(1)
في صبيحة يوم الاثنين، الموافق الثالث من يونيو/ حزيران عام 2019، قامت قوات «الدعم السريع» (لن أسميها الجنجويد، ومقالي هو تغيير لنقطة التركيز هذه من البداية)، بفض اعتصام السودانيين أمام القيادة العامة للجيش، مخلّفة وراءها أكثر من مئة قتيل، ورُمي يومها أربعون شخصاً تقريباً في النيل، لأنه على ما يبدو لم يجد القتلة وسيلة أفضل لإخفاء جثثهم. لن أتحدّث عن حالات الاغتصاب، نحن أمة يمكنها الحديث عن الموت فقط، ذلك هو أقصى حدود فضاء المعنى المُتاح لنا. يمكننا أن نقتل القاتل، أما المغتصب فهو ممّا يصعب الانتقام منه حتى. (ولكن على هذه الدرجة من «اللامعقول» علينا جميعاً أن نفهم أن ما نعتبره «مستحيلاً» من الحلول، يظهر مكانه «مستحيل» آخر في شكل الآلام التي لا نستطيع حتى التعبير عنها. إن كان صنع مساحة اجتماعية ــ سياسية جديدة جذرياً، تسمح لنا ببناء دول مستقلّة وعدالة اجتماعية حقيقية، مستحيلاً... إن كانت الشيوعية «مستحيلة» فعلاً، فالممكن فقط هو الفوضى).
بخروش بن علاس الزهراني .. أحد رجال الدولة السعودية الأولى

في الأيام التالية، رفع الشباب في الساحات المحفوفة بخطر الموت المباشر شعاراً جذرياً: «الدم قصاده الدم». أي أمام الدم لا يقبل عندنا إلا الدم... في الحقيقة نحن أمة لم تُجِد بعد فهم أهمية العنف الثوري. وكيف أن ما ترفضه ليبرالياً كخيار، يرتد على أهلك كحتمية. لذلك ذهب الشعار، وعي الجماهير، (حين أقبل وعي الجماهير، فأنا أقبل الحقيقة حتى وإن أتت من الجماهير التي أكرهها في العادة/ إحدى نقاط الفشل المستمر في اليسار هو التقديس الغريب لشيء لزج غير حقيقي مثل «الجماهير»). ذهب الشعار هباءً في بحار السياسة المنتمية للماضي الخائفة من الجديد و«إرهابه».
دافعي لكتابة هذا المقال هو انتقاميّ تقليدي: ما ذنب الشباب الذين انتهت حياتهم يومها؟ أنا لا أجد أيّ إجابة منطقية على هذا السؤال. ثم يخطر ببالي سؤال آخر، أقل أهمية: ما الذي سيمنع تكرار هذا الحدث؟... لا تفهموني خطأ، أنا لا أهتم للموت، بحكم مهنة الطب، ومعرفة قليلة بهايدغر، أنا أعرف أن الموت هو مجرّد عادة، يموت الناس يومياً وبالآلاف كضحايا لكوارث لا يملك أحد ردّها. في وباء الإيبولا أخذ الموت الآلاف من شعوب أفريقيا الفقيرة، لا يدّعي أحدنا أنه لم يستطع النوم في الليلة التالية لإحدى الكوارث أو الحوادث العرضية التي قتلت المئات. أحزن على مرضاي، وتحضرني صور آخر لحظاتهم، فأنا في النهاية إنسان له مشاعر، لكنني لا أشعر بالغُبن، أتمنّى فقط لو كان بإمكاني أن أردّ القدر، ثم أذهب في اليوم التالي لأقوم بما هو ممكن في حدود العلم. أمّا معضلة الموت الوجودية فهي للدين. وليس السياسة.
ما حدث يوم فضّ الاعتصام لم يكن موتاً. لقد كان قتلاً متعمّداً، سياسياً، صراعاً طبقياً تفجّر ونحن فيه الطرف الأضعف. ولذلك ليس هناك ردة فعل «إنسانية» في هذا المجال. في الحقيقة، فإن الغضب المكبوت في السياسة هو فعل لا إنساني من البداية إلى النهاية. لأن البشر ينسون، أما الكوادر التي رأت عدوّها واضحاً فهي تاريخية في وعيها، صاحبة ثقافة مكتوبة، منظّمة في كيانات عابرة للبشر وحيواتهم المحدودة، الكره الصحيح هو دائماً كره رمزيّ خالٍ من المشاعر. مثل كرهي الذي أريد أن أرصده هنا للنزعة الفاشية في النظام السعودي.
(2)

قال ماكس هورخايمر في عام 1939: من كان يريد أن يلتزم الصمت حيال الرأسمالية، فعليه أن يفعل الأمر ذاته حيال الفاشية. أحاجج هنا أن المطلوب اليوم هو العكس: من كان يريد أن يلتزم الصمت حيال الفاشية السعودية، فعليه أن يفعل الأمر ذاته حيال الرأسمالية والنفط.
هنالك عدّة مسائل عندما يتعلق الأمر بتعريف «الفاشية» اليوم:
1. تصوّر الفاشية مرتبط بصورة طفولية بشخصية هتلر. بينما الفاشية في الحقيقة هي منظومة بدأت تحديداً، وبصورة أقل عنجهية وبلاهة وأكثر عملية ومنطقية وتنظيراً، عند موسيليني.
2. الاعتقاد بأن الفاشية ظاهرة أوروبية. نحن نعتقد، في أكثر من مسألة تاريخية، بأننا يمكن أن نحصل على الرأسمالية، والدولة الغربية الحديثة، بلا أيّ اتّصال بتاريخ الغرب. الإسلاميون يعتقدون أنه يمكن التعامل مع الرأسمالية بدون صراع طبقي، فنحن مجتمع مسلم منسجم، والليبراليون يعتقدون بأن شعوبنا منزّهة عن الفاشية. والشيوعيون يعتقدون في قرارة عقولهم بأن شعوبنا محصّنة ضد الدعاية الشيوعية... الأخيرون، كما هو واضح، الأكثر إثارة للضحك، فهم اتّجهوا بالفكرة، التي روّج لها البيان الشيوعي بين العمّال، نحو البرجوازية الصغيرة المثقفة صراحة، ثم بين العمّال هم «اشتراكيون».
3. في السياق الذي سرد فيه هورخايمر فكرته، عن الرأسمالية والفاشية، كان الصراع الطبقي حقيقة ملازمة للرأسمالية، «الفاشية» جاءت أساساً لتُخفي الرأسمالية. بطريقتين: أولاً يلغي القائد الفاشي الصراع الطبقي داخل «الأمّة» أو «العرق». وثانياً، يلغي الليبرالي نقد الرأسمالية عبر تركيز كلّ النقد للفاشية. وهنا تدخّل هورخايمر. بينما عندنا «الرأسمالية» هي كلمة السر، كلمة جميلة، من يرفض «الاستثمارات الأجنبية»، «معدلات النمو»، وحتى «الملكية الفردية»، و«التراكم» اليوم؟ تخفي النزعات الفاشية نفسها عندنا في صورة نظام ليبرالي عقلاني رأسمالي طبيعي.
