كانت تلك لحظة الذروة. استعرض الإمبراطور حرس الشرف المكوّن من ألف وسبعمئة جندي على الخيول والجمال، وهم يرتدون لباس الجيش الفارسي القديم، ثم ألقى خطبته تلك. أراد الشاه حفلاً لا نظير له من قبل ولا من بعد. كيف لا، وهي الذكرى الأعز على قلبه. وهل هناك ما يفوق ذكرى 2500 سنة على تأسيس الإمبراطورية الفارسية التي هو وريثها وسليلها ويحكم باسمها بلداً كبيراً هائلاً؟ أعطى شاه إيران أولوية قصوى لهذه الذكرى التي ستكون فرصة لإبراز عظمته ومجده ومكانته، ليس على مستوى المنطقة فقط، بل في العالم كلّه. استدعى الإمبراطور رئيس ديوانه، أسد الله عَلَم، وكلّفه بمسؤولية الإعداد لحفلٍ سيُبهر العالم من حيث ضخامته وفخامته وتميّزه.
بدأ العملُ مبكراً استعداداً للحدث المقبل المرتقَب في 12 تشرين الأول/ أكتوبر 1971، وبميزانيّةٍ مفتوحة لا تحسب حساباً لحجم الإنفاق. سنوات عدّة من العمل والترتيبات استمرّت لكي يكون حفلاً يُرضي الشاه، والشاهبانو أيضاً (كان الشاه قد توّج زوجته الثالثة، فرح ديبا، وأعلنها رسمياً إمبراطورة لإيران في حفلٍ ألبسها فيه تاجاً من الذهب المرصّع بالمجوهرات وصل وزنه إلى حوالى 5 كيلوغرامات). وبلغ اهتمام أسد الله علم بالترتيبات والتفاصيل إلى حدّ أنه مرةً جمَع المورّدين والمتعهّدين الذين تعاقد معهم، وقال: «إذا لم تنجزوا العمل في الموعد المحدّد وبأعلى مستوى من الالتزام، بأدقّ التفاصيل، فسوف أطلق عليكم الرصاص من مسدسي، ثم أطلق النار على رأسي!».
المشكلة الأولى التي واجهت عَلَم كانت المكان. فلا بدّ أن يكون الاحتفال في المكان ذاته الذي بنى فيه كوروش الكبير مجده. كانت بارسه (باليونانية برسيبولیس أو Persipolis) هي العاصمة القديمة للإمبراطورية الأخمينية (الفارسية)، وقد صارت مكاناً غير مأهول في صحراء فارس، وأصبح اسمها تخت جمشيد، وتبعد عن شيراز حوالى 70 كم شرقاً. وقد وجد علم حلّاً خلّاقاً لهذه المشكلة: سيعيد إحياء المدينة، ولكن هذه المرة ستكون مصنوعة من عدد كبيرٍ من الخيام ذات المواصفات الخاصة التي تناسب مقام الإمبراطور وضيوفه (الفكرة كانت مستوحاة من الخيام التي أقام فيها الملك هنري الثامن وحشمه، حينما دخل فرنسا ضيفاً على الملك فرانسوا الأول عام 1520). وبالفعل، تمّ تصميم مجمّع كامل من الخيام المكيّفة والمجهّزة بأحدث وسائل الراحة والاتّصالات الحديثة، والمزيّنة بالسجاد الفارسي المصنوع باليد، لكي يقيم فيه الضيوف خلال مدّة الاحتفال (ثلاثة أيام)، وأقيمت نافورة مركزية ومسطحات خضراء، وملعب للغولف أيضاً، في وسط الصحراء اللاهبة. وقبل ذلك كلّه، قامت طائرات محمّلة بمواد كيميائية برش نطاقٍ قطره 30 كم للقضاء على الأفاعي وعقارب الصحراء. وتمّ استيراد 15 ألف شجرة خضراء من فرنسا، وزرعت لكي تحوِّل المكان القديم إلى حدائق غنّاء. وكان لا بدّ للحدائق الغنّاء من طيور تشقشق وتضفي رونقاً على المكان، فتمّ استيراد 50 ألف عصفور مغرّد لتطير بين أغصان الأشجار المزروعة قسراً في الصحراء (لم تصمد العصافير كثيراً في ذلك الجو وماتت بعد أيام قليلة). وتمّ شقّ طريق أوتوستراد حديث ليربط المدينة القديمة بمطار شيراز، بعد توسعته وتطويره، مباشرة لضمان سرعة وصول الضيوف الكبار، كما تمّ تجهيز 250 سيارة ليموزين لتكون بخدمة الضيوف ونقلهم.
