ما هي نظرة الحزب إلى الوطن؟توجد قيمةٌ خاصَّة لرابطة العقيدة والدِّين، ولا تَحُولُ الجغرافيا والحدود دون التَّعاطف مع المؤمنين على امتداد العالم، بل لا يُمكن أنْ تمنعَ الحدودُ من الاشتراك مع شعوبٍ أخرى بمنظومةٍ واحدةٍ من القِيَم الدِّينيَّة الإسلامية، ولا تحُدُّ الجغرافيا من الارتباط المرجعي والقيادي بعلماء يُبيِّنون الأحكام الشَّرعيَّة ويقودونَ السلوكَ العام للمؤمنين بها في بُلدانهم المتعدِّدة. وبسبب هذا الارتباط والانتماء تولَّدت شبهة مصدرها بعض الحركات الإسلاميَّة التي نظَّرت برفض الملتزم دينياً لحدود بلده لمصلحة أن يكون جزءاً من الدَّولة الإسلاميَّة العالميَّة! وهذا ما لم يطرحه حزب الله منذ نشأته. كما كان مهتمّاً بالبناء العقائدي وتأصيل الجهاد ضد الصهاينة الغزاة والتَّنظير لهما، ولأنَّ فلسطين كانت حاضرة كبوصلة في اهتمامات الحزب، وكان الالتزام الدِّيني بقيادة الوليّ الفقيه الإمام الخميني (قده)، روَّج أعداؤه وأخصامه بعدم انتمائه إلى وطنه لبنان، وقناعته بأن يُلحقه بالجمهوريَّة الإسلاميَّة الإيرانيَّة! ساعدَ على هذا الادّعاء والافتراء أنَّ الحزب لم يُعلن بوضوح عن نظرته إلى الوطن في وثائقه وخُطب قادته، إلَّا في الوثيقة السياسية لحزب الله عام 2009. والآن لم يعُد لهذا الادّعاء أيُّ محل، فقد خصَّصَ حزبُ الله في هذه الوثيقة فقرة مستقلَّة عن نظرته إلى الوطن، جاء فيها:
«أولاً: الوطن: إنَّ لبنان هو وطنُنا ووطنُ الآباء والأجداد، كما هو وطنُ الأبناء والأحفاد وكلِّ الأجيال الآتية، وهو الوطنُ الذي قدَّمنا من أجلِ سيادتِه وعزَّتِه وكرامتِه وتحريرِ أرضه أغلى التَّضحيات وأعزَّ الشهداء. هذا الوطنُ نُريده لكلِّ اللبنانيين على حدٍّ سواء، يحتضنُهم ويتَّسِعُ لهم ويشمخُ بهم وبعطاءاتهم.
ونريدُه واحداً موحَّداً، أرضاً وشعباً ودولةً ومؤسسات، ونرفضُ أيَّ شكلٍ من أشكال التَّقسيم، أو "الفدرَلَة"، الصريحة أو المُقنَّعة. ونريدهُ سيداً حراً مستقلاً عزيزاً كريماً منيعاً قوياً قادراً، حاضراً في معادلات المنطقة، ومساهماً أساسيّاً في صنع الحاضر والمستقبل، كما كان حاضراً دائماً في صُنع التاريخ».
حزب الله يؤمن بأنَّه لا يوجد أيّ تعارضٍ بين الانتماء الدِّيني وبين الانتماء إلى الوطن، بل يجبُ المحافظة على الوطن والدِّفاع عنه، وهذا ما أثبتته المقاومة بعطاءات الدَّم والتضحيات. فعن رسول الله (ص): «إنَّ الله عزَّ وجل يُبغض رجلاً يُدْخل عليه في بيته ولا يُقاتل». وقال الإمام علي(ع): «عَمُرَتِ البُلدان بحُبِّ الأوطان»".
أمَّا شكلُ النِّظام فموقف الحزب هو ما ورَدَ في «الرسالة المفتوحة» عام 1985: «الحدّ الأدنى لطموحنا في لبنان: إنقاذ لبنان من التبعية للغرب أو للشرق وطرد الاحتلال الصهيوني من أراضيه نهائياً واعتماد نظام يقرره الشعب، بمحض اختياره وحريته».
لماذا بنى الحزب تحالفاته وخاصة مع التيار الوطني الحر؟
منذ انخرط حزب الله في العمل السِّياسي ابتداءً من عام 1991، كان مقتنعاً بأنَّ التعاون مع القوى والجهات السِّياسيَّة المختلفة ضروري لمقاومة العدو الإسرائيلي وبناء الدَّولة، لذا كان حريصاً على بناء تحالفات مع قوى تتقاطع معه في قناعاته وخاصةً مع أولوية المقاومة. لذا أحيا حزب الله لقاء الأحزاب الوطنيَّة عام 1997 تحت عنوان واحد: الالتفاف حول المقاومة، ولم يطرح برامج سياسيَّة مُطوَّلة، فالشيطان يدخل في التفاصيل، ويكفي الالتزام بما يرتبط بهذا الالتفاف من دعم الجيش اللبناني، والعلاقة مع سوريا، والتأكيد على الوحدة الدَّاخلية، والاحتكام إلى الدستور والقوانين.