بالنسبة إلى النظام العسكري الأوليغارشي المصري، وبالنسبة إلى النظام السعودي، كانت الثورات العربية مهدّداً حقيقياً


4. النظام السعودي ليس نظاماً قومياً عادياً. الدولة السعودية في ذاتها ليست دولة قطرية اعتيادية. وبالتالي، فهدف النظام السعودي الحقيقي ليس التراكم الرأسمالي وتحقيق تنمية ونفوذ و«حلم قومي»، مثل دول المعسكر الفاشي في بدايات القرن. هدف النظام الفاشي في ألمانيا أو إيطاليا كان في الحقيقة هدفاً طبيعياً: أن أوسع دائرة نفوذي، أن أُراكم رأس مال يحقق الرفاة للمجتمع، أن أفرض هويتي القومية بصفتها الهوية المنتصرة صاحبة نمط الحياة الأفضل. لذلك، لم تكن الفاشية فكرة نخبوية، هي فكرة جنّدت خلفها الطبقات القاعدية وألهمت طاقتهم للعمل. هنا الفاشية تخدم المنظومة الرأسمالية فعلاً. تُخفي الصراع الطبقي وتفعّل القدرات الاجتماعية والعسكرية لمصلحتها. النظام السعودي على الطرف الآخر نظام هدفه الأساسي فاشي مباشر: أن تُهيمن أسرة على مقدرات أمة بأكملها وتحكم بالتوريث وتبيع الوطن للأجانب في سبيل ذلك. الرأسمالية وعائدات النفط بالنسبة إلى النظام السعودي هي وسيلة بقاء فقط. ليس هناك «حلم قومي» فعلاً، هنالك خيانة مكتملة الأركان ويومية لكلّ بديهيات ما يمكن وصفه بالأمة «العربية أو الإسلامية». لذلك فهو نظام فاشي بلا شعبوية حتى. والصورة الرأسمالية، الليبرالية اقتصادياً، هي مجرد واجهة. النظام السعودي ليس تطوّراً طبيعياً في الحداثة، مثل الأنظمة الفاشية العادية، هو نظام قبل حديث بصورة صريحة وجد عبر تحالف إمبريالي وثروة كبيرة، مكاناً ليستمر في الحاضر. المحصلة هي منظومة فاشية غير عقلانية. لذلك أقلق شخصياً من تدخّلات السعودية أكثر مما أقلق من تدخلات الغرب. ليس هنالك مجال للمقارنة أساساً. ما يحدث في اليمن وليبيا وسوريا يشير إلى فكرة بسيطة: يفضل النظام السعودي تدمير دول جارة بصورة كاملة على أن تتمتع بديموقراطيات ضعيفة. هذا خيار جنوني. ما لم نفهم أننا أمام نظام فاشيّ غير عقلاني.

(3)

ما هي الفاشية؟
عرف المنظّرون الماركسيون الفاشية حتى قبل ظهورها. فالنظرية الجيدة لها قدرة التنبؤ بأعدائها: عندما يصل الصراع الطبقي إلى مرحلة النضج، ويبدأ المجتمع في الاصطفاف، أغلبية غير مالكة لوسائل الإنتاج مُفقرة منهجياً و«ليس لها غير قيودها لتخسرها»، ضد أقلية تملك وسائل الإنتاج، في هذه الحالة يبدأ الجديد في التشكل. ما لم يفهمه الشيوعيون في أفريقيا والشرق الأوسط، حتى الآن، هو أن النظرية الماركسية لا تعتبر هذا الأمر «فعلاً». أو على الأقل ليس فعلاً رئيسياً، هو مجرّد «توجيه وحشد». هو مجرد حقيقة حتمية. هنالك في الحقيقة خياران فقط، إما هذا الاصطفاف أو حالة فوضى كاملة تدخل فيها الطبقة العاملة متحوّلة إمّا إلى حروب أهلية همجية مثل الكونغو الديموقراطية، أو إلى عمال عبيد بصورة مباشرة، كحال العمال في الإمارات. وأنت تبدأ الفعل في ما بعد الاصطفاف. بل تحضّر له قبل حدوثه، كما قال ماركس: هنالك سنوات وعقود تمرّ فقيرة تاريخياً مثل أيام قلائل، وهنالك أيام وساعات لها محمول تاريخيّ يساوي عقوداً. الحزب الثوريّ هو حزب مصمّم للعمل في لحظات الأيام القلائل الثورية. وربما بعدها عليه أن يختفي. أما أن ننشغل فقط «بالحشد والتعبئة لصراع طبقي حتمي» فهو شغب لا غير. لذلك فإنّ مقولة غرامشي بأنه بين أيام ظهور الجديد واحتفاء القديم، تظهر التشوّهات، هي عندي مقولة يُقصد بها غير الخطر الفاشي، بصورة أكبر، خطر المجموعات الطليعية المشوهة، الفاشلة.
على العموم، بعد الاصطفاف، وما أن يبدأ الصراع الطبقي بأخذ شكل مطالب ورغبات، يبدأ «الرجعيون» (وهم أثرياء ليبراليون جميلون في وضعهم العادي بالمناسبة، عكس ما يشير الاسم) بالتحوّل إلى كتل متوحّشة. ما يمكنهم خسارته هو في الحقيقة كلّ أحلامهم. أن تحاصر الإنسان في ما يملك من مادة ومعنى. هنا يبدأ «قادة المجتمع»، «سادته القدماء» بالتحرّك في ما كان يسمى في النظرية الماركسية الكلاسيكية، سياسات ردود الفعل. وتظهر هذه السياسات في شكل ركوب الموجات الثورية، تعلية الصراعات الهوياتية، أو التمسّك بأمور أخلاقية حقيقية مثل الدين... إلّا أنه من بين الخيارات هو التوجّه الفاشي. لذلك، لم يكن ظهور الفاشية أساساً، متزامناً مع ظهور القومية، بل مع ظهور الشيوعية، تحديداً الحزب الشيوعي الألماني، والإيطالي (الذي كان موسيليني عضواً فيه).
في ثورات الربيع العربي، تمّ توجيه تهديد حقيقي للمنظومة الخليجية. هنا، أكاد أسمع تهكّمات اليساريين الذين أخطأوا في قراءة الربيع: دعنا نبدأ أوّلاً من نقطة يمكننا أن نتّفق عليها، وهي حقيقة أن المملكة كرهت هذا الربيع الهامشي فعلاً. وأن أوّل مساوئ احتقار الربيع العربي العملية بالنسبة إلى اليسار العربي، كان أنهم لم يتمكنوا من توجيه النقد الهدّام فعلاً للنظام السعودي، بصفته نظاماً يعاني من ارتياب مرضيّ من أتفه التحرّكات الديموقراطية. على العكس، انشغل قطاع في اليسار العربي بكرهه الخاص للربيع العربي، إن كان بحجة دعم المقاومة، أو منع الإمبريالية من السيطرة على الديموقراطيات الضعيفة. (نقطة الخوف على المقاومة هذه أنا أراها قمة في التفاهة، لا يستطيع اليساري العربي أن يأكل التفاح والبرتقال في الوقت نفسه. أنا مثلاً أدعم المقاومة، وأرى نفسي أتخلّى عملياً عن تموقعات ديموقراطية معيّنة في أكثر من مكان، مثلاً عندما بدأ النظام السعودي بتحويل سوريا إلى ساحة محكومة بالتنظيمات الإرهابية ليُهدّد حزب الله، أنا أقف مع حزب الله، وبإمكاني أن أتحدّث مع السوري رفاقياً عن أنه لا فائدة من تحطيم حزب الله، ما دامت الثورة السورية لم تستطع إبعاد النفوذ الخليجي فهي قتلت وقتها وليس بأيدي حزب الله (مهما بلغت درجة الخلاف في التكتيك، فإنه ليس من غير المعقول تصوّر تفاهم معيّن بين القوى الديموقراطية الوطنية وحزب الله، بينما ليس من الممكن تصوّر الأمر نفسه مع النظام السعودي)... ونحن في النهاية لا نريد بناء أوطان ديموقراطية تستطيع إسرائيل قصفها متى أرادت... هذا حوار صعب، أجبرَنا عليه الواقع ونحن لا نترفّع عن الواقع بل نخوضه... لكن لماذا يجعلني كلّ ذلك أقلّل من الثورة في مصر؟ وأبدأ بصورة طفولية وعبيطة بوصفها بأنها مجرّد ثورة قوى رجعية على رأسها الإخوان المسلمون؟).
في ثورات الربيع العربي، تمّ إدخال كلمة معيّنة في الواقع: الديموقراطية. هذه الكلمة في بلداننا ليست إلا تعبيراً عن صراع طبقي واصطفاف كامل. الأغلبية في جهة (كل الطبقات الفرعية، العمال، والطبقة غير العاملة، والبرجوازيون الصغار) والأقلية الأوليغارشية في جهة أخرى. كلّ من يحتقر «البناء الفوقي» هو غير مدرك تماماً للتكوين التحتي الذي يحاجج به. أن تكون ديموقراطياً في مصر، هو أمر مختلف تماماً عن أن تكون ديموقراطياً في الولايات المتّحدة. في مصر، تساوي كلمة ديموقراطية عند الأوليغارشية كلمة شيوعية. الفرق طبعاً أن التدمير الكامل لهذه الطبقة، الذي سيحصل لا محالة في حال استمرار الديموقراطية لعشر سنوات فقط، لن يتبعه مجتمع شيوعي. بل برجوازي تقليديّ. في الحزب الشيوعي السوداني، أطلق عبد الخالق محجوب في الستينات، تصوّراً لكيفية عدم ترك هذه الأمور الحتمية لمسارها عبر تدخل الحزب: أن يستغل الحزب الحراك الثوري، في فترات الانتقال المضطربة، ثم فترات الديموقراطية البرجوازية، في توجيه جزء من عجلة التاريخ، بحيث نصل إلى ديموقراطية هجينة، ديموقراطية تمنح الطبقة العاملة قدرة الفعل القادم، «المرحلة» سمّوها أخوتنا، مع تمتّع الطبقة العاملة بحريات فردية وجماعية مهمّة لتطوير التصور المقبل للمرحلة الاشتراكية ثم الشيوعية.
يقف اليساري العربي على الرصيف، على عكس عبد الخالق الفاعل في الأرض. وهنا، تأتي نظرية ترى فقط الحتمية (بدون فعل الحزب، لاحظ أنه ليس هناك فعل «فاعل» يساري على الأرض، هناك تحالفات واصطفاف خلف لاعبين آخرين، هذا هو وضع التفرج على الحتمية، وللأسف فكلّ الخيارات فيه لا أخلاقية لا عملية وإن كانت مفهومة). وبالتالي، ترى في نتائج الثورات برجوازية وطنية ضعيفة وهيمنة خارجية. على العموم ذلك لا يهم.
بالنسبة إلى النظام العسكري الأوليغارشي المصري، وبالنسبة إلى النظام السعودي، كانت الثورات العربية مهدّداً حقيقياً. هي أتت بكلمة (ديموقراطية ــ شرعية) لا يكاد يختلف على صحّتها الرمزية عربيان، ثم أتت بشكل ما من الخطة العملية للإطاحة بالأنظمة. هنا، تحوّلت استراتيجية الأقلّية الحاكمة من الاحتواء التخويفي غير العنيف إلى العنف المباشر (ينطبق الأمر ذاته على النظام السوري. إلّا أنه شرّ تم تحديد إطاره في سوريا، وكفى الله شرّه بقية الشعوب العربية، بينما أطلقت أيادي المملكة ومصر علينا). أتذكّر هنا كتابات وولتر بينجامين عن «العنف التأسيسي» و«العنف المؤسس للدولة». بينما يعمل العنف المؤسس للدولة بصورة يومية بريئة (اعتقال اللص، الحكم بالإعدام على قاتل معين أو خائن إلخ)، يعمل العنف التأسيسي بصورة متوحشة لفترة قصيرة. إن تم تخييري بين التعرّض للعنف التأسيسي أم المؤسّس، فإنني سأختار عنف الدولة اليومي: في العنف التأسيسي يكون البطش غير عقلانيّ، والدموية تصل إلى درجات غير معقولة في نطاقات ضيقة. تذكر كلّ قيادات الإخوان التي تمّ الزج بها في المحابس الانفرادية، مع منع العلاج، ثم الإذلال شبه اليومي في المحاكم، ومع موت الواحد منهم يمنع عنه إقامة مراسم موت عادية. المقصود هنا هو التعامل مع الرمز وليس الواقع. لذلك، يأتي التعامل مع الواقع مبالغاً فيه (كان سيكفي حبس القيادات لعامين أو ثلاثة، مع تعذيب معقول، ثم إطلاق سراحهم مع إقامة جبرية ومصادرة ممتلكات ومنع من السفر، لتتم عملياً مهمّة تدمير جماعة الإخوان المسلمين. لكن المقصود طبعاً كان الكلمة «ديمقراطية/شرعية»).
هنا نأتي إلى وقائع فض رابعة العدوية. كان من الممكن بالطبع، أن يتم الانقلاب بغير فض رابعة. وبعدها، تتم محاصرتها وتفكيكها تدريجياً، خصوصاً مع وجود حاضنة شعبية أكبر من حاضنة «الإخوان» مؤيدة للانقلاب. في النهاية، لا تُدار الدولة المصرية من ميدان رابعة. إلّا أنه كان من سوء حظ القتلى الأبرياء أنهم وجدوا في إطار عنف تأسيسي غير عقلاني بالتعريف. (ما لا يفهمه اليساري الشامت، هو أن ما حدث للإخوان المسلمين، وهم مجرّد جماعة يمينية ضعيفة نظرياً، سيحدث للأحزاب اليسارية بصورة مضاعفة، خصوصاً إن توجّهت نحو شبكات المصالح بمشروع عملي، وأنت وقتها بحاجة لأفكار مثل «العدالة» و«التضامن»، من الجميع. تجريف هذه المساحة التضامنية العابرة للأحزاب، هو في مصلحة العدو فقط).
ما ضيّعه اليسار العربي هو فرصة تحويل اسم المملكة العربية السعودية للاسم المناسب لها: المملكة الفاشية


الاستراتيجية الأخرى للفاشية، هي صنع «جمالية» معيّنة تتم رؤية السياسة من خلالها. هنا، تحوّل النظام السعودي من نظام فاسد هادئ (لا يتذكر الواحد منّا أن المملكة رسمت لنفسها ونظامها غير اللوحة السمجة التي يتوقّعها الجميع: خادم الحرمين، المدافعة عن قضايا العرب والمسلمين إلخ. ولم يكن القصد من هذه الدعاية يوماً خداع الناس فعلاً. العملية الداخلية كانت محكومة بمنطق توزيع فوائد النفط على الناس بشكل كافٍ، وإخافتهم بصورة مباشرة).
الآن، ترسم المملكة لنفسها صورة الدولة العظمى فجأة. مع قائد جديد وجيل شاب تتم تغذيته بفكرة أنّه مميز عن بقية البشر لأنه «سعودي»، وأن المشكلة في «العمالة الوافدة» و«إيران وأتباعها». ليتم إلغاء الصراع الطبقي، على «المشكلة» أن تتركّز في شيء خارج المجتمع. جسم دخيل، «آخر»، بحيث يكون بإمكان المجتمع أن يحفظ تراتبيته بين «طويل العمر»، و«التابع» في سلام. المشكلة أنه لا يمكن لهذا الآخر أن يكون في مستوى إنسانية أفراد المجتمع العاديين. تعتقد الشعوب الخليجية (جرّاء تدريب اجتماعي بدأ منذ فترة طويلة) بأن الوافدين هم أقل قيمة من الإنسان السعودي. ولذلك، فإنّ حملات تدمير حيوات المساكين من العمالة الوافدة في السعودية لا تواجه بأيّ نوع من التعاطف (يجب دراسة هذه الحالة غير الاعتيادية، حين يتحوّل مجتمع كامل لتصوّر غير إنساني لا معقول عن «الآخر»، بوصفها نموذجاً لإمكانية استعادة إطار مجتمع العبودية في الزمن الحاضر. نحن أحياناً نظنّ أن هذه الأمور اختفت إلى الأبد. بينما ربّما هي يمكن أن تعود في شكل أكثر صلابة وقدرة على التأقلم). ثم إن الآخر الذي يجب أن يُقتل لأنه «إخواني» أو «حوثي» أو «إيراني» إلخ، هو أيضاً مثار حرب بلا أيّ روادع إنسانية. فهو في النهاية ليس إنساناً. لا تستطيع المنظومة الفاشية إلغاء الصراع الطبقي، والحفاظ على إنسانية الجميع، في الوقت ذاته، إذ إن كانوا بشراً فذلك يجعلهم مؤهّلين لشغل موقع من الكلّ الاجتماعي. والمجتمع عموماً هو مساحة تشارك بين الكلّ. ثم إن كان الوافد أو الآخر المعادي للنظام بشراً، فذلك سيجعل المشكلة بلا سؤال: لماذا المملكة العربية السعودية دولة بلا عدالة / تنمية متوازنة / تأهيل ثقافي للناس / حرية؟
مرة أخرى: ليس الهدف من هذه المنظومة الفاشية هو أيّ مصلحة وطنية. مثلما كان الحال بالنسبة إلى النازي المستعدّ للدفاع عن مشروعه بدمه وماله وأبنائه. هذا مشروع فاشيّ بلا هدف. لذلك فحروبه تُخاض بجنود أجانب، مرتزقة، وقادته جبناء يختبئون خلف أطنان من الجثث في قصور بلا هوية.
ما ضيّعه اليسار العربي في إطار حربه على ثورات الربيع العربي من الاتّجاه الآخر، هو فرصة تحويل اسم المملكة العربية السعودية للاسم المناسب لها: المملكة الفاشية. نحن لا يمكن أن نحارب المملكة باعتبارها دولة لها مصالح عادية و«خلافات» مع جيرانها، مثلما نفكّر في إيران أو تركيا أو ماليزيا أو السنغال. هذا التساوي في التصوّر يجعل المملكة دولة عادية، وهي ليست كذلك.

(4)

بالنسبة لنا في السودان، للمملكة هدفان؛ الأول الاعتيادي: الهيمنة على الموارد، والآخر فاشي عبثي خطير وجودياً على بلدي: تدمير أيّ احتمالية لتحوّل ديموقراطي قد يؤثر على مصر، خصوصاً مع عبور النموذج التونسي إلى نوع من الحكم الديموقراطي المستقر. ونحن في السودان لسنا مثل مصر. نحن أولاً قطر واسع بخلافات داخلية متعدّدة وخطيرة، ثم نحن بلد لم يقم الغرب ببناء جيش قادر على الحكم غير الديموقراطي فيه. وموقعنا في هامش اهتمامات الغرب، ثم وجود حركات يسارية ويمينية حديثة مبكراً، فتحا المجال السياسي، بما جعل الحكم دائماً إما لديموقراطيات قصيرة أو لديكتاتوريات ضعيفة متحالفة مع أحزاب مدنية (لم يسبق في كل تاريخ السودان مثلاً أن تمكّن نظام ما من منع الطلاب من شتمه على الملأ). كلّ ذلك، ومع الأزمة الاقتصادية وضعف هيكلي كبير في الأقلية الحاكمة وحلفائها، يجعل فكرة منع الديموقراطية مساوياً لفكرة تحويل السودان إلى صومال جديد، وهذا الأمر ليس خافياً على أحد. لكن بالنسبة إلى المملكة، نحن الكادحون إما أن نقوم بأدوارنا في تسهيل بقاء الأسرة أو تنهار مجتمعاتنا بأكملها. وهذا ما تقوم به السعودية في اليمن وليبيا.
في مجزرة فضّ الاعتصام، فإنّ اللاعب الأساسي في الجريمة (قوات الدعم السريع) هو «صناعة سعودية». بعد تكوين البشير لهذه الميليشيا، التي كانت تقوم بأدوار مأساوية في إطار حروبنا الداخلية، وجدت السعودية في أمير الحرب وسيلة سهلة لدعم حربها في اليمن بجنود قليلي التكلفة نسبياً، والتضحية بهم غير مكلفة لها معنوياً. هذا التحالف حوّل حميدتي لقوة أكبر داخلياً. ومع بداية الثورة وجدت المملكة في أمير الحرب، قائد الجيش المرتزق على دماء أخوتنا اليمنيين، وسيلة لدخول المشهد السوداني فدعمته. الطريقة غير العقلانية التي قتل بها رفاقنا في فضّ الاعتصام ليست أكثر وحشية ممّا تقوم به السعودية في اليمن. وهو داخل إطار من انطلاق جديد للمملكة في ليبيا ومصر والسودان وسوريا، تعلن عبره أنها الجدار الصلب الذي تم بناؤه بنفط الكادحين في الخليج ليعيق أيّ تقدّم للمستقبل. سنواجَه جميعاً بهذه الترسانة من الإعلام وشبكات الصحافيين والسياسيين المُرتشين والاستثمارات الضرار والآليات العسكرية التي تنفق عليها السعودية أكثر ممّا تنفق إسرائيل. ولكن بينما تطفو جثث أخوة لي على النيل شاهدة على توحّش ما، فإننا لن نبكيهم اليوم، بل سنفكّر في كيفية مواجهة أعدائنا الحقيقيين وليس مجرّد الدمى. يوماً ما ستفهم الشعوب العربية، وفي الشمال الأفريقي، أن عليها في حال رغبتها في التحرّر، أن تتّحد ضدّ تحالف الأنظمة الفاشية الجديدة. وأنا أتكلّم هنا عن حروب ومقاومة يواجه فيها الدم بالدم.
كلّ من لا يحضّر نفسه لعنف الواقع سيكون ضحية للفاشية.
* كاتب سوداني