كان عامّة الناس يتابعون ما يجري عن طريق الإذاعة وقليل منهم عبر التلفزيون ويسمعون الكثير عن إنفاق شاهِهم وبذخه وإسرافه
كانت قائمة الضيوف تشمل ملوكاً وأمراء، وسلاطين وأباطرة، ورؤساء دول وحكومات من 69 بلداً حول العالم. الرئيس الأميركي، المشغول بحرب فيتنام، لم يتمكّن من الحضور، فأرسل نائبه سبيرو أغنيو (رغم أهمية الشاه وإيران في الاستراتيجية الأميركية، إلّا أنّ الحدث بنظر ريتشارد نيكسون هو في النهاية مجرّد استعراض ولا يملك الوقت اللازم له). ولكنّ التركيز الشاهنشاهي كان على العائلات الملكية في أوروبا وغيرها، وخصوصاً القديمة منها. جاء ملوك وملكات السويد والدنمرك والنرويج وهولندا وبلجيكا وإسبانيا، وحتى قسطنطين ملك اليونان السابق، وأمير وأميرة موناكو ودوقة لوكسمبرغ. ولكنّ الأبرز من ملوك أوروبا، الملكة إليزابيث، قررت عدم الحضور (ربما لأنّ الحكومة البريطانية لم تشعر بالراحة لعبارة «ملك الملوك» التي يستخدمها الشاه في الإشارة إلى نفسه وإلى جدّه المفترض كوروش)، ممّا كاد يتسبّب بأزمة بين إيران وبريطانيا تم حلّها أخيراً عن طريق الاتفاق على حضور زوج الملكة، الأمير فيليب، للحفل ومعه الأميرة آن. وأوفد بابا الفاتيكان مندوباً خاصّاً ليمثّله. ومن خارج أوروبا، حضر إمبراطور الحبشة هيلا سيلاسي، وملك النيبال، والملك حسين من الأردن، والسلطان قابوس من عُمان، وملك ماليزيا، والرئيس اللبناني، وماركوس ديكتاتور الفيليبين (وزوجته الاستعراضية المشهورة إيميلدا)، وغيرهم الكثيرون (وصل عددهم إلى 600 مدعو).
بعد الانتهاء من ترتيبات المكان والاتفاق على قائمة الضيوف المدعوين، انتقل أسد الله عَلَم إلى أمرٍ لا يقلّ أهمية: الطعام. وهنا أيضاً تفتّقت عبقرية عَلَم عن حلّ خلّاقٍ آخر لمعضلة تعدّد الأذواق وحساسية الضيوف الكبار: سيتّفق مع أشهر مطعم في العالم لتولّي مسؤولية الطعام في الحفل الإمبراطوري. وبالفعل، سرعان ما وقّع عقداً مع مطعم ماكسيم في باريس الذي قبِل التحدّي وقرّر أن يكون في مستوى الحدث. أول ما فعلته إدارة ماكيسم، كانت استدعاء الشيف ذي السمعة العالمية، ماكس بلو، من تقاعده للإشراف على 159 طبّاخاً وخبّازاً ونادلاً، سيذهبون إلى إيران لتولّي مسؤولية الحدث الجلل، وإخراجه على أتمّ صورة. وبالفعل، ذهبوا جميعاً عشرة أيام قبل موعد افتتاح الحفل، وبقوا لأربعة أيام بعده. كان ذلك طاقم مطعم ماكسيم كاملاً، لم يبقَ منهم أحد في باريس، فأغلق المطعم الشهير أبوابه لأسبوعين! وأبدع الشيف ماكس بلو وتألّق، فأخرج خبرة السنين الطويلة لتجهيز قائمة طعامٍ لم يشهد العالم نظيراً لها من قبل، ضمّت لحم الضأن الفرنسي بالكمأة، لحم الطاووس المحمّر المتبّل بأعشاب خاصة، أنواعاً خاصة من جراد البحر، وبيض طائر السمّان المحشي بالكافيار الإيراني الفاخر. وبعد هذه الوليمة، استمتع الحضور باختيار الشيف بلو من الحلويات التي كانت أنواعاً نادرة من التين المزجّج والعلّيق البرّي. كانت خيمة الطعام فسيحة واسعة، تمتدّ على مساحة 68 متراً بالطول و24 عرضاً. وطبعاً، لا يمكن أن يكتمل هكذا حفل بدون النبيذ المعتّق، فتمّ استيراد خمسة آلاف عبوة من أفخر أصناف النبيذ الفرنسي، معظمها «شاتو لافيتيه» من إنتاج عام 1945، وبعضها من نوع موي شاندو ويعود إلى عام 1911 (ما زالت شركات إنتاج وتسويق النبيذ الفاخر تتباهى إلى يومنا هذا بالأنواع التي قدّمتها في حفل الشاه ذاك، وتخصّص لها صفحات إنترنت للدلالة على مدى جودتها وتميّزها عن منافسيها).
