يتحمّل الاحتلال المسؤولية الأولى والمباشرة عن تراجع قدرة الفلسطينيين على توفير الرعاية الصحية، أو الحصول عليها، في حين يُساهم ضعف الحكم الفلسطيني بدوره، وتراجع التنمية المستمر في المؤسسات الفلسطينية، في قصورٍ مفتعل في نوعية الرعاية الصحية والتأمين الصحي، ومدى الاستفادة منهما. بالإضافة إلى ذلك، تعرقل القيود الإسرائيلية المفروضة على الحركة، وإمكانية الحصول على الخدمات، الوصول إلى الحق في الرعاية الصحية للفلسطينيين.حواجز صحية متعدّدة يفرضها الاحتلال، يدخل ضمنها الحصار المفروض على قطاع غزة منذ عقدٍ ونيّف، الذي يحول دون تمتّع الغزيين بظروف معيشية صحية، أو بحرية اتّخاذ القرارت الخاصة برعايتهم الصحية. بالتالي، فإنّ القطاع الصحي المشتّت، الذي يضمّ وزارة الصحة الفلسطينية، ومنظمات غير حكومية، ووكالة «الأونروا»، ومنشآت ومرافق خاصة، يمثّل النظام الصحي النافذ حالياً في الأرض الفلسطينية المحتلة. هذا فضلاً عن أن نوعية الخدمات الصحية المتوفرة في الأراضي الفلسطينية المحتلة والمحاصرة، تتباين بحسب قدرة المرفق الصحي على الحصول على الموارد واستدامة إمداداته من الماء والكهرباء.
انعدام المساواة في الحصول على الخدمات الصحية، هي السمة الغالبة على نظام الرعاية الصحية الفلسطيني منذ عقود، وهي مشكلة تُفاقمها معوّقات مالية، وأخرى تحُول دون حصول الفلسطينيين على الرعاية الصحية، ومنها التغطية التأمينية غير المتساوية، والفصل الجغرافي. وقد فاقم تراجع خدمات هذا المرفق، وقفُ الدعم الأميركي المقدَّم للمؤسسات والمنظمات التي توفر أو تدعم مرفق الرعاية الصحية للفلسطينيين، بما فيها مستشفيات في القدس الشرقية وخدمات الرعاية الصحية التي توفرها وكالة «الأونروا».
بدوره، يساهم الحصار المفروض على غزة في تدنّي الخدمات الصحية مقارنةً بالضفة الغربية. على سبيل المثال، لا تسمح إسرائيل للقطاع باستيراد سوى كميات محدودة من الغذاء والضروريات الإنسانية الأخرى. وتحظر، عموماً، استيراد مواد البناء أو غيرها من المواد المطلوبة في إعادة بناء البنية التحتية المدمّرة في المرافق والمنشآت الصحية، التي تضرّرت في الاعتداءات التي شنّتها إسرائيل على غزة، في العقدين الماضيين. كذلك، تفتقر المنشآت الصحية إلى المستلزمات والأدوية الأساسية المطلوب توفرها في أي مرفق صحي، ولا سيما مع تزايد أعداد المرضى المصابين أثناء مسيرة العودة الكبرى. وقد حذر الأطباء مراراً من وقوع آثار كارثية بسبب نقص الأدوية، مثل تفشّي «الميكروبات الفائقة» المقاوِمة للمضادات الحيوية. وحتى عندما يتوفّر التمويل لأحد المرافق الصحية المتطوّرة، فإن العراقيل السياسية تظلّ قائمة. فقد جمع المانحون، أخيراً، ملايين الدولارات لمستشفى جامعة النجاح الوطنية في نابلس، وهو المستشفى الجامعي الأول والوحيد في الأراضي الفلسطينية المحتلّة، والذي تتوفّر فيه بعض أكثر المعدات الطبية تقدماً. غير أنّ إسرائيل حظرت استيراد الماسح الضوئي المستخدم في تشخيص السرطان، متذرعةً بمخاوفها من أن يقوم الفلسطينيون بـ«إساءة استعماله».
بالرغم من قدرة بعض المرافق الخاصة، والمتخصصة في معظم الأحيان، على استيراد معدّات التشخيص المتطورة، إلّا أنّ العديد من الفلسطينيين لا يستطيعون تحمّل نفقات هذه الخدمات. وفي حين توفّر المستشفيات الحكومية الخدمات لعدد أكبر من المواطنين، إلّا أنها تفتقر هي الأخرى إلى الموارد الكافية لشراء المعدات الطبية أو تحديثها. وقد أورد تقرير لمنظمة «أطباء لحقوق الإنسان»، في عام 2018، أن الافتقار إلى الصيانة والتحديث يجعل من المستشفيات «محطات مرور تُحيل المرضى إلى مستشفيات أخرى». كذلك، حذّر الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، قبل عام، من أنه بحلول عام 2020، سيصبح قطاع غزة غير قابل للحياة.
انعدام المساواة في الحصول على الخدمات الصحية هي السمة الغالبة على نظام الرعاية الصحية الفلسطيني منذ عقود


تضع إسرائيل العراقيل أمام الفلسطينيين الذين يتقدّمون للحصول على تصريح طبي لتلقّي رعاية صحية متقدّمة في إسرائيل، أو في دولة مجاورة، حيت يُقابَل النظر في طلباتهم من قِبل الطرف الإسرائيلي، بالتعقيد والمماطلة والاعتباطية. ففي غزة، يحيل الطبيب المريض المحتاج لهذه الرعاية إلى وحدة شراء الخدمات، فتبدأ عملية التقدّم بطلب الحصول على تصريح دخول إسرائيلي. ويمكن رفض الطلب في أي مرحلة أثناء العملية من دون إبداء الأسباب. وحتى في حال الموافقة، قد لا يتلقّى أفراد أسرة المريض، كآباء الأطفال المرضى وأمهاتهم في بعض الحالات، تصريحاً بمرافقتهم. وفي أحيان كثيرة، يُضطر المرضى إلى تكرار العملية ذاتها لأجل مواعيد المراجعة. ففي عام 2017، توفّي 54 مريضاً، جُلُّهم من مرضى السرطان، وذلك أثناء انتظارهم الحصول على تصاريح أمنية. أمّا المرضى من الضفة الغربية، والذين يحتاجون لتلقّي العلاج في إسرائيل، فيتعيّن عليهم المرور بعملية مشابهة تتطلّب إحالةً من وزارة الصحة مشفوعة بتصريح سفر. وهناك منهم من يضطر إلى اجتياز نقاط تفتيش عديدة، وتبديل السيارات، حتى يُكمل رحلة العلاج. ورغم منح هذه التراخيص بوتيرة أكبر مقارنةً بقطاع غزة، إلا أنها تظلّ رهينة بيد الاحتلال.
يتحمّل الاحتلال الإسرائيلي النصيب الأكبر من المسؤولية عن تردّي وضع الرعاية الصحية للفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية المحتلّة، غير أنّ الوضع يزداد سوءاً مع تقليص التمويل الأميركي. وفي حين أنّ جهات معنية، مثل منظمة الصحة العالمية ومنظمة المعونة الطبية للفلسطينيين، أبدت استعدادها لسدّ تقليصات الدعم الأميركي، إلا أنّ السلطة الفلسطينية ما زالت لا ترى في القطاع الصحّي أولوية للدعم. فالقطاع الأمني استأثر بما نسبته 30 ــ 35% من موازنة السلطة الفلسطينية لعام 2018، والتي بلغت 5 مليارات دولار، بينما استأثر قطاع الصحة بنسبة 9% فقط. وحتى حين قلَّصت الولايات المتحدة مساعداتها بدرجة كبيرة، وحالت دون حصول ملايين الفلسطينيين على الرعاية الطبية والتعليم والغذاء، كان المسؤولون الإسرائيليون والأميركيون حريصين على المحافظة على بند الأمن في حزمة المعونة دون غيره. فما بدأ كترتيب «الأمن أولاً»، تحوّل إلى استراتيجية «الأمن فقط».
إضافة إلى ما تقدّم، تواجه السلطة الفلسطينية، من جملة أزماتها، أزمة شرعية متنامية، وفساداً يشوب الخدمات الاجتماعية، مثل الرعاية الصحية، عبر انتشار ضعف الرقابة والرشوة والاختلاس والمحسوبية، وأشكال أخرى من الفساد، الذي لا ينتهي عند المستوى الرسمي. وبينما تتّهم السلطة الفلسطينية إسرائيل، باستغلال الخدمات الاجتماعية الفلسطينية لإرغمها على الجلوس إلى طاولة المفاوضات، تمارس الأمر نفسه على حركة «حماس» في غزة.
من جانب آخر، ففي حين تسيطر إسرائيل على معبر إيرز على حدود غزة الشمالية، تسيطر مصر على معبر رفح في جنوب غزة. وقد قامت هذه الأخيرة، منذ بدء الحصار، بتقليص لائحة عبور الأشخاص والبضائع إلى أراضيها. وبالرغم من أنّ بعض الحالات الإنسانية استطاعت الحصول على تراخيص العبور، إلّا أنّ المعبر على أرض الواقع ظلَّ مغلقاً كل يوم تقريباً، لسنوات عديدة، حتى في وجه الحالات الطبية. كذلك، رغم استئناف فتح الحدود بوتيرة أكبر، منذ عام 2018، إلا أنّ هناك دائماً قائمة انتظار من الآلاف الذين يأملون بالعبور.
مع استمرار تضاؤل الفرص أمام إحلال عملية سلام حقيقية وعادلة، لا يستطيع الفلسطينيون الانتظار لحين التوصل إلى اتفاق سياسي، حتى تُتاح لهم إمكانية الحصول على رعاية صحية آمنة وعالية الجودة وموثوقة. وبالتالي، ينبغي على السلطة الفلسطينية تحويل تركيزها من تمويل الأمن إلى تمويل الصحة، عبر تخصيص موارد أكثر للرعاية الصحية، والعمل على إعفاء السلع الطبية من بروتوكول باريس، الذي يعطّل استيراد الإمدادات الطبية الضرورية لأشهر، نظراً إلى اعتماد الاستيراد على استصدار التصاريح. كذلك، يجب على الوكالات الإنسانية التابعة للأمم المتحدة وغيرها، أن تطالبَ بوصول جميع السلع الإنسانية إلى الفلسطينيين، وصولاً كاملاً وغيرَ منقوص. ويجب على السلطة الفلسطينية، أيضاً، أن تربأ بحياة الفلسطينيين عن المناورات السياسية، وأن تضمن حصول المواطنين، ولا سيما في غزة، على ما يحتاجونه من أدوية وسلع أخرى.
لا ينبغي أن يكون نظام الرعاية الصحية تحت رحمة محتلٍّ عسكريٍّ، أو أن يكون مرتهناً للمعونة الخارجية ودوافع المانحين وأولوياتهم المتغيّرة. وطالما أنّ القائم على الأرض، هو نموذج «شبه الدولة» الفلسطينية، يبقى الارتهان للمعونة من أجل تقديم الخدمات الاجتماعية، مرجّحاً، وهو ما يمثل نموذجاً لنظام صحي غير مستدام وغير عادل. إن الارتقاء بالصحة الفلسطينية، وإمكانية الحصول على الرعاية الصحية العادلة، لن تُكتب له الاستدامة إلا من خلال معالجة أولوية قطاع الصحة في موازنة السلطة والأوجه الأساسية لعدم المساواة في التقديمات، والتخلّص من الاحتلال الإسرائيلي.

* محللة سياساتية في «شبكة السياسات الفلسطينية ــ الشبكة»، وأستاذة في إدارة الرعاية الصحية والمعلوماتية في جامعة سنترال فلوريدا/ الولايات المتحدة