«من الخطأ وصف الحرب ضدّ روسيا بأنها حرب بين الحرّية والاستبداد» (كارل ماركس، في تعليق له حول تحالف الدول الأوروبيّة ضد روسيا في حرب القرم، 1845)
منذ أن شنّت روسيا هجومها على أوكرانيا، والعالم الأوروبي والشمال الأميركي يعيش حُمّى من الحرب العسكرية والمالية والإعلامية، ويشعر المراقب بالغليان الإعلامي ويسمع بتصاعد الضغوط في بعض الدول على أفراد وجماعات لإعلان إدانتهم العلنيّة للاجتياح الروسي. لكن كل عاقل نشأ في المجتمعات التي تعرّضت وتتعرّض لاجتياحات وحروب هذا العالم الديموقراطي يفهم أنّ هذا العالم لا يحتمل الاجتياح الروسي، لا لأسباب أخلاقية مزعومة وإنّما لأنّه يعرقل مشاريع الهيمنة الأميركية، وينافسها في بسط السيطرة ونهب العالم. إنّ إعلان ألمانيا زيادة فوريّة لإنفاقها العسكري توازي مئة مليار يورو وزيادة إنفاقها العسكري السنوي من 1.5 في المئة من الدخل القومي إلى أكثر من 2 في المئة، ليس تفصيلاً صغيراً بأيّ مقياس، ولا يبدو متكافئاً مع حرب محصورة، بل يعكس التوجّه الذي يرى فيه حلف شمال الأطلسي المستقبل، وينسجم مع تصعيد إدارة بايدن لهجتها مع الصين واعتبارها التهديد الأكبر لتحكّمها بمصير العالم. زيادة الإنفاق على التسلّح كانت مصير كندا أيضاً التي رفعت إنفاقها على التسلّح فوراً إلى 1.5 في المئة من الدخل القومي، وهو ما لاقى نقداً لكونه أقلّ من 2 في المئة، واضطرّ الحزب الحاكم إلى التحالف مع حزب منافس لدعم إنفاق متعاظم على التسلّح مقابل إمرار مشاريع اجتماعيّة وصحّية ضروريّة كانت الحكومة مُحجِمة عنها.
(أنجل بوليغان ــ المكسيك)

الإعلام الضحل
حمّى الاندفاع الحكومي إلى الحرب هذه، ترافقها، يداً بيد، حمّى إعلاميّة حربيّة، بحيث لا يسمع الإنسان في الإعلام الواسع الانتشار، في كندا أقلّه، نقداً واحداً لمواقف الحكومات الحربيّة، أو تساؤلاً ذا معنى عن أسباب الحرب الحقيقيّة. فالإعلام الكندي اصطفّ بكل جبن خلف الحكومة، ولا يبدو الوضع مختلفاً في الولايات المتّحدة وأوروبا. في الأيّام الأولى للاجتياح الروسيّ، كانت محطّة «سي بي سي» الكنديّة تشرح كيف أنّ بوتين يكره أوكرانيا لأنّها ديموقراطيّة ثمّ تضيف بعد أيّام أنّ هناك شكّاً بصحّة بوتين العقليّة. هكذا بلغ التبسيط والتسخيف للعقل أوجَهُ التضليلي، بحيث بات اجتياح أوكرانيا مجرّد نتيجة لخلل عقلي لديكتاتور شرّير يكره الديموقراطية. لذلك، فحلف شمال الأطلسي، الذي يمثّل قوى الخير الديموقراطية الطيّبة، يجب أن يوقفه عند حدّه. وهل هناك أوضح من صور أجساد القتلى والأبنية المدمّرة على التلفاز على صحّة جنون الديكتاتور الحالم بالإمبراطورية الروسية ولنسيان أسباب الحرب والانجراف في دعم خطوات الحكومات الديموقراطية؟ مَنْ يصدّق الضحالة الفكريّة في وسائل الإعلام الغربيّة النافذة لن يفهم أكثر من ذلك.
لم يتساءل أحد عن أسباب استمرار حلف شمال الأطلسي بعد انهيار الاتّحاد السوفياتي. ولم يكلّف الكثيرون أنفسهم، مثل المتخصّص بشؤون الدول السوفياتية السابقة دافيد تورتري (انظر مقالته في العدد الأخير من «لوموند ديبلوماتيك»)، عناء شرح سلسلة الخطوات التي قام بها هذا الحلف وهدّد بها روسيا. فقد كسرت أميركا وأوروبا الوعود التي قطعتها في نهاية الاتّحاد السوفياتي بأنّ آلة حرب حلف الأطلسي لن تذهب شرقاً، فضمّت هنغاريا وبولندا وتشيكيا إلى الحلف عام 1999، ووعدت بتوسّع أكبر. ورغم أنّ روسيا حاولت أن تقبلها أوروبا وأميركا، متّخذة خطوات إيجابيّة فأغلقت قواعدها في كوبا وسحبت جنودها من كوسوفو، ودعمت فتح قواعد للولايات المتّحدة في وسط آسيا، بقيت الولايات المتّحدة في حالة عداء لها، ولم تقف منها الموقف الذي وقفته من ألمانيا واليابان بعد الحرب العالميّة الثانية. يعتقد المفكّر سمير أمين عن حقّ بأنّ السبب يعود إلى اضطرار الولايات المتّحدة لاحتضان ألمانيا واليابان ومساعدتهما اقتصاديّاً وقبولهما كصديقتين، بقصد جذبهما بعيداً عن الاتّحاد السوفياتي، أمّا بسقوط الأخير فلم يعد من حاجة لقبول روسيا، بل كان من الممكن التفكير بإخضاعها، كما أُخضعت دول أوروبا الشرقيّة التي قُبِلَت في أوروبا كدول تابعة.
هكذا، عبر السنوات، أعلن حلف شمال الأطلسي، الذي تؤدّي فيه الولايات المتّحدة الدور المركزيّ، رغبته في وضع صواريخ في أوروبا الشرقية في مخالفة لمعاهدة بين الحلف وروسيا موقّعة عام 1997، ثمّ انسحبت الولايات المتّحدة عام 2001 من معاهدة الحدّ من انتشار الصواريخ الباليستيّة. وفي عام 2008، ضغطت الولايات المتّحدة لقبول استقلال كوسوفو (في مخالفة للقانون الدولي). وعندما ضغطت لقبول عضوية جورجيا وأوكرانيا في «الناتو»، ردّت روسيا بحرب في جورجيا عام 2008. بعدها، أتى الانقلاب الذي قادته أميركا في أوكرانيا، عام 2010، إشارة أخرى لرغبة حلف الأطلسي بمتابعة توسّعه وفرض أجندته، فما كان من روسيا إلّا أن ردّت عام 2014 بخرق القوانين الدوليّة وفرض هيمنتها على القرم. وقّع الجميع على معاهدة مينسك 2014 التي دعت إلى حلّ وضع منطقة الدونباس بإعطائها حكماً ذاتياً يسمح لسكّانها باستخدام اللغة الروسيّة التي منعها المنقلبون في كييف، لكنّ المعاهدة لم تُطَبَّق. وأمام جمود ألمانيا وفرنسا الراعيتَين للاتّفاق، سعت روسيا للتفاوض مع الولايات المتّحدة، فما كان من الأخيرة إلّا أن انسحبت عام 2019 من معاهدة التخلّي عن الأسلحة النوويّة التي يبلغ مداها بين 500 و550 كلم. وانتهى الأمر، في حزيران 2021، برفض القادة الأوروبيّين من ناحية المبدأ الجلوس مع بوتين في قمّة بوتين ــــ بايدن حول لجم التسلّح النوويّ؛ فـ«الرفعة» الأخلاقيّة للقادة الأوروبيّين الديموقراطيّين، من ناحية المبدأ، لا تسمح لهم إلّا بممارسة الإجرام على شعوبنا مباشرة (العراق وليبيا) أو بالواسطة (فلسطين، سوريا، لبنان، اليمن والبحرين) وهم يكرهون الديكتاتوريين غير الأصدقاء، ولا يجلسون إلّا مع الأصدقاء سفّاحي الغاز والبترول، كما تذكّرنا زيارات الرئيس الفرنسيّ وصوره، والبريطاني، قبل اجتياح أوكرانيا وبعده.