لكنَّ الإنجاز الاستثنائي هو ما أنتجه الحوار بين حزب الله وبين التيار الوطني الحر، من توقيع تفاهم خطِّي في 6 شباط من عام 2006، وقَّعه الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله ورئيس التيار الوطني الحر العماد ميشال عون، وفي مضمونه: «إن الحوار الوطني هو السبيل الوحيد لإيجاد الحلول للأزمات.
● اعتماد الديموقراطية التوافقية.
● بناء الدَّولة (لها حيِّز تفصيلي كبير في التفاهم).
● حماية لبنان وصيانة استقلاله وسيادته: (في هذه الفقرة) من هنا، فإن حمل السلاح ليس هدفاً بذاته وإنما وسيلة شريفة مقدّسة تمارسها أي جماعة تُحتلّ أرضها تماماً كما هي أساليب المقاومة السياسية...
(وتكون) حماية لبنان من الأخطار الإسرائيلية من خلال حوار وطني يؤدي إلى صياغة استراتيجية دفاع وطني يتوافق عليها اللبنانيون وينخرطون فيها عبر تحمّل أعبائها والإفادة من نتائجها».
أثبت حزب الله من خلال هذا التفاهم استعداده لتحالفات سياسيَّة واسعة، من منطلق مصلحة الوطن وحماية سيادته واستقلاله، وهو بهذا التفاهم مع أكبر حزب مسيحي أعطى بُعداً وطنيّاً مهماً لمقاومة العدو الصهيوني، وراكم رصيداً داخليّاً مؤثِّراً في مواجهة التَّبعية للغرب والعزلة الدَّاخليَّة. لقد تحوَّل هذا التفاهم إلى مضرب مثل عن انفتاح حزب الله وواقعيته السياسيَّة ومقبولية مشروعه المقاوم. هذه النتائج هي وليدة الخط الذي نؤمن به، والمشروع المقاوم الذي ضحَّينا لأجله، وقد كانت الانتصارات هي مؤشر النجاح في مقابل فشل المناوئين واللاهثين خلف أميركا.
هل يمكن تغيير النظام الطائفي للتَّخلص من الخلل البنيوي؟ إذا كان بعض التعديل تطلّب خمسة عشر عاماً من الاقتتال الداخلي، فهل التَّغيير الجذري له قابلية هادئة؟!


النظام الطائفي خللٌ بنيوي في النظام اللبناني، ويولِّد الأزمات كما أثبت تاريخ لبنان منذ الاستقلال، وقد حصلتْ حربٌ أهلية خطيرة ومريرة لخمسة عشر عاماً لإجراء بعض التعديلات على نظامه بلحاظ حصص وحقوق الطوائف، فيما أصبح معروفاً بـ«اتفاق الطائف» عام 1989. ولو تابع اللبنانيون تطبيق الطائف لكان أفضل، والحزب مع متابعة التطبيق.
ولكن، هل يمكن تغيير النظام الطائفي للتَّخلص من الخلل البنيوي؟ إذا كان بعض التعديل تطلّب خمسة عشر عاماً من الاقتتال الداخلي، فهل التَّغيير الجذري له قابلية هادئة؟! فضَّلَ الحزب أن لا يغرق في نظريات لعن النِّظام والمطالبة بتغييره لاعتبارات شعبوية، حيث لا وجود لطرح منطقي مناسب -حتى الآن- لمناقشته والتوافق عليه. والأفضل أن يعمل ويُعالج مكامن الخلل العملي في مخالفة الدستور والقوانين، واستحداث أعراف محل القوانين، وإساءة استخدام السلطة في مواقع النظام المختلفة، وأن يواجه الفساد في سوء الإدارة واستغلال الصلاحية وسرقة المال العام وسوء أداء الوظيفة وكل أشكال الفساد في البلد، وأن ينصرف الجميع إلى قضايا النَّاس الاجتماعية والاقتصادية والماليَّة والتربوية والصحية ضمن خطط واستراتيجيات تنقلنا من رد الفعل الآنيّ إلى خطواتٍ مدروسة، وأن يُخطِّط لنظام الإنتاج في الزراعة والصناعة والعلم والسياحة... لا نظام الريع الاستهلاكي.
وماذا عن تعديلات محدودة في الطائف، لتعديل بعض الصلاحيات؟ ليس لدى الحزب طرحٌ في هذا المجال، ولا يعتقد أن المشكلة في الصلاحيات بل