طوت الانتفاضة الشعبية أكثر من سنة كاملة على اندلاعها؛ أما الأزمة الشاملة التي حفَّزتها فتواصل تدحرجاً متسارعاً يجعل البلاد متجهة، ما لم تحدث معجزة، نحو هوة سحيقة. ذلك يعني، في ما يعنيه، أنّ الانتفاضة التي تراجعت إلى حدّ كبير، قد عجزت عن أن تؤثّر في مساري وقف التدهور، من جهة، ومحاسبة وإزاحة (ولو جزئياً) المسؤولين عن حصول الأزمة الشاملة، من جهة ثانية. ثمّة إنجازات حصلت: في شمولية الانتفاضة، في تحرّرها من قيود معيقة، تقليدياً، من نوع الولاءات العمياء، والعصبيات الطائفية والمذهبية، وعدم المشاركة الواسعة في نشاط أو تحرّك ذي طابع مطلبي واقتصادي واجتماعي، كذلك في ما ولّدته من ضغط شعبي غير مسبوق على أطراف السلطة ورموزها... لكنّ الانتفاضة ظلّت أقرب إلى الفورة العفوية. تأكّد ذلك من خلال عدم قدرة المبادرين والمشاركين على بلورة موقف موحّد بشأن الأزمة وأسبابها، وبشأن الحلول والمعالجات والأولويات، وبشأن توحيد التحرّك من خلال خطة تعبئة مركزية مشتركة، ومن خلال قيادة تُدير وتنسق وتستمر وتستثمر وتتحمّل مسؤولية القرار والنتائج.
قوى التغيير التقليدية التي شاركت في الانتفاضة، لم تكن هي صاحبة المبادرة في الدعوة إلى التحرّكات والاحتجاجات. استجابت للمشاركة، لكن بشكل مرتبك ومتنافر في ما بينها (أحياناً ضمن التنظيم الواحد). بذلك، لم تستطع هذه القوى، كما هو الأمر بالنسبة إلى قوى الانتفاضة الأخرى، أن تتشكّل في صيغة موحّدة، أي في نطاق مركز وطني معارض موحَّد، فاعل ومؤثِّر في المشهد الصاخب والمأساوي الذي ما زالت تعاني منه البلاد منذ أواخر العام الماضي.
أمور عديدة في السياسة والتحالفات والأسباب والمسؤوليات والأولويات والتنظيم، دار ويدور نقاش وتباين بشأنها، وبشأن ارتباط مجمل الأزمة بالنظام السياسي القائم. كذلك بشأن ما برز، بشكل مبكِّر، من تدخّل خارجي كبير في محاولة لتوجيه الاحتجاجات واستغلالها. في هذا السياق، كان الدور الأميركي هو الأهم والأوقح والأكثر مثابرة. شجَّع ذلك، كما أسلفنا، غياب البرنامج والأولويات الموحّدين، والإطار التنظيمي المشترك، والأولويات المطلبية الواضحة. ومع تمادي الأزمة وتحوّلها إلى أزمة نظام (وحتى أزمة كيان )، برزت بشكل خطير أزمة البديل، ما مكّن قوى السلطة من استعادة زمام المبادرة، من جهة، والإفلات من المحاسبة من جهة ثانية!
نكتفي، هنا، بتكثيف مكمِّل لما كنّا عرضناه في مقالين سابقين في «الأخبار» في 22 شباط / فبراير و3 آذار / مارس الماضيين، تحت عنوان «الأزمة مستمرّة، ماذا عن المشروع الوطني». الواقع أنّه في سياق تجاذب متواصل بشأن الموقف من «المطالب» و»الحقوق» التي تردّدت من قبل أكثر المحتجّين، غاب إلى حدّ مقلق، الموقف الشامل من الأزمة وأسبابها ومسبّبيها وصولاً إلى مستغلّيها الداخليين والخارجيين. ما هي المسائل الرئيسة في هذا الصدد؟
المسألة الأولى الجوهرية هي الآتية: نظام البورجوازية الكبرى التابعة، الاقتصادي السياسي التحاصصي الطائفي المذهبي الراهن، هو المانع لقيام دولة موحّدة، دولة قانون ومؤسّسات ومواطنة متساوية. هو المانع أيضاً لبناء وحدة وطنية صلبة تحمي الاستقرار والسيادة والاستقلال، وتحول دون التدخّلات الخارجية الفظّة في الشؤون الداخلية اللبنانية. بذلك، يكون مدخل كلّ إصلاح إزاحة منظومة المحاصصة لا محاولة التعايش معها، لأنها قد أثبتت أنها المولِّدة الأساسية للأزمة الشاملة الراهنة، عبر الفئوية والنهب والفساد، والتي تهدّد اللبنانيين بالجوع والفقر، ولبنان بالضياع على مذبح المصالح والمخطّطات الخارجية الموجّهة بالدرجة الأولى، لخدمة المشروع الصهيوني والهيمنة الغربية عموماً والأميركية خصوصاً. مدخل ذلك مسار إصلاحي يبدأ بإقرار قانون انتخابات، وفق نص الدستور المجمَّدة بنوده الإصلاحية منذ عام 1992، قانون متحرّر من القيد الطائفي كما تنصّ المواد 22 و24 و95 من الدستور. يقترن ذلك باستحداث مجلس شيوخ يتولى التعاطي مع الشأن الطائفي بهواجسه المختلفة، فيما تكون الإدارة السياسية والعامة للبلاد ولمؤسّساتها قد تحررت كلياً من هذا القيد المدمِّر الذي في ظله تعزّزت الانقسامات والتبعية، ومعهما النهب والفساد والهدر وعدم المحاسبة وانعدام الرقابة... على النحو المأساوي الذي تعيش نتائجه البلاد منذ أكثر من سنة.
المسألة الثانية، هي في التوجّه لبناء اقتصاد منتج متحرٍر يشكل ركناً أساسياً في توفير مقوِّمات الاستقرار الاجتماعي وفي تدعيم السيادة الوطنية. وهو اقتصاد مغاير للنموذج الراهن الذي كشف البلاد أمام العجز والمديونية والنهب والفساد والمضاربات وسيادة الريوع.
المسألة الثالثة، هي في الحذر حيال محاولات استخدام الاحتجاجات الشعبية لتحقيق أهداف مشبوهة تخدم، عبر «الضغوط القصوى»، ومن دون مواربة، مصالح العدو الصهيوني.
المسألة الرابعة، هي في اعتماد صيغ مبتكرة، مرنة وتأسيسية ذات طبيعة تشاركية وديموقراطية توفّر حضوراً فاعلاً للمستقلّين: أفراداً ومجموعات ومواقع ومنابر مدنية ومهنية ونقابية... مع الحرص على دور أساسي للجيل الشاب الذي بدأ يطلق إشارات واعدة ومهمّة في الانتخابات الطلّابية الجديدة، وللنساء اللواتي كان دورهن مميّزاً جداً في الانتفاضة، وذلك بما يشمل المدن والأرياف على حدّ سواء.
تشكّل المسائل الأربع المذكورة القوائم الأساسية التي يمكن أن يقوم عليها المشروع الوطني بعد تخطي الفئويات والذاتيات التي من المخجل أن تستمر مؤثّرة بعدما بلغت الأزمة ما بلغته من المخاطر والتهديدات المصيرية. في ذاكرتنا القريبة، أنّه ليس من النادر أن تؤدي خلافات بسيطة إلى فراق «استراتيجي!». وليس نادراً، في المقابل، أن يؤدّي تقاطع تكتيكي، قد يكون دافعه المناورة أو حتى الخداع، إلى بناء حسابات تعاون استراتيجية عليه!
لا يمكن للمشروع الوطني الجبهوي أن يكون وأن ينهض من دون القوائم المذكورة، ولا يمكن الاستمرار في تغييب مركز وطني مرجعي وفاعل، إذا أردنا الإسهام في ممارسة دور إنقاذي لشعبنا ووطننا.

* كاتب وسياسي لبناني

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا