أدرجت منظمة فتح، بشخص محمود عبّاس وإبراهيم الصّوص (مندوب المنظمة لسنوات طويلة في باريس) طقس الاحتفال بفوز حزب العمل في الانتخابات الإسرائيليّة. كانت بعض مكاتب المنظمة حول العالم تفتح زجاجات الشامبانيا عند فوز حزب العمل. صدّق البعض تقليد التمييز بين الأحزاب الصهيونيّة في الكيان الغاصب. أو أن العجز الثوري (السياسي والعسكري على حدّ سواء) في قيادة منظمة التحرير أدّى إلى التسليم بقدرة الناخب الإسرائيلي على تقديم الحلول الصغرى للقيادة الفلسطينيّة.
لم يعد النضال الفلسطيني هو العامل التحريري، بل كان الاتكال _ كل الاتكال _ على انتظار ما يقدّمه حزب العمل من فتات هو الحلّ. والتركيز على شرور شارون كان جزءاً (خطيراً) من التمييز السياسي الباطل الذي أصرّت عليه قيادة عرفات في منظمة التحرير.
إنّ أرييل شارون لا يزيد في جرائم حربه وفي مجازره عن جرائم ومجازر إسحق رابين وشمعون بيريز وديفيد بن غورين وغولدا مائير وموشي شرتوك. كلهم سواء. إن المجازر والإرهاب الصهيوني لم تكن يوماً _ كما يُراد لنا في بعض الخطاب الفلسطيني السياسي الذي أدرجه عرفات ومحمود عبّاس _ عرضية أو تجاوزاً أو تطرّفاً أو خروجاً عن إجماع القيادة السياسية. إن الإرهاب الصهيوني من 1929 حتى يومنا هذا مقصود ومدروس ومُخطّط له بعناية فائقة من قبل القيادة الصهيونيّة. وشخصنة العداء لإسرائيل من شأنها أن تضلّل الرأي العام العربي الذي يخضع لسنوات لدعاية (عربية نفطية وغربية صهيونية) تجعل من مجرمي حرب حزب العمل (من أمثال رابين وبيريز) أو من مجرمي كاديما (بسبب غرام القادة العرب بتسيبي ليفني) حمائم سلام وديعة. كما أن الدعاية العسكريّة للعدو تقصّدت أن ترمي أمام أعيننا فكرة «القائد العسكري الإسرائيلي المُتفلِّت من الضوابط»، وذلك من أجل التخويف والإرهاب النفسي والمعنوي. زها بيغن بمجزرة دير ياسين وقال في كتابه «التمرّد» إن المجزرة كانت مفيدة للتسريع في طرد الشعب الفلسطيني من أرضه، كما أن أرييل شارون زها في مذكراته («محارب») بمجزرة قبية، وقال إنها أخافت العرب وحسّنت من معنويات جيش العدوّ. لكن لشارون هذا إرث لبناني خاص، غائب كليّاً عن المناهج الدراسية اللبنانية وعن الخطاب السياسي اللبناني. لقد حرصتُ أدناه لتعميم الفائدة ولترسيخ تاريخ مشين في الأذهان على ترجمة ما يتعلّق بالفصل اللبناني من جرائم حرب شاورن وعلاقاته اللبنانيّة، لعلّ جيلاً من اللبنانيّين يكون على علم بها، وذلك من أجل الحكم على فريق سياسي لبناني يتحدّر من حلفاء شارون في تلك الحقبة المظلمة من تاريخ لبنان (والترجمة هي من النص الإنكليزي لمذكّرات شارون وتبدأ بفترة التحضير للاجتياح الإسرائيلي في عام 1982):
«وأنا أيضاً كنتُ أريد أن أرى لبنان بنفسي كي آخذ شعوراً بالملموس عن الحالة على الأرض هناك، وخصوصاً من أجل فهم إذا كان هناك أي شيء ممكن توقّعه من القوّات اللبنانيّة المسيحيّة في حالة الحرب. وأنا كنتُ قد التقيتُ ببشير الجميّل للمرّة الأولى عندما كنتُ وزيراً للزراعة خلال واحدة من زياراته للقدس لبحث العون الذي كنّا نقدّمه (لهم). ولقد ترك عندي انطباعاً (إيجابيّاً) آنذاك على أنه رجل شاب مليء بالثقة بالنفس والعزم. تحدّث بإقناع وبسلطة، ولم يكن هناك شك بأنه كان قد أظهر قدرات قياديّة حقيقيّة. لكنني شعرتُ بأن الطريقة الوحيدة لتقديم تقييم ملائم هو من خلال زيارته في موقعه، ولرؤية رجاله في منازلهم، ولرؤية عائلاتهم وقوّاتهم ومواقعهم لفهم كل شيء عن الرجل وعن ظروف حركته ...
وكان الجميّل قد دعاني بنفسه لزيارة لبنان للقائه، وللقاء والده، بيار الجميّل، وقادة آخرين. وقال إن الموقف المسيحي بات يزداد حراجة ... وأعلمنا بأن «شخصيّة رفيعة جداً» ستصل (من إسرائيل) في أوائل كانون الثاني في عام 1982 ... ووصلنا إلى جونية ... وما إن ترجّلت من الطوّافة، عانقني بشير وقبّلني على الطريقة العربيّة وقال: «أنا عرفت أنك ستكون أنت الزائر، مع أنهم لم يعلموني، لكنني كنتُ متيقّناً من أنك ستكون أنتَ» ... والتقط بشير النقاش الذي كان قد بدأ في ليلة أمس على العشاء وسأل: «في حالة الحرب، ماذا تتوقعون منّا؟»، في هذه الحالة، أوّل شيء يجب أن تفعلوه هو أن تدافعوا عن حدودكم هنا لأنكم يجب أن تعرفوا أننا لن نستطيع أن نسعفكم إذا كنتم ستخسرون الأرض شيئاً فشيئاً. ثانياً، أترون هذه التلّة هناك، تلّة وزارة الدفاع؟ هذه حيويّة. إذا اندلعت الحرب، سيطروا على التلّة (اليرزة) ... ثالثاً، إسرائيل لن تدخل بيروت الغربيّة. هذه عاصمة، وحكومة وسفارات أجنبيّة. وجودنا هناك سيتسبّب بمشاكل سياسيّة معقّدة لنا. بيروت الغربيّة هي عملكم أنتم وعمل الجيش اللبناني ...
بعد ذلك، تجوّلت في الجبل والخطوط المسيحيّة، في سيّارة المرسيدس الخاصّة ببشير، والتي كانت تحتوي على جهاز تلفون _ وهذا ما لم نكن نملكه نحن في تلك الأيّام. توقّفنا في قرية تلو الأخرى، وكان يشرح لي تاريخ وأهميّة كل منها. وفي كل مكان، كان الناس يتبيّنونه ويصفّقون، هاتفين باسمه، حتى إنه أوقف سيّارته وترجّل منها، فيما كانت وحدات من الجيش اللبناني تمرّ بمحاذاتنا، وكان الجنود يلوّحون ويهزجون. من الواضح أنّ الرجل كان معروفاً ومحبوباً. لا يمكن ألّا تترك هيبته والتعاطف معه أثراً (إيجابيّاً). وبعد يوم طويل في الجبل، رجعنا إلى منزل بشير في محلّة الأشرفيّة في بيروت. على الباب، انتظرتنا زوجته الجميلة، سولانج، التي تتمتّع بشخصيّة قويّة كما أدركت لاحقاً. وكان هناك والده بيار الجميّل وكميل شمعون، الرئيس الأسبق للبنان، وكلاهما كانا متقدّمين في السن مع رجاحة عقليّة ... كل شيء في منزل بشير وسولانج كان أنيقاً وبديعاً. وقُدّم لنا عشاء رائع، وكانت آداب المائدة للحاضرين مثاليّة، وتم التخاطب بأجمل لغة فرنسيّة. وكان الأب، بيار الجميّل، طويلاً نحيفاً مستقيماً وأرستقراطيّاً. شمعون كان أقصر وأسمن، وأكثر ارتياحاً ... وبعد تقديم القهوة، بدأنا بالتصدّي لجملة مواضيع هامّة. وقام بيار الجميّل بمعظم الحديث في البداية، وبالفرنسيّة التي كان يترجمها لي إلى العبريّة واحد من جماعة الـ«موساد» بمعيّتي. وفيما كان هذا الرجل العجوز المتزمّت يصف الخسائر والدماء التي عانوها والمساعدة التي يطلبونها منّا، بدأ بالنحيب بصمت. ألقيتُ بنظري نحو وجه كميل شمعون ورأيتُ أنه كان متبرّماً من إظهار المشاعر. ومن خلال شفاه مقطّبة، همس للجميّل بالعربيّة: «ما تبكي» ... وشرحوا لنا النظام الانتخابي (الرئاسي) وعدد الأصوات التي يحتاجون إليها لتعزيز حظوظ كسب موقع الرئاسة، وكيفيّة الحصول على الأصوات تلك ... وقلتُ لو دخلنا نحن (إلى لبنان) فسندخل لحماية حدودنا الشمالية، لكن ستكون النتيجة قدرتكم على الحصول على فرصة لإعادة الحياة الطبيعيّة إلى لبنان. لكن هذا يتوقّف إلى حدّ كبير على السلام أو إجراء سلام بين إسرائيل ولبنان. وهنا قاطعني كميل شمعون ليقول إنه لا يعتقد أن بوسع أي حكومة لبنانيّة القدرة أو الرغبة على توقيع اتفاقيّة سلام مع إسرائيل. إن عمق العلاقات والمصالح الاقتصاديّة بينهم وبين العالم العربي، والعلاقة بين المصارف اللبنانيّة والمصارف العربيّة والعدد الكبير من اللبنانيّين العاملين في الشرق الأوسط والعلاقات التجاريّة ستمنعها. وإذا كان بيار الجميّل قد ترك عندي الانطباع بأن هناك إمكانيّة لإجراء سلام في مستقبل ما، فإن كميل شمعون كان أكثر تحفّظاً إزاء ذلك.
وتحدّثنا أيضاً عن علاقات المسيحيّين بالطوائف الأخرى، وخصوصاً الشيعة والدروز. وكان اقتراحي أن يقوموا بمحاولة تقوية علاقاتهم بتلك الأقليّات الأخرى، حتى إنني طرحت إمكانيّة تحويل _ وإن بصورة رمزيّة _ بعض السلاح الذي نمدّه لهم إلى الشيعة، الذين كانوا يعانون من مشاكل كبيرة مع منظمة التحرير الفلسطينيّة. ومع أنني لم أخض في التفاصيل، فإنني لم أعتبر يوماً الشيعة كأعداء لإسرائيل على المدى البعيد، والدروز لم يكونوا أعداء (لنا) بأي صورة من الصور ... كما أنني لم أكن أعتقد أن السنّة أعداء دائمون لنا بالضرورة. لقد تعايشوا معنا بسلام لأكثر من عقدَيْن من الزمن، وليس هناك من سبب للظن بأنه ليس بمستطاعهم ذلك من جديد ... وعندما وصلت أخيراً إلى منزلي في تلك الليلة، كانت ليلي تنتظرني. «كيف وجدت اللبنانيّين»، سألتني. «الانطباع الذي أخذته _ قلتُ لها _ أنهم قوم يقبّلون أيادي النساء ويرتكبون الجرائم».
وأخبرت (كمال) حسن علي عن الزيارة (إلى لبنان) وتباحثنا في ما كنتُ أراه من شروط للسلام. وعبّرت عن وجهة نظري أن شبكة القدس _ القاهرة _ بيروت ليست فكرة مستحيلة، وأن تحقيق ذلك يمكنه أن يغيّر من وجه الشرق الأوسط» ...
مرّة أخرى، كانت العاصمة اللبنانيّة تجربة غير معقولة، لكن بعد زيارتي في كانون الثاني لم أكن متفاجئاً تماماً. كانت المطاعم والبارات لا تزال مزدحمة وكانت الحشود نفسها تتدفّق في الأرصفة المُضاءة بالـ«نيون»، بينما كانت السيّارات الصادحة بالزمامير تملأ الشوارع. لم يكن هناك من أي أثر يُذكر لجو الحرب. قلت لبشير: «أوتعرف. ظننت أنه ربما سيهرع الناس للقتال من أجل وطنهم، لكن انظر إلى هذا» ...
كان هذا (موضوع «انتشار النفوذ الإرهابي») واحداً من المواضيع التي تباحثتُ فيها مع الرئيس المنتخب بشير الجميّل في منزله في بكفيّا في 12 أيلول (1982). وكنت قد قمت حتى ذلك الوقت بزيارات عديدة للبنان، إلى درجة أنني بتّ أعرف الصحافة المحليّة والكتّاب والنخبة المثقّفة وأقمت علاقات مع عدد من اللبنانيّين الموهوبين والمميّزين. ومع الفرحة التي صاحبت طرد منظمة التحرير الفلسطينيّة، كنت أجد نفسي محاطاً بمئات من المُبارِكين المُبتهِجين. وكان الترحيب بي في بيروت كبيراً، إلى درجة أنني أكثر من مرّة مازحتُ أصدقاء هناك أنني إذا أحتجتُ إلى اللجوء السياسي فإن لبنان سيكون اختياري الأوّل.
وكانت الأجواء في بكفيا دافئة بصورة خاصّة. كانت جماعة بشير، حول منزل عائلة الجميّل بجدرانه ذات الحجر القديم وأقواسه الأنيقة، مبتهجة بصورة خاصّة وكانت وجوههم مضاءة بالزهو والإعجاب بقائدهم. ومع اقتراب التنصيب، كان الترقّب يُظلّل سقف المنزل. شيء جديد كان على وشك الحدوث في لبنان، شيء مفعم بالأمل وإيجابي، للمرّة الأولى منذ أن أشعلت الحرب الأهليّة في عام درباً لا ينتهي من العنف. وكان بشير وسولانج فرحَيْن ومتحمسَيْن للتدشين (الرئاسي)، وملأ الغرفة شعور بالحميميّة، فيما جلستُ أنا وبشير للتحدّث في الخطوات التي سيتخذها كرئيس للجمهوريّة.
وبالرغم من الدفء الشخصي، كنتُ مدركاً أن أوّل موضوع على جدول البحث كان في إزالة الشعور السلبي الذي تولّد بين بشير ومناحيم بيغن في اللقاء في نهاريا قبل أقل من أسبوعيْن. لم تكن الكيمياء بين الرجل المسنّ والرجل الشاب جيّدة. ومع أن فرص مستقبل العلاقات بين البلديْن كانت واعدة، فإن البحث في نهاريا تركّز لسبب من الأسباب على مواضيع الخلاف، وبالتحديد وضع الرائد سعد حدّاد بعد الحرب ... وفي عالم الانقسامات اللبنانيّة المعقّد، كان حدّاد ينتمي إلى فريق مسيحي منافس لبشير الجميّل، ولم تكن العلاقة بين الرجليْن ودودة. وفي تلك الليلة في نهاريا، أوضح بيغن بشكل جلي أن إسرائيل لن تهجر صديقاً مُخلصاً لها، بينما لم يكن الرئيس المُنتخب حديثاً، بشير، في وارد تقديم أي تنازلات عن صلاحيّاته في الرئاسة التي سيتولّاها قريباً. كان اللقاء متوتّراً وتركه بشير ممتعضاً من محاولة رآها من بيغن للتدخّل في شؤون لبنان الداخليّة. ومثل بيغن، كنتُ مُلتزماً بالدفاع عن حدّاد، رجل قاتل معنا لسنوات. وقد تفهمتُ شعور بشير. وفيما جلسنا في منزله للحديث في تلك الليلة من 12 أيلول، حاولتُ جهدي لإزالة رواسب الغضب. وتحدّثنا بعدها في مواضيع أكثر عمقاً، وكان أوّلها موضوع الخطوات التي يجب أن تُتخذ لتنظيف بيروت الغربيّة من كوادر منظمة التحرير الفلسطينيّة لخلق مدينة مفتوحة وآمنة. لم يكن عند بشير أو عندي شك بأن قدرته على تشكيل حكومة مركزيّة مستقرّة مستحيل بوجود عاصمة مقسمة يمكنها أن تخلق بيئة خصبة لتوليد إعادة انطلاق لمنظمة التحرير. اتفقنا على أن في صالح بلدينا أن نتأكّد من انتزاع ما تبقّى من إرهابيّين من بيروت الغربيّة، على أن تقوم بذلك الحكومة اللبنانيّة بالتنسيق مع قوانا الأمنيّة.
تحدّثنا في أمور كثيرة، كما تحدّثنا في مستقبل العلاقات بين لبنان وإسرائيل. وكنا في هذا الموضوع على اتفاق، آخذين في الاعتبار التحديات التي ستواجه بشير في تعزيز سلطته كرئيس للبنان المسلم كما للبنان المسيحي. اتفقنا على أنّ مفاوضات مباشرة يجب أن تبدأ عما قريب، وبدأنا بالتحدث في طبيعة اتفاقيّة السلام التي نودّ أن نتقدّم نحوها. ولعلمنا بأولويّة هذا الأمر، حدّدنا موعداً للقاء إضافي (يحضره وزير الخارجيّة، إسحق شامير) يوم 15 أيلول، أي بعد ثلاثة أيّام.
الأمسية بدأت متأخرة، واستمرّ الحديث إلى ما بعد الواحدة بعد منتصف الليل بقليل، عندما دخلتْ سولانج لتدعونا الى عشاء خاص أعدّته هي على شرف المناسبة، ومليء بالأطباق التي تعلمُ هي أنني أحبّها. وعندما انتهينا من الأكل، قدّمت هي وبشير لي صندوقاً بديعاً منقوشاً من خشب الكرز وبداخله مجموعة من الأواني الفينيقيّة الزجاجيّة. كانت لحظة عاطفيّة. وبالرغم من المصاعب التي مررنا بها والتي لم نكن نتوقّعها، شاطرنا شعور في تلك اللحظة بأن البلد المُتشظّي يمكنه أن يستعيد عافيته. وعندما هممتُ بمغادرة المنزل في تلك الليلة، دعتني سولانج أنا وليلي والأولاد للقيام بزيارة مستفيضة للقصر الجمهوري بعد التنصيب. وأصرّ بشير على قيادة السيّارة لتوصيلي إلى الشاطئ حيث تنتظر الطوّافة. «لا تفعل»، قلتُ له. «لديك الكثير من الناس هنا الذين يستطيعون أن يقودوا السيّارة. عليك أن تكون أكثر حذراً، وخصوصاً الآن. أي شيء ممكن أن يحدث» ...
خلال اللقاء التالي مع أمين (الجميّل)، تحدّثنا عن التطوّرات وعن احتمال استمرار المفاوضات. لم ألمس حماسة من أمين، لكن من الصعوبة معرفة ذلك. ومع أن جنازة بشير كانت قد جرت للتوّ، كان أمين يرتدي بزة بيضاء جميلة، ومُحاكة بمهارة. وكانت أصابعه مثقلة بالخواتم المذهبة وكان ينتعل حذاءً لمّاعاً من جلد الأفعى. نظرت إليه وأدركت أن أياماً صعبة ستكون أمامنا. وفيما كنا في موضوع (صبرا وشاتيلا)، همس أحدهم في أذني: أنتم اليهود، أنتم مجانين. أنتم شعب مجنون».
وفي كانون الثاني (من عام 1983)، زرتُ أنا وليلي بيروت كضيوف لشاعرة لبنان العظيمة، مي المرّ، وزوجها المهندس المعماري، ألفرد المرّ. وكالعادة، كانت حشود الشوارع حماسيّة (نحوي) للغاية. لكن حكومتهم كانت أقل حماسة بكثير منهم على مر الأشهر المنصرمة».
هذا الفصل المشين من تاريخ لبنان يجب أن يكون معروفاً ومدروساً. والرجل كتب في وصف كورنيش المزرعة على أنّه شارع عريض يفصل بين «الأحياء الإرهابيّة». (ص 503) ووصف «الأحياء الإرهابيّة» ينطلق من عقليّة صهيونيّة كلاسيكيّة تعاملت مع المدنيّين العرب منذ بدء الهجرة الصهيونيّة على أنهم دخلاء على الإنسانيّة ويجوز هدر دمهم بشتّى الوسائل. لا تخفي سيَر أرييل شارون المنشورة في الغرب أنّ الرجل كان يرسل السيّارات المُفخّخة (يضحك جوني عبده عندما يُسأل إذا كان هو أيضاً يُرسل سيّارات مُفخّخة إلى بيروت الغربيّة في تلك الحقبة) من أجل زيادة الضغط على المدنيّين المحاصرين (انظر صفحة 166 من كتاب أنيتا ميلر وزملائها، «شارون: المُحارب _ السياسي لإسرائيل»). لكن علاقة شارون بقادة وكتّاب ومثقّفين في لبنان مرّت من دون حساب أو محاكمة، ويتحمّل مسؤوليّة ذلك أيضاً من لا يزال يزهو بأن «ضربة كف» لم تصاحب الانسحاب الذليل لقوّات العدوّ الإسرائيلي من أرض لبنان. لم تتعامل المقاومة الفرنسيّة بضربات كف مع أعوان الاحتلال النازي.
* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)