إن محاولات تجزئة الوطن العربي لم تهدأ منذ قرون، بعضها نجح وبعضها الآخر فشل مؤقتاً. ولكن الجهود الحثيثة ما زالت مستمرّة حتى اليوم وربما لمئة عام مقبلة. هذه المحاولات قابلها العرب بشيء من اللامبالاة، بكثير من التردّد، وبقليل من النضال المستمر لوقفها وإزالتها.الخطأ التاريخي المستمر حتى يومنا هذا هو اعتبار «سايكس ــــــ بيكو» بداية ونهاية لهذه التجزئة، وليست تكملة لها. لقد قام العثمانيون قبل ذلك بتقسيم بلاد الشام إلى أجزاء متعدّدة، ولعلّ آخر تقسيم لها بقي ساري المفعول حتى زوال الإمبراطورية، وهو كالتالي:
أ ـــــ ولاية الشام التي كانت تشمل جنوب معرّة النعمان إلى البحر الأحمر بحدود سيناء ومنطقة تبوك وسهل البقاع.
ب ـــــ ولاية حلب وتشمل معرّة النعمان، البستان، مرعش، لواء الإسكندرون، عينتاب والبيرة.
ج ـــــ ولاية بيروت وتشمل بيروت ومحيطها، البلقاء، عكا، طرابلس الشام واللاذقية، كما كانت هناك عدّة سناجق ومنها مثلاً سنجق متصرفية لبنان وسنجق القدس.
الفرق بين هذا التقسيم وما تلاه، هو أنّ الاستعمار التركي أبقى العملة واحدة، وكذلك السياسة الخارجية بيده وتعيين الولاة الأتراك.
حلّ الاستعمار الفرنسي مكان الاستعمار التركي في سوريا، وإن كان اسمه انتداباً تخفيفاً له. وكان قد سبق له أن احتلّ دول المغرب العربي، وحلّ الاستعمار الإنكليزي على فلسطين، وكان سبق له أن احتلّ العراق وقبل ذلك مصر والسودان. ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ عينتاب ومرعش اعتُبرتا جزءاً من سوريا عبر «معاهدة سيفر» Sevre، عام 1920، ثمّ أُلحقتا بتركيا بناءً على طلب من أتاتورك في «معاهدة لوزان» Lausanne، عام 1923. أمّا لواء الإسكندرون، فقد أُلحق بتركيا عام 1939، نتيجة مؤامرة مفضوحة بين تركيا وفرنسا المستعمرة.
أعتقد العرب أنّ «سايكس ـــــ بيكو» هي نهاية المطاف، إلا أنّهم كانوا على خطأ كالعادة. وما إن فرض الانتداب الفرنسي وجوده، بعد انتصار الفرنسيين في معركة ميسلون الشهيرة، حتى سارع إلى تقسيم سوريا على أساس طائفي إلى دول هي التالية: دولة دمشق 1920 ــــــ 1925، دولة حلب 1920 ـــــــ 1925، دولة جبل العلويين 1920 ـــــــ 1936، دولة جبل العرب 1920 ـــــــ 1936، مقاطعة الجزيرة ودولة لبنان الكبير 1920 ـــــــ 1936، والتي ضمت بالإضافة إلى جبل لبنان بيروت العاصمة مع أقضيتها صيدا، صور، مرجعيون، طرابلس، عكار والبقاع مع أقضيته الأربعة بعلبك، البقاع، راشيا وحاصبيا، وتحوّلت بعد ذلك إلى الجمهورية اللبنانية التي لم يكن لها من الاستقلال إلا الاسم. ولقد كان لكلٍّ من هذه الدول علم وعاصمة وحكومة وبرلمان وعيد وطني. ولقد فشل هذا التقسيم نتيجة المقاومة الشرسة التي واجهها، وأُعيد ضم هذه الدول باسم الجمهورية السورية، باستثناء لبنان الكبير الذي أصبح الجمهورية اللبنانية بالرغم من معارضة المسلمين ومطالبتهم في مؤتمر الساحل الشهير، الذي عُقد في 10/3/1936، بالوحدة مع سوريا، والذي حضره ممثلون عن بيروت، طرابلس، عكار، صيدا، صور، جبل عامل والأقضية الأربعة. إلا أنّ الحرب العالمية الثانية وحّدت بين اللبنانيين الذين نالوا استقلالهم في 22/11/1942.