ولم يكن ليغيب عن ذهن عَلَم موضوع البروباغندا والإعلام، فلا بدّ لحفلٍ كهذا أن يوثّق ويسوّق ليرى العالم كلّه عظمة الإمبراطور وسؤدده. فتمّ التعاقد مع طاقم خاص من هوليوود للعناية بالتصوير والإخراج الفنّي، وأوكلت مهمّة الرواية في الفيلم الذي أنتج إلى المخرج والممثل المشهور أورسون ويلز، الذي اختتم تقريره الطويل بالقول: هذا ليس احتفال السنة، بل احتفال 25 قرناً!
وخلال كل تلك الأحداث، كان الإيرانيون غائبين، غائبين تماماً. كان عامّة الناس في أزقّة طهران وأريافها يتابعون ما يجري عن طريق الإذاعة، وقليل منهم عبر التلفزيون، ويسمعون الكثير عن إنفاق شاهِهم وبذخه وإسرافه، وعن ضيوفه المرفّهين، وعن أموالهم التي تُهدر لإرضاء غروره وعنجهيته... «إنه احتفالُ الشيطان»، قال إمامهم.
وبالعودة إلى الشاه، فقد سار كلّ شيء على ما يرام بالنسبة إليه. لقد حقّق هدفه وبرز كملكٍ للملوك، وريثٍ لكوروش الكبير ولكلّ أمجاد إيران. ولكن فجأة، وفي اللحظة التي أنهى فيها الشاه خطابه، ووقف ينظر مزهوّاً إلى وقع كلماته على ملوك العالم المجتمعين تحت لوائه، حصل ما لم يكن في الحسبان! موجة عاتية مفاجئة من الرياح المحمّلة بالأتربة هبّت على المكان واجتاحته. فبدأ الضيوف ينفضون الغبار والرمال عن ملابسهم الفاخرة، وهم يحاولون بأيديهم تلافي الريح الصحراوية القاسية. لم يكن الشاه قادراً على ردّ العاصفة، ولم يكن أمامه إلا الانتظار حتى تمرّ وتهدأ.
ولكن لن تمرّ سنوات طويلة حتى يجد الشاه نفسه عاجزاً عن ردّ عاصفةٍ أشدّ وأعتى، عاصفة لن تهدأ حتى تقتلعه وتهدم أركانَ حكمه وبنيانَ نظامه... عاصفة آية الله.
* كاتب أردني
هوامش :
- لم يعلم أحد حقيقة المبالغ التي أُنفقت على الحفل. وكان كلّ ما جرى مثيراً للخيال لأقصى حد. شيء يشبه قصص ألف ليلة وليلة. الصحافة الفرنسية تضاربت في تقديراتها لتكلفة الحفل الإجمالية، ما بين 100 إلى 200 مليون دولار، بينما ذهبت بعض الصحف البريطانية في مبالغاتها إلى رقم 500 مليون! وبكل الأحوال، كان رقماً مهولاً ويتجاوز المليار دولار في أيامنا هذه.
- المصادر حول هذا الحدث كثيرة ومتوفّرة. ويمكن الرجوع إلى أرشيف جريدة «ذا نيويورك تايمز» على الإنترنت، وقراءة مقال عنوانه First Party of Iran's 2,500‐Year Celebration، وكذلك مقال بعنوان Decadence and Downfall: The Shah of Iran’s Ultimate Party في جريدة «ذا فايننشل تايمز»، وهو ملخّص عن وثائقي عُرض على «بي بي سي 4». كما يمكن مراجعة مدوّنة إيرانية اسمها Aryanmehr، وفيها مقال مفصّل عن الاحتفال تحت عنوان 2500 Years : The Persipolis Celebrations of 1971. ويمكن الاستماع إلى خطبة شاه إيران التي ألقاها بالفارسية أمام قبر كوروش على موقع «يوتيوب». كذلك، يمكن مشاهدة الفيلم الوثائقي الطويل (مدته ساعة وربع) الذي أنتجته شبكة «بي بي سي» البريطانية، حول سقوط الشاه واحتفال برسيبولیس على «يوتيوب».
اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا