الدين هو مجموعة عقائد تصف علاقة الإنسان بالخالق، وطقوس تجسّد تلك العقائد بممارسات، أيّ أنه في النهاية ليس أمراً ذاتيّاً وإنّما هو تعبيرٌ تشترك فيه كلّ الجماعة المنتمية لذلك الدين. وعدا الجماعة الأولى التي آمنت ثمّ مارست الطقوس، فاليوم تؤدّي ممارسة الطقوس في كنف الجماعة إلى نشوء إيمان الطفل. هذا الإيمان الطفوليّ المُتَلَقّى عادة ما يمرّ بأزمة مباركة في المراهقة التي يسعى فيها المراهق إلى الاستقلال والتمايز عن الأهل، وتكون النتيجة إمّا تحوّل الإيمان المُتَلَقّى إلى إيمانٍ شخصيّ مُتَبَنّى، أو ترك للإيمان المُتَلَقّى (وما نفع إيمان سطحيّ قسريّ لا يتبنّاه الإنسان شخصيّاً؟).بخلاف الدين، الإيمان الذي يعبّر عنه الدين هو خبرة تُعاش شخصيّاً وذاتيّاً (وإن كانت تُعاش في قلب الجماعة)، هو خبرة علاقة شخصيّة تجمع المؤمن بالإله (أو بمجموعة من المبادئ) وبالناس، خبرة من المفترض أن تعبّر عن نفسها في طريقة حياة الإنسان (أفعاله وتصرّفاته مع الناس) وفي الممارسة الدينيّة (العقائد والطقوس). العلاقة إذاً جدليّة بين الدين والإيمان ولكنّهما يبقيان ميدانين متمايزين، الأوّل سماته الجماعيّة والأمور المنظورة والمُقاسة ويعبّر عن نفسه أساساً بالعقائد والطقوس، والآخر سماته أنّه علائقيّ حميم يعبّر عن نفسه أساساً بطريقة حياة.
لكن طالما أنّ الإنسان المؤمن يعبّر عن نفسه بطريقة حياة فهو حتماً سيعبّر عن نفسه في السياسة وتنظيم المجتمع، والاقتصاد، وغير ذلك. إذاً إيمان الناس يطبع دائماً - شئنا أم أبينا - السياسة وتنظيم المجتمع وغير ذلك، أي يتدخّل في السياسة والاجتماع والاقتصاد، إلخ. هذه ليست مشكلة طالما أنّ الإنسان يعبّر عن إيمانه بالوسائل المناسبة في كلّ من هذه الميادين: يعبّر في الفكر الاجتماعيّ بالبحث والكتابة، يعبّر في علوم الأخلاق بالفلسفة، يعبّر في العلوم بوسائلها، ويعبّر في السياسة بالتظاهر، بتنظيم جماعات الضغط، بإنشاء الأحزاب، بالتشريع والحكم، باحترام القوانين والدساتير وبتغييرها، بالمقاومة العنفيّة أو اللاعنفيّة أو بكلاهما دفاعاً عن حقّه بالحياة، إلخ.
المشكلة هي حينما يتدخّل الدين في السياسة. فالدين ليس الإيمان. الإيمان يسعى إلى بناء علاقة مع الإنسان الآخر ولبّها الملموس احترام الحياة في الآخر وفي العالم، وما يعني ذلك من عدالة وحرّية ومساواة بين البشر، وهذا لبّ الديانات السماويّة وغير السماويّة.
أمّا الدين فهو مجموعة عقائد وطقوس (وهي قليلة والباقي تفاسير واجتهادات)، همّه أساساً استمراريّة العقائد والطقوس، أي استمراريّته. بالطبع يهمّ الدين استمراريّة الإيمان وبالتالي العلاقة مع الآخر، والوعظ كلّه يدور في هذا الفلك، لكنّ الدين لا يمكنه قياس الإيمان والحكم فيه، لا يمكنه قياس الخبرة الداخليّة للإنسان، وبالتالي هو يهتمّ أساساً وحكماً بالملموس، بالشكل، بالإطار، بالتعبير (العقائد والطقوس). كلّ ما يمكن للدين فعله هو قياس مدى تطبيق الإنسان للطقوس ومعرفته الفكريّة للعقائد.
ولكنّ النقطة الأهمّ والتي تجعل الدين مهتمّاً أساساً باستمراريّته هي أنّ هناك قناعة عند المتديّنين أنّ طريقهم الدينيّ هي وحدها الصحيحة والمؤدّية إلى الخلاص (ملكوت الله، الجنّة، المساواة بين البشر، الحرّية، إلخ) وأنّ الأديان الأخرى ليست صحيحة وهي إمّا حكماً لن تؤدّي إلى الهدف النهائيّ بل تؤدّي إلى عكسه، أو أنّ هناك خطراً كبيراً بألّا تؤدّي إلى الهدف النهائيّ (الملكوت، العالم الأفضل). هذا هو سرّ المشكلة. الدين لا يؤمن إلّا بذاته كطريق. لهذا، فالدين يهمّه الدفاع عن استمرارية الطريق الفضلى للوصول إلى هدف الملكوت أو العالم الأفضل، وكلّ دين مقتنعٌ بأنّه حصراً الطريق المعبّدة الوحيدة إلى الله (أو إلى المبادئ). لهذا كان دمج الدين بالسياسة كارثيّاً دائماً، إذ عندما تصبح الدولة دينيّة تمثّل ديناً محدّداً، أو طائفة محدّدة، عندما يصبح هدف الدولة دينيّاً، فإنّ المتديّنين عندها يتملّكون سلطة العنف المعنويّ والعنف الجسديّ ويستخدمونهما ليضمنوا استمراريّة الدين بقوّة السلاح والقانون، لا بقوّة إقناع الضمائر والقلوب كما فعل المؤسّسون الأوّلون للدين. الحكم الدينيّ لأنّه يرى نفسه ممثّلاً لدين (بالأحرى طائفة) محدّد ينزلق حكماً لقمع غيره من الأديان، ويسعى جهده ليحصرها ويشلّ حركتها، ويمنعها من نشر أفكارها الدينيّة بين الشعب. ولهذا كان تدخّل الدين في السياسة كارثيّاً إنسانيّاً.
أمّا المؤمنون (بالله أو بمبدأ وفلسفة) فلا مشكلة في أن يتدخّلوا في السياسة من منطلق إيمانهم، لأنّ ليس همّهم أن يدفعوا بدين معيّن إلى الواجهة بل أن يترجموا طريقة حياتهم، ومبادئ يستنتجونها من عقائد دينهم، في السياسة والاقتصاد والاجتماع وغيرها. هؤلاء جميعاً يمكنهم أن يتّفقوا على مبادئ مشتركة للعمل معاً والحكم معاً والنضال معاً. بالطبع حقّ لنا أن نحكم على المبادئ التي اتّفقوا عليها، لأنّ هذه لها أثر علينا جميعاً، ونترك ذلك لمقالة أخرى.
بالطبع يمكننا أن نتخيّل ونقول إنّه لربّما كان من الممكن لدين أن يستولي على أواليّات الحكم ويبقى متسامحاً مع الأديان الأخرى إذا تأمّن ضابطان له، الأوّل قبول المتديّنين بأنّ لا دين يمثّل الله، وبأنّ لا أحد لا حاكم ولا رجل دين، يمثّل الله؛ والثاني بأن يقتنعوا بأنّ الدين يدعو بالإقناع لا بالقسر وإلّا يخون الدين الرسالة التي يحملها. ولكن هذا التفكير المنفصل عن واقع الدنيا وتاريخ الدول الدينيّة الماضية والحاضرة، لا يكفي، فالحكّام الذين يمثّلون ديناً ما، هم بالضرورة لا يمثّلون سوى شريحة من المحكومين ولا يمكنهم إطلاقاً أن يمثّلوا بشكل حقيقي لا صوريّ، سوى أتباع دينهم؛ ولهذا تنتفي كلّ مواطنيّة ومساواة بين المواطنين في شكل الدولة هذه، مهما كانت النوايا والأفكار المُعْلَنَة.
الواقع أنّ الإيمان يتدخّل دائماً في السياسة وغيرها بواسطة طريقة الحياة والأفكار التي يحملها المؤمنات والمؤمنون وهذا ليس مشكلة بحدّ ذاته، هذا جزء لا يتجزّأ من الحياة الإنسانيّة، ولكن تدخّل الدين في السياسة خَطِرْ ويجب تجنّبه، لأنّه مرشّح أن يتدهور إلى قمع للآخرين وهو يخلق حكماً حالة من عدم المساواة فادحة، في بنية الدولة بالذات.

* أستاذ جامعي