الحماسة الحربيّة
إنّ الخلفيّة السياسيّة ــــ الاقتصاديّة للحرب غائبة عن الإعلام وعن النقاش في الإعلام الواسع الانتشار في ديموقراطيّات أوروبا وأميركا الشماليّة. ويسوقُ حلفُ الأطلسيّ العالم إلى فوضى وحروب تبدأ بالحرب في أوكرانيا وقد تنتهي بحرب عالميّة بتنا نخشى أن يدفع حلف الأطلسي العالمَ إليها أكثر فأكثر. يكرّر ذاك الحلف بأنّ الحرب في أوكرانيا ستطول، ويدفع بالمزيد من الأسلحة والمعدّات والتدريب دون أيّ عمل جدّي للوصول إلى حلول دبلوماسيّة تقصّر الحرب ومآسيها، وكأنّ إطالة هذه الحرب هدفٌ بحدّ ذاته، يصل إليه حلف الأطلسي بأثمان يدفعها الأوكرانيّون بأجسادهم، ودمائهم، وبيوتهم، ومؤسّسات بلادهم، ومالها. أمّا الرأي العام في دول الحلف، فبات معبّأً للحرب، وإن كان الحلف لم يدخل الحرب مباشرة مع روسيا، فإنّ الأرضيّة النفسيّة لدخول حرب كهذه تزداد تحضيراً وصلابةً كلّ يوم بفضل التسطيح الإعلامي وغياب نقد الحكومات وسياساتها، بحيث بات الإنسان لا يستغرب أن تذهب شعوبُ أوروبا وأميركا إلى انتحارها، وانتحار العالم، بحرب عالميّة جديدة، وهي تهتف بحماسةٍ ضدّ الديكتاتوريّة وتظنّ أنّها تقوم بعمل أخلاقي.
من السذاجة الاعتقاد بأنّ الحروب ستكون لمصلحة الناس، بينما الواقع أنّها ليست في مصلحة شعوب الدول الفقيرة ولا شعوب الدول الغنيّة


الفيل الذي في الغرفة
في خضمّ ضباب الكلام الكثيف عن آلة الحرب الروسيّة وجنون بوتين، يُخفي الإعلام الغربي، وصمت المثقّفين عن نقد السياسات الأميركيّة والأوروبيّة التدميريّة، أهمّ وأكبر آلة حرب ماثلة أمامنا على وجه المعمورة: حلف الأطلسي. الحلف هذا آلة حربيّة تضرب ما تشاء، ساعة تشاء مصالح الأميركيّين. أمّا الحكومات الأوروبيّة فشاركت مرّات بشكل فاعل في سياسات التدمير والنهب لتحصل على حصصها من المغانم (ليبيا مثالاً) ومرّات شاركت بانصياعها لخطط النهب الأميركيّة، وما تذكير الرئيس الفرنسي بضرورة خلق جيش أوروبي مستقل إلّا إشارة إلى هذا الوضع الأوروبي التبعي.

موقف إنساني عقلاني ممكن
بإمكان الذين يريدون أن يصبح السلام واقعاً أن يدينوا لجوء روسيا إلى الحرب، ولكن من واجبهم في الوقت نفسه إدانة تسعير أوروبا والولايات المتّحدة وكندا لهذه الحرب، وأن يطلبوا منها العمل بشكلٍ فاعلٍ على إيجاد حلول سياسيّة سلميّة للحرب في أوكرانيا ولا بأس أن يكون ذلك نزع السلاح النووي من أوكرانيا. إنّ نزع السلاح النووي من كلّ الدول ضرورةٌ لمتابعة حياتنا على هذا الكوكب. لا يمكننا أن نشعر بأمان على مستقبل البشريّة في ظلّ أي حاكم يمتلك القدرة على إفنائنا إن ظنّ للحظةٍ أنّ قتلَ ملايين من الناس ثمنٌ مقبول للوصول إلى أهدافه. وهذا ليس أمراً بعيد الاحتمال، إذ يجب أن نتذكّر دائماً أنّ السفّاحة وزيرة الخارجية الأميركيّة مادلين أولبرايت رأت يوماً بأنّ قتل نصف مليون طفل عراقي بالعقوبات الاقتصاديّة كان ثمناً مقبولاً للوصول إلى أهداف حكومة بلادها.
من يدين الغزو الروسي يجب أن يدين آلة حرب حلف الأطلسيّ المزيّنة بأعلام الديموقراطية والحرّية، والتي تسعى إلى إطالة الحرب. هذا ليس موقفاً ساذجاً، ولا هو يوازن بين الضحية والجلّاد، هو موقف عينه على الضحايا. ليس من السذاجة أن يسعى الناس إلى السلام عوض الحرب، من السذاجة الاعتقاد بأنّ الحروب ستكون لمصلحة الناس، بينما الواقع أنّها ليست في مصلحة شعوب الدول الفقيرة ولا شعوب الدول الغنيّة، إنّها حصراً في مصلحة القوى المتحكّمة بوسائل الاقتصاد والعسكر في الدول الكبرى، ومصلحة زبانيتهم الطفيليّة في الدول الصغرى.
إنّ هذه الحماسة الهستيرية للحرب قد تدمّر العالم. ففيما كانت الأصوات الداعية إلى نزع الأسلحة النوويّة قويّةً وحاضرةً بشكل نقدي في الإعلام في خمسينيّات القرن الفائت، هي ضعيفةٌ اليوم. إنّ العالم اليوم مخدَّرٌ ومنساقٌ نحو قبول فكرة استعمال قنبلة نوويّة «تكتيكيّة» يمكن أن تدمّر بشكل هائل وتبثّ إشعاعات نوويّة كارثيّة. إنّ التصعيد الروسيّ بهذا الشأن مرعب، والنقاشات في الطرف الآخر تنحصر في الردّ النووي «المناسب»؛ ومن المفيد هنا التذكيرُ بأنّ الولايات المتّحدة لا تزال تبرّر الجريمة الإرهابيّة التي قامت بها في هيروشيما وناكازاكي على أنّها كانت «ضروريّة». بإمكان هذا النزاع أن ينزلق، دون تخطيط مسبق من أحد، إلى حرب كونيّة و/أو نوويّة. الإنسان ليس كائناً عاقلاً فقط، إنّه أيضاً كائن يمكنه أن يخدع نفسه وأن ينخدع، وأن يجد نفسه منجرّاً إلى التصرّف بشكل غير عقلانيّ في سياق محدّد. الأساتذة في الجامعات طالما علّموا هذه المعرفة، لقد أشركتُ طلّابي في لعبة مزاد لها سياق محدّد فوصلوا إلى أن يدفعوا 20 دولاراً ثمناً لشراء ورقة 5 دولارات!
المثقّفون والإعلاميّون اليوم سيقضون علينا وعلى أنفسهم، بانجرارهم دون نقد إلى آلة الحرب الضخمة هذه أو تلك. آلات الحرب لن تفعل شيئاً سوى الاستيلاء على أصوات المثقّفين والإعلاميّين لاستتباعها لأجندة الحرب والاستغلال، ولإضعاف صوت الفقراء والمستَغَلّين كما واستخدامهم أدوات حرب.
أمّا نحن في بلاد المسحوقين، فلنرعَ مصالحنا كشعوب، ولنتعاضد على الأقلّ مع أنفسنا، وأوّل التعاضد مقاومة الاحتلال وتثبيت المجتمع في مواجهة القمع والاستغلال، إن لم نفعل فقد نخرج من صناعة التاريخ بلا عودة.
* أستاذ جامعي