بداية أحيي الكاتب السياسي والمؤرخ أسعد أبو خليل على مقالاته ودراساته التاريخية والمعاصرة التي أسهمت في رفد الواقع الراهن بالكشف عن العديد من المفاصل والمواضيع والإشكاليات السياسية وهذا أمر يشكر عليه. ولطالما رغبت بأن ألقاه، لبحث جملة من القضايا التي هي بحاجة إلى نقاش وإيضاح وسيكون اللقاء، حكماً، مفيداً لكلينا من حيث التواصل المعرفي وتبادل الخبرات.لقد قرأت بإمعان مقالته المنشورة في «الأخبار» بتاريخ 29/6/2019 حول الحرب الأهلية الأميركية والحرب الأهلية اللبنانية: مقارنة.
وهي واقعاً دراسة مهمة وهادفة وألقت الضوء على تجربتين تاريخيتين لعبتا دوراً مفصلياً في تقرير مسار بلدين أحدهما، الأميركي، رأس الإمبريالية المعاصرة. ما يهمّني مناقشة تجربة الحرب الأهلية اللبنانية وما جاء في مقالة الكاتب من أفكار ومواقف وتحديات حولها، خصوصاً في هذه الآونة التي عادت خلالها نغمة إيقاظ الفتن والمشاعر الطائفية تتردد في لبنان، أثر أحداث الجبل الدامية وسقوط قتلى، وأيضاً في أعقاب زيارات الوزير جبران باسيل المتنقلة إلى العديد من المناطق والتي لاقت انتقادات واسعة.
سأحاول في هذا الرد إبداء رأيي بما جرى خلال الحرب الأهلية اللبنانية وأنا عشت، تقريباً، معظم مراحلها ومساراتها التي اختُلف على تسميتها وتوصيفها: حرب الآخرين على الأرض اللبنانية أم حرب اللبنانيين في ما بينهم ومع الآخرين.
يقول أبو خليل: «أما في لبنان، فحربه حوت أو عكست، ليس فقط الحرب الباردة بل الحروب العربية الباردة والساخنة: إذ بالإضافة إلى استخدام ساحته من قبل المعسكرين الأميركي والسوفياتي (كالعادة، كان التدخل السوفياتي خجولاً مقارنة بالتدخل الأميركي) كانت كل الصراعات العربية والإقليمية تنفجر فيه... الخ». هذا الإقرار والاعتراف بهذا التدخل يفيدني عند توصيفي هذه الحرب بأنها كانت حرباً تداخلت فيها الأسباب، ما جعل محاولة حسم الصراع وكسر شوكة الفريق الانفصالي التقسيمي كان يمكن له أن يوفر سنوات من الحرب» - بالنسبة لي وبرأيي هذا هو بيت القصيد. فالحركة الوطنية برئاسة كمال جنبلاط التي دخلت هذه الحرب لفرض برنامجها الإصلاحي الذي كان باعتراف أصحابه إصلاحياً وليس ثورياً أعطيت المبرر كي تنفذه قسرياً وتحسم بقوة السلاح والاستقواء بالوجود الفلسطيني المسلح بقيادة «فتح» ومعها خليط متنافر الأهواء والأغراض من المنظمات الممولة والمنقادة من الأنظمة العربية، أقول أعطت للكتائبيين ومعهم غالبية المسيحيين المبرّر كي يقاتلوا بالسلاح الذي استقدموه من إسرائيل تنفيذاً لهذا المشروع التقسيمي الانعزالي المعدّ منذ زمن لكن مع وقف التنفيذ لتعذر تنفيذه. نعم كان هذا المشروع غير قابل للتحقيق. هو قديم وموجود في أدراج المخططين والحالمين بتنفيذه، غير أن إمكانات التنفيذ وحيثياتها الجيوسياسية والواقعية لم تكن متوفرة بعيد تاريخ تشكّل لبنان الكبير في عام 1920. فكيف رأى وتبدّا لتكتل كمال جنبلاط ومعه «الحزب الشيوعي اللبناني» و«الحركة الوطنية» أن بإمكانهم تنفيذ هذا المشروع؟ لم يدر النقاش يوماً عن عدم وجود هكذا مشروع، بل كل ما قيل حوله، كان عن استحالة تنفيذه إلا في ظروف ظهر يومها واضحاً أنها كانت حالمة وغير واقعية، وأثبتت التطورات اللاحقة حقيقة هذا الأمر.
يعود الكاتب ليقول في مكان آخر من المقالة «كان فريق الحركة الوطنية حتى عام 1982 يسعى جاهداً إلى وحدة لبنان في دولة مركزية ضد مشروع التقسيم الانعزالي... لكن فكرة الإصرار على الدولة الاتحادية المركزية تقلصت بعد 1982، خصوصاً أن رئيس الحركة الوطنية السابقة، وليد جنبلاط، عمل على إنشاء إدارة مدنية في الجبل. أما في المقلب الانعزالي فيكمن تقسيم الحقبات في الحرب بين 1975 وبين صعود الليكود في عام 1977، كان المشروع الانعزالي في سنوات حزب العمل - إلى هذه الدرجة ارتبط مشروع «الجبهة اللبنانية» و«القوات اللبنانية» بدولة إسرائيل الراعية لهما - مشروعاً تقسيماً».
بدلاً من أن يستعملوا المقاومة الفلسطينية للعبور إلى التغيير استعملتهم هي بالمقابل


صحيح ما قاله الكاتب حول انسداد أفق تنفيذ المشروع التقسيمي الذي بقي حبراً على ورق. لكن ما أسقطه من وقائع وأسباب هي، بمجملها، عائدة لوجود المبرر لنشوب هذه الحرب: المنظمات الفلسطينية بقيادة «فتح» أبو عمار وجموح كمال جنبلاط ومعه أقطاب «الحركة الوطنية» لقلب الواقع السياسي القائم والاستيلاء على الحكم الذي كان منذ البداية حلماً مستحيلاً ومجرد مغامرة مأساوية أنتجت دماراً للبنان ومقتل ما يفوق الـ 100 ألف قتيل وآلاف المفقودين والمشردين. لقد عادت إسرائيل بعد عام 1982 وكانت هي المستفيدة من حرب لبنان إلى احتلال جنوبه، لكن المقاومة والواقع الدولي والعربي أجبراها على الانسحاب لاحقاً على مراحل. أنا أرى أنه مع وقوع الصدام في عين الرمانة في 13 نيسان 1975 واندلاع الحرب اللبنانية كانت المواجهة شاملة بين فريقين: المنظمات الفلسطينية بقيادة «فتح» والأحزاب المسيحية. لقد اعتقد أهل اليسار وفي مقدمتهم الشيوعيون، وكمال جنبلاط بشكل خاص، أن مسألة إخضاع الوجود الكتائبي ستكون سهلة وبدون مضاعفات، وأن الأحزاب المسيحية لن تجرؤ على الدخول في مواجهة عسكرية مع المنظمات الفلسطينية.
أضف إلى ذلك أن القادة العسكريين الفلسطينيين اقترحوا القيام بعملية عسكرية في منطقة الأشرفية المسيحية، وهي مركز مهم للكتائب في قلب بيروت الشرقية. وما كان يعتبره اليسار والمنظمات الفلسطينية مؤامرة تجري على يد حزب «الكتائب» المعزول سياسياً كان نقيض ما اعتبره المسيحيون محاولة جديدة من الفلسطينيين وأنصارهم لإثارة البلبلة والسيطرة على البلاد بقوة السلاح. وبدا واضحاً أن الفلسطينيين و«فتح» تحديداً واليساريين كانوا على اقتناع بأن حزب «الكتائب» لم يكن يتمتع بدعم كبير في القاعدة الشعبية المسيحية، وبأن الحزب بات يعدّ أيامه الأخيرة، هذا التفكير لم يكن واقعياً... فحزب «الكتائب» لم يكن معزولاً عن باقي القوى المسيحية الطائفية. فهي أظهرت تلاحمها معه في الشأن الفلسطيني - وأحداث أيار (مايو) 1973 أكدت هذا الأمر. وحين تعاطفت أنا خلال تلك الأحداث مع فكرة حمل السلاح للدفاع عن الفلسطينيين أمام قصف جيش سليمان فرنجية لمخيماتهم لم أكن واهماً بأن تغيير النظام السياسي اللبناني ممكن إنجازه بواسطة رافعة المقاومة الفلسطينية أو عبر نضالات القوى الشعبية اللبنانية بالدعم الفلسطيني المقدم إلينا. إن الخلط بين الأمرين أدى إلى شطط كبير وخسارة معنوية ومادية هائلة لدى جماهيرنا المعبأة ضد النظام والآخذة بمبدأ التصدي له بهدف تغييره.
إن تطبيقاً واقعياً لبرنامج «الحركة الوطنية» لم يكن ممكناً، كونه دمج في المحصلة بين الموقفين: السياسي الاقتصادي الداعي إلى إصلاحات تغيير النظام اللبناني والعسكري المرتكز إلى أرضية نصرة المقاومة الفلسطينية سياسياً ولوجستياً وبشرياً. وكان موقفي تجاه هذه المسألة مغايراً لذلك بالأساس. فمع أهمية دعم المقاومة الفلسطينية التي كانت على الأرض تمارس تجاوزات ضارة كثيرة حتى مع حلفائها اليساريين والوطنيين، فإن ذلك لا يجعلها العامل الحاسم نحو التغيير الثوري الذي كنت أراه ممكناً في مراحل وظروف ملائمة طبقياً واجتماعياً وسياسياً أخرى، وبالتالي عدم جواز الالتصاق بحركتها. إن التغيير برأيي كان مشروعاً وتتوفر له العوامل والأسس الراسخة لإنجازه عبر تحالف ثوري عماده عمّال لبنان وشرائحه الاجتماعية والسياسية المختلفة من طلاب ومتنورين ومزارعين ومنتجين يقوده الحزب الشيوعي والقوى الأخرى المتحالفة معه. بهذا المعنى فإن مهمة حشد هذه القوى وقيادتها كانت من مسؤولية الحزب الشيوعي واليسار. هذه هي نظرتي تجاه الحزب ودوره منذ انتسابي إليه في نهاية الخمسينات، وكان ذلك يتطلب جهداً خاصاً مبذولاً وقيادة ثورية ذات خط وممارسة ثوريين وبنية تنظيمية ثورية. لكن ما حصل من تجاذبات في داخله وسيطرة القوة الإصلاحية والمغامرة على مقاليده والاستكانة إلى دعم الخارج من علاقات أممية مع المركز السوفياتي، من دون النظر بموضوعية إلى المكاسب والخسائر الناتجة عن هذه العلاقة، أفقدته فرادته وميزته ودوره في قيادة النضال الثوري للقوى اليسارية والديمقراطية وتحول إلى مستتبع للمقاومة الفلسطينية حين قوي عودها وخصوصاً «فتح» بعد مغادرة الأردن واستقرارها في لبنان واللعب على تناقضاته الطبقية والطائفية، ما أدى إلى محاصرته ووقوعه في صلب صراعات الأنظمة العربية وعزله بالمواقف الخاطئة، وغير المستقلة.
لقد ظن قادة الحزب الشيوعي في منتصف السبعينات، أي عشية الحرب الأهلية اللبنانية، ومعهم كمال جنبلاط وقيل إنه كان جامحاً نحو الاستيلاء على السلطة وضرب الموازين القائمة، أن باستطاعتهم القفز فوق الواقع الطائفي والطبقي وجذب نهوض الجماهير إليهم وأخذ مقاليد الأمور بأيديهم لاحقاً، عبر التحالف مع المقاومة الفلسطينية والعصف بأبواب البرلمان اللبناني الذي حاصروه بشعاراتهم الحمراء والإطاحة به. لكن غاب عن بالهم أن هذه القوى المتفجرة لم تكن حرة في خياراتها كي تقود معركة خلاصها الوطني والطبقي، بل كانت مجبرة على تجيير كل زخمها وهدرها لحركة الفعل والثقل الفلسطيني المحكومة بالسقف الإصلاحي والتسووي المساوم والمحدد الرئيسي لوجهة الصراع ونتائجه. فبدلاً من أن يستعملوا المقاومة الفلسطينية للعبور إلى التغيير، كما ظنوا ونظّروا لذلك، استعملتهم هي بالمقابل وحوّلتهم إلى أدوات طيّعة لحركتها المتذبذبة والرجراجة والدائرة في فلك صراعات الأنظمة العربية. لقد اختلط الأمر عليهم وفرّطوا بالأولويات والأهداف الأساسية إلى حد أنهم ابتكروا معادلة خاطئة حكمت سلوكهم وهي التحالف المصيري بينهم وبين المقاومة الفلسطينية لتحقيق أهداف انتصار الحركة الشعبية اللبنانية بآفاقها التحررية.
وقد وضعوا لهذا الغرض بيضهم كلّه في سلّتها. وكان لخيار الالتصاق الذي نفذوه مع كمال جنبلاط وبقيادته مع حركة ياسر عرفات أبلغ الضرر عليهم وعلى حركة التحرر العربية والجماهير اللبنانية في آن. والأمثلة على ذلك كثيرة. ويمكن الاستشهاد بعشرات المواقف والمؤشرات والروايات عن المدى الذي وصل إليه استلحاق «الحركة الوطنية اللبنانية» بالآلية اليومية لعمل المقاومة الفلسطينية وتجاذباتها. وتكملة القصة معروفة عن الصدام السوري - الفلسطيني («الصاعقة» وحلفائها ضد «فتح» وحلفائها من اللبنانيين) وما نتج عنه، لاحقاً، من أضرار وهزائم وصولاً إلى مرحلة «الطائف»، وما تلاها من وصاية وعودة إلى حكم الميليشيات سياسياً في زمنه السلمي.
ويبقى القول إن حقبة الحرب الأهلية اللبنانية كانت معبراً بخسائر فادحة ونتائج مأساوية على كافة الصعد، نحو لبنان «الجديد» الذي يهجره شبابه بسبب أزماته التي لا تحصى وواقع مجتمعه الذي لا يعد بآفاق مستقبلية واعدة تتيح لأبنائه الباقين فيه العيش، كمواطنين لا كرعايا للطوائف والمذاهب بأمرائها القدامى والجدد.
* كاتب سياسي، وباحث لبناني، من مؤلفاته: «أحزاب لبنان» و«قيادات وهزائم».