أمّا فلسطين، فقضيّتها تُعتبر قضية العرب الأولى، وتاريخها معروف ولا داعي لإعادته بالتفصيل، وهو الدليل الأوضح على تآمر الحكام العرب مع بريطانيا أولاً، ثم أميركا، وبعد ذلك دول الغرب كاملة لتقسيمها. هذا التقسيم الذي لم ينتهِ بعد، ومحاولة ضم المستعمرات الصهيونية إلى كيان العدو لا تزال قائمة على قدم وساق. ولا حلّ إلا بالمقاومة المسلّحة لهذا العدوان الصارخ.
أما شرق الأردن، فلقد اخترع له الإنكليز إمارة لإرضاء ابن الشريف حسين عبد الله، بعد إرضاء أخيه فيصل بتعيينه ملكاً على العراق. ولم يرضَ الأمير عبد الله بالإمارة، فكيف أصبح أخوه ملكاً وبقي هو أميراً؟ ونال مطلبه بركة الاستعمار الإنكليزي، فأصبحت إمارة الأردن المملكة الأردنية الهاشمية، وأصبح لها جيش قاده الإنكليزي كلوب باشا! والجدير بالذكر أنّ القيادة العامة في حرب 1948، أنيطت بالملك عبد الله وخلفه طبعاً كلوب باشا الإنكليزي! ونتج عن ذلك إقامة الكيان الصهيوني الذي سارع الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة وكثير من الدول، للاعتراف به، ولكل دولة من هذه الدول أهداف وأطماع في الوطن العربي.
المرحلة المقبلة: لا بدّ، في البداية، من أن أذكر بأنّ كل دولة في العالم قابلة للتقسيم أو خسارة جزء من أراضيها، ولعلّ أبلغ مثالَين على ذلك هما يوغوسلافيا التي قُسمت إلى سبع دول وتشيكوسلوفاكيا التي قُسمت إلى دولتين، وهنالك دول أخرى مُقدِمة على تقسيم مماثل، مثل المملكة المتحدة وإسبانيا وغيرهما. كذلك، فقد فقدت كثير من الدول أجزاءً من أراضيها، كما حصل بعد الحرب العالمية الثانية.
أما بالنسبة إلى الوطن العربي، فكلّ دولة من الدول العربية معرّضة للتقسيم، وإليكم التفاصيل:
ــــ فلسطين: إنشاء الكيان الصهيوني، الذي أدى إلى فصل عرب آسيا عن عرب أفريقيا. وتلك كانت ضربة كبرى لا نزال نعاني من آثارها حتى اليوم. بالإضافة إلى ذلك، ضمّ الكيان الصهيوني الضفة الغربية وقطاع غزة بعد خسارة العرب في حرب 1967، كما ضمّ الكيان القدس الشرقية، ثمّ اعترفت الولايات المتحدة بالقدس كاملة عاصمة لإسرائيل، في 6/12/2017. والجدير بالذكر أنّ الموقف العربي تجاه هذا الاعتراف، كان متخاذلاً إلى أقصى درجة على الصعيد الرسمي، أما على الصعيد الشعبي فقد كان ضعيفاً، إلا داخل فلسطين ومن قبل بعض الأحزاب والهيئات في الوطن العربي. ويسعى العدو، الآن، إلى ضمّ المستعمرات الصهيونية التي أقيمت في الضفة الغربية والتي تشكّل حوالى ثلثها.
ــــ سوريا: ضمّ الكيان الصهيوني هضبة الجولان، في 14/12/1981، ووافقت عليه الولايات المتحدة في 25/3/2019. وكنّا قد ذكرنا سابقاً، أنّ هناك أراضيَ اقتُطعت من سوريا وضمّتها تركيا، وهي عينتاب وبرعش عام 1923، ولواء الإسكندرون عام 1939. أما بالنسبة إلى الوضع الحالي، فمن الصعوبة بمكان التوصل إلى ما سينتج عنه من تجزئة، إذ إنّ الصراع والتناتش لا يزالان قائمَين بين دول كبرى وإقليمية عدّة على تأمين حصّة لها، سواء أكانت نفوذاً أو أرضاً من أراضٍ سورية. بيد أنّه أصبح واضحاً أنّ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يريد السيطرة على حصّة مهمة من سوريا، وتحديداً في إدلب، كما أنّ الأكراد السوريين لهم مطامع تتجلّى بمطالبتهم باستقلال ذاتي. أمّا الولايات المتحدة وروسيا وإيران، فهي بصدد نشر نفوذها في شتى أجزاء قلب العروبة النابض.
