[إلى الرفيق سماح إدريس، بالطبع]في مقابلة مع تلفزيون «العربي»، يُقدّم لنا الدكتور عزمي بشارة بضاعته الجديدة وطبعته الأخيرة في معنى الديموقراطية، إذ يجتهد المثقف النفطي، من الدوحة، في تسويق الليبرالية الغربية باعتبارها «المرحلة الانتقالية المطلوبة» التي يحتاج إليها العرب في تاريخهم المعاصر. فما زال الرجل على حاله، يتقَمّص ملامح الجِد ويرتدي قناع المفكر الديموقراطي الحكيم، يريد إفهامنا أن أوروبا وأميركا، لا بل النظام «الإسرائيلي البرلماني» هو الحل لكل مشاكلنا وقضايانا. أمّا الصين وروسيا وإيران وكل دول ومجتمعات جنوب الكرة الأرضيّة، بالنسبة إلى بشارة، فإنها تعاني من الاستبداد والتخلف والرجعية والفشل... إلاّ قطر، طبعاً، قطر التي تُرحب بالصهاينة في إعلامها وعلى أرضها وتُموّل منذ عقد ونيّف عصابات الإجرام والقتل من المحيط إلى الخليج.
فلاش باك: كان إخواننا ورفاقنا في أقطاب محور المقاومة يستقبلون «عضو الكنيست العربي عزمي بشارة» كمَن يستقبل جمال عبد الناصر وقد خرج للتوّ من قبره. بل إنّ قادة الفصائل الفلسطينيّة واللبنانيّة كانوا يحتفون بالرجل ويهلّلون له في دمشق وبيروت كما لم يُحتف بمثقف عربي من قبله. قالوا لنا وقتئذٍ «كلمة عزمي بشارة ما بتصير كلمتين عند أطراف معسكرنا» وكنا نحن «الخشبيين» أقليّة هامشيّة مُشاغبة (وما زلنا) تُعلن رفضها لاستقبال مثقف السلطة وتقف على نقيض سياساته ومواقفه في السر والعلن، ونعتبر تسويقه في أوساطنا الشعبيّة خطراً كامناً يستهدف تمييع وتليين المواقف السياسيّة والفكريّة لقوى المقاومة. لم يُصدّقنا إلّا بعض "الغلابا"، خاصة بعد أن مَنَحهُ سلاطين التّمَلُّق واللغو من أبناء معسكرنا لقب «المُفكر العربي الاستثنائي»!
بعد أقل من عقد واحد، انتقل عزمي بشارة إلى الدوحة وصار يشتم إيران وسوريا والمقاومة ومحورها (ما عدا «حماس» حتى الآن والحمد لله) وظل يبيع الناس من كيس الأوهام ذاته، فالمثقف السلطوي، الحاوي، والمُرَشح السابق لحكومة العدوّ، يميلُ إلى جهة الريح، ويتلوّن مع كل الأزمنة، ويختار مصلحته الشخصية -أوّلاً- لإشباع أناه التي كبُرت وتضخّمت حتى بَلعته. هكذا ظل يذهب «المفكر الجهبذ» مع مَن يدفع له أكثر. ويطلب «العلم» و«الثورة» ولو في بلاط أمير النفط والغاز!
ومنذ نحو سنتين، تقريباً، يشنّ البعض هُجوماً علينا، ولا نعرف لماذا يتهمنا هؤلاء أننا نحن «جماعة عزمي بشارة»؟ ولماذا يلقون زبالتهم علينا الآن؟ بشارة هذا شريككم السابق... هذه بضاعتكم.
ليس القصد من وراء هذا الكلام التشفي ولا القول «حَكينا بس ما سمعتوا»، لكن أكثر مُنتقدي بشارة، اليوم، بلا مصداقيّة، فلا بُدَّ من اتساق بين الرّسالة والرّسول. كانوا شركاءه وأصدقاءه وأحبابه، بالأمس القريب فقط، وبعضهم كان يسافر من الولايات المتحدة للقائه في بيروت ودمشق وعمّان و«يمسح جوخ» ويتملّق الرجل.
وإذا كان بشارة خدعكم في السابق، فحريٌّ بكم أن تتحلوا بقليل من الشجاعة وحفنة من الصدق وأن تعترفوا بالخديعة، هذا لا يُضيركم، ويسمى ممارسة ثورية للنقد الذاتي، وهي سلاح ثوري فعّال ودواء نافع للفكر وجسرٌ للإصلاح والتغيير، بدل أن تتهمونا نحن أننا «جماعة عزمي بشارة» فهذه الكذبة لن تنطلي على عاقل/ة. والأنكى من كل ذلك ترمون سهامكم على الجهة الغلط وتحاربون في الموقع الغلط. دواعش «قومية» و«يسارية».
أكثر مَن يدفع الثمن في هذه المطحنة الخربانة من الجدل الفارغ هو الحوار المنتج والثقافة الوطنيّة


أكثر من ذلك: أنتم وبشارة وجهان لعملة واحدة. لا، أنتم في الواقع قَفا بشارة، ولو تسترتم خلف عباءة السيد حسن نصرالله وحاولتم التلطي خلف «محور المقاومة». فلا علاقة تربطكم بالمقاومة ولا مُعسكرها أصلاً، لا من قريب ولا من بعيد. حارتنا صغيرة ونعرفكم بالاسم.
أحدُهم يُهاجم عزمي بشارة وكان يسير معه مثل ظله في رام الله، إنهم يفعلون ذلك الآن لإيهام الناس أن مواقفهم كانت دائماً «ثورية» على هذا النحو. الحقيقة عكس ذلك تماماً. الدلائل والبراهين كثيرة وموثّقة، تقول بوضوح كيف كان «الرفيق عزمي» معلمهم وقائدهم حتى حين كان عضواً في برلمان العدوّ. أحدهم كان شريكه في «مشروع ثقافي» ثم صار الفنّاص ينعته بـ«فتى الموساد»!
ويستنفر «يساري قومي» صَنعته شاشة فضائية. كان يكتب مقالات أسبوعيّة في موقع «الجزيرة»، وفجأة بدأ يشتم بشارة حينما لم تسلُك أمور توظيفه في مركز الدوحة بعد ثلاث محاولات يائسة، صار يقول: بشارة هذا وسخ جداً. ثم يهتف لمحور سوريا. صار اليوم من «رموز الممانعة الثقافية».
هؤلاء لا يدافعون عن سوريا ولا عن فلسطين ومعسكر المقاومة، يَعلكون الكلام «ضد بشارة» لتسويق ذواتهم الصغيرة، فيما تتواصل حملة صهيونيّة مسعورة ومتزامنة ضدنا (منذ سنتين أيضاً) وتتهمنا بأننا أدوات إيرانيّة وسورية تعمل لمصلحة حزب الله والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وأننا بوق الإعلام الخميني. وفي الوقت الذي تشحن فيه الحركة الصهيونية مُنظّماتها ضدنا يستنفر هؤلاء أيضاً... وباسم «محور المقاومة»!
على المقلب ذاته يُشبه عزمي بشارة حال رجُل الأمن الفاشل محمد دحلان. الأوّل يُقدّم خدماته «الفكرية» لقطر، وهي إمارة تُنتج النفط والموت، وشاركت في جريمة قتل كبرى راح ضحيتها آلاف العرب وغير العرب في أفغانستان والعراق وسوريا ومصر وليبيا ولبنان وغيرها. أمّا الثاني، فيقبع في الإمارات ويقدّم خدماته الأمنيّة لنظام رجعي مجرم يتحالف مع الكيان الصهيوني ويقصف أطفال اليمن ويرتكب المجازر للسيطرة على ميناء بحري يهديه إلى شركات أجنبيّة استعمارية.
عزمي بشارة ومحمد دحلان يبدوان من خارج المشهد كأنهما يقفان على طَرَفي نقيض. غير أن هذه «التفنيصة» لن تمُر عليك عزيزي القارئ وأنت العارف اليقظ. ففي الجوهر هُما مشروع فاسد مصدره واحد. إنهما مجرد أداتين تعملان في خدمة مصالح النظام العربي الرسمي، وستجد مثلهما «مثايل» في كل دولة وناحية عربية، يذهبان مع من يؤمّن لهما امتيازات وسلطة ودولارات ومواليَ، تماماً مثل بعض أبواق «محور المقاومة» الذين أجروا عقولهم وجيوبهم ومؤخراتهم لـ«التنظيم» و«الجهاز» و«الفضائية» و«الحكومة» وهؤلاء أكثر من يُسيء إلى المقاومة وموقفها ومعسكرها. فهذا زمن السقوط الشامل وليس زمن أنيس صايغ وغسّان كنفاني وناجي العلي ومهدي عامل وأمل دنقل ونجيب سرور.
ولأنه «عربي ديموقراطي» و«موسوعي» و«فقيه دستوري» و«روائي» و«مفكر طبعاً»، يُصدر بشارة الفتاوى في السياسة والدين والتاريخ وكل شيء، أكثر من المودودي وشيخ الأزهر وكارل ماركس، فالرجل يفهم في كل شي، ويحفظ مواد الدستور التونسي عن ظهر قلب، ويعرف مجاهل الصومال، ومُتبحّر في تاريخ قبائل الجزائر، وفي وسعه أن يفكك الحالة الكردية والأمازيغية ويعرف أحوال الصين والهند والسند. وإذ ينغلق علينا نحن البسطاء فهم عالم الاقتصاد والمشهد الرّاهن في ليبيا مثلاً، فهذا لا يطاول بشارة، أعوذ بالله. ليبيا هذه مسألة بسيطة، اسألوا عزمي بشارة، يُحَلِّل ويُحرّم كل الواقع الليبي لو أردت... في خمس دقائق.
وفي زمن مضى، كان بشارة يزور الراحل الكبير جورج حبش في بيته بعمان، ويزور «سوريا الصمود» و«سوريا الثورة» ويحلّ ضَيفاً كبيراً على القصر وجامعة دمشق، وتجِد الطلبة افترشوا الأرض فلا مكان شاغر في القاعة، والأمر ذاته تكرر في جامعات عربيّة كثيرة، من بيروت إلى عمّان إلى القاهرة وصولاً إلى تونس، فهل يستطيع بشارة أن يُحاضر اليوم في هذه الجامعات العربيّة؟ الجواب لا، لا كبيرة قاطعة. لسببين: أوّلاً، لأن في وسعه بث سُمومه عبر شاشة من الدوحة. لا حاجة إلى الحوار طالما أن المطلوب من «المثقف الكبير» أن يقول ويرمي الكلام ويصدر أحكامه وفتاواه، من عليائه، حيث لا يسمع أو يحاور «العامّة». وثانياً، لأنه أصبح في موقع الخصم لمعسكر المقاومة في المنطقة وقد يقذفه الطلبة بالبيض الفاسد والشتائم... وعلى الطريقة اللبنانيّة.
أكثر مَن يدفع الثمن في هذه المطحنة الخربانة من الجدل الفارغ هو الحوار المنتج والثقافة الوطنيّة. وعلى المثقف العربي الثوري ألا يرتعش من مواجهة مثقف الأنظمة وكهنة إعلام المحاور والتطبيع. وألا يخاف من نقد معسكر المقاومة أيضاً، فهذا مُعسكرنا، ونقدنا سيكون من داخله وعلى قاعدة تطوير وحماية المقاومة أوّلاً. كما يجب أن تظل مدرسة ناجي العلي ونهج غسّان كنفاني هادياً لنا وبوصلة فلا نضل الطريق.
إنّ ما يجري في مشهدنا العربي الثقافي والسياسي الراهن، وبخاصة الفلسطيني، هو غياب مُريب للحوار الحقيقي بين المثقفين المحترمين. وهؤلاء أكثرية صامتة وليسوا هوامش. كما لا يجوز أن نحصر مشهدنا بين بشارة وقفاه من «الثورجيين» ولا أن نسمح لهم بمصادرة الحوار وتحويله إلى جولات شتائم ومضيعة للجهد والوقت. ونحن اليوم في حاجة ماسّة إلى حوار جاد يخدم مشروع التحرر الوطنيّ ومصالح وحقوق الطبقات الشعبية على قاعدة مواجهة القوى المعادية التي تستهدف حاضر ومستقبل الأمّة وشعوبها.
كان غسّان كنفاني مُحقاً حين قال: «ليس أسهل من القبول المُطلق إلا الرّفض المُطلق» ولا فائدة من جدال شخص يتّخذ من الحوار وسيلة للهجوم عليك. فكل ما يريده هو أن يشتمك فقط. فالحوار الحقيقي محاولة صادقة للفهم وليس للإقناع والتلقين. ومن يرغب في الحوار والفهم يركض إليه حُباً وطوعاً ولا يذهب للبلطجة الفارغة والكذب والزعرنة... هذا سلوك عاجز يفضح صاحبه أكثر مما يستر عوراته.

* كاتب فلسطيني، شارك مع الراحل سماح إدريس وعدد من رفاقهما في تأسيس حركة المسار الفلسطيني الثوري البديل