة كل همّها لبضعة أنشطة لا تستفيد منها القوى العاملة اللبنانية إلا بالنزر اليسير، ولماذا تهمل ما له علاقة بالأكثرية الساحقة ومصالحها؟ لم يتغيّر شيء على مدى حقبة الاستقلال كلّها. دفع لبنان وشعبه غالياً ثمن هذا التحيّز. هاجر اللبنانيون وما انفكوا يهاجرون بوتيرة تزداد مع الأيام.
لا يزال المليارديرية الذين يمثلون المهمّشين في المجالس التمثيلية ومؤسسات الحكم، يطبقون حين يتسلّمون الحكم، سياسات تهتم بمصالح أصحاب التوظيفات المالية فحسب. ترتفع أسعار البناء والشقق التي سيسكنها الشباب خمس مرات خلال ست سنوات، في حين تبقى مداخيلهم على حالها، ولا أحد يرى في ذلك ما يستوجب السؤال (بيشون، 2012).
توفر هذه الارتفاعات لـ«الاستثمار الأجنبي المباشر» _ وهي التسمية التي يطلقها اللبنانيون عن خطأ على هذه التوظيفات _ أرباحاً لا يمكن تحقيق مُشابه لها في أي مكان آخر في العالم. لا تترك هذه السياسات لشباب لبنان إلّا الهجرة مخرجاً. تركت النيوليبرالية بصيغتها الأنكلوسكسونية أينما حلّت، مجتمعات محطّمة. يبدو الأساتذة الدائمون في الجامعة اللبنانية وسط الحطام اللبناني، أصحاب امتيازات. يرسل مواطنون شرفاء أولادهم إلى الجامعة اللبنانية، لأنهم لا يستطيعون تحمّل كلفة المؤسسات الجامعية الخاصة العالية الكلفة. تقع حماية الجامعة اللبنانية في خانة الحماية الاجتماعية التي ينبغي أن توفّر للمواطنين. إذا اكتفينا بهذه الحجة للدفاع عن الجامعة اللبنانية، يكون ضرورياً أن تزيد الدولة تدخّلها لصالح هذه المؤسسة، لا أن تنسحب من المسؤولية تجاهها بشكل إضافي.

3ــ الحاجة إلى الجسم النقابي للجامعة

على مدى حقبتي الحرب وما بعدها، كان ثمة مجموعة بعينها من الأساتذة تطوّعت لحمل لواء مطالب الجامعة. كانت تؤمن متابعة ملفاتها وتخوض مواجهات مع الإدارة الحكومية بشأنها. كانت تنجح أحياناً، وأحياناً تخفق. كان البعض من الأساتذة ينتقدون أحياناً طرقها الاستعراضية، ويُثنون على نشاطها. كبرت هذه المجموعة في السن، وبات أغلبها متقاعداً أو على أبواب التقاعد.
افتقدت الجامعة الدور الذي كانت تلعبه هذه الأداة النقابية. بات ضرورياً أن يتقدم أساتذة من الصفوف الخلفية لتأمين استمرارية العمل النقابي لأساتذة الجامعة.

المراجع

Evans Peter٬ William H. Sewell٬ Jr.٬ “The Neoliberal Era: Ideology٬ Policy٬ and Social Effects”٬ in Peter Hall and Michele Lamont (eds.)٬ Social Resilience in the Neo-Liberal Era٬ Cambridge University Press٬ 2013.
Pichon Muriel.٬ « Au Liban٬ le marché de l’immobilier se transforme-t-il au profit des acheteurs ? »٬ L’Orient Le Jour٬ 28 juillet٬ 2012.
إبراهيم جبر، «ملفات الجامعة اللبنانية وحاجاتها رُحّلت إلى السنة المقبلة»، النهار، 17/ 5/ 2013.
فاتن الحاج، «رئيس الجامعة اللبنانية: سأمارس صلاحياتي»، الأخبار، 4/ 1/ 2014.
* باحث لبناني