ــــ العراق: بعد اللعب على الوترين المذهبي والإثني، يمكن لنا أن نقول بأنّ هناك خطراً حقيقياً لتقسيم العراق إلى ثلاثة أجزاء بين الشيعة والسنة والأكراد. وهذا ما سعت إليه الولايات المتحدة، ولم تستطع تحقيقه حتى الآن، من دون أن ننسى المطامع التركية في بعض الأراضي العراقية.
لا يمكن في هذا المقال أن نحيط بكلّ الدول العربية، سوى أن نشير إلى النقاط التالية:
ــــ يبقى الأردن من سوريا الكبرى، وهو دولة ضعيفة تحتاج دائماً إلى مساعداتٍ، علماً بأنّ الكيان الصهيوني يسعى إلى تحويله إلى كيان يضمّ بعض الأجزاء المتبقية من الضفة الغربية، كحلّ لشعار الدولتين.
ــــ بالنسبة إلى دول الخليج والسعودية، ستبقى هدفاً للتجزئة بالرغم من ولائها المطلق للغرب. أمّا الأجزاء، فيمكن أن تكون نجد والحجاز وربما عسير. واليمن الذي كان مجزّأً أصلاً إلى شمالي وجنوبي، فيمكن العودة إلى هذه التجزئة مع إضافات تشمل بعض دول المناطق الثائرة حالياً.
بالانتقال إلى دول عرب أفريقيا يمكن ملاحظة ما يلي:
ــــ بالنسبة إلى مصر، هنالك تيار مهما كان ضعيفاً، يدعو إلى فصل الأقباط عن الدولة المصرية، عدا أنّ هنالك نزاعاً يبقى هادئاً حول منطقة حلايب بين مصر والسودان، وهنالك مساعٍ جادّة لإضعاف مصر سواء أكان ذلك عبر عزم أثيوبيا، المخترقة إسرائيلياً، على إقامة سدّ النهضة أو عبر ليبيا بتحريض تركي واضح.    
ــــ السودان، جرى تقسيمه بين شمالٍ وجنوبٍ، وشماله لا يزال معرّضاً لأخطار قبلية عديدة.
ــــ ليبيا: احتمال تصدّعها إلى أكثر من دولة واردٌ بشكل جاد. الحرب الدائرة الآن ظاهرياً بين «الوفاق» وخليفة حفتر، هي انعكاس للصراع القائم بين دول عدّة، أبرزها فرنسا وإيطاليا، وتركيا مدعومة من قطر، ومصر مدعومة من السعودية والإمارات.
ــــ دول المغرب العربي: المشكلة الرئيسَة هنا تتلخّص بكلمة واحدة هي الأمازيغ الذين كانوا يُعرفون سابقاً بالبربر. فرنسا ـــــ المستعمر السابق التي طُردت من المغرب، بعد ثورات عديدة من شعوب هذه المنطقة، والتي لم تكن تُفرّق بين عربي وبربري ـــــ عادت من النافذة، عبر محاولة تفريق بين العرب والأمازيغ، ويبدو أنّها تلقى تجاوباً من بعض القيادات.
في الخلاصة، أود أن أختم بمقولتين: إنّ محاولات تجزئة الوطن العربي ستستمر. وقد تتوقف فترة ولكنّها هدف استراتيجي للدول الكبرى والإقليمية، وذلك لأنّ هذا الوطن يتمتّع بميّزتين قلّما تتمتّع بهما أية دولة أخرى في العالم. وهما الثروات الهائلة من بترول وغاز ومعادن، التي تحتويها أرض هذا الوطن، وكذلك الممرّات الاستراتيجية للتجارة العالمية التي يسيطر على معظمها. أما الميزة الثانية، فهي حماية الكيان الصهيوني، ودعمه من قبل الدول الاستعمارية، بحيث يصبح هو مركز المنطقة صناعياً وتكنولوجياً، تحيط به دول عربية صغيرة متنازعة، ما يمنع حتماً تشكيل دولة عربية واحدة.
ما يُحزنني كعربي، أن أشاهد النزاعات العربية ــــــ العربية تتفاقم، بينما يهرول بعضنا في طريق التطبيع مع الكيان الصهيوني، ما يسهّل له تحقيق شعاره «من الفرات إلى النيل حدودك يا إسرائيل». والعرب، جميع العرب غافلون عمّا يُخطّط لهم.

*كاتب وسياسي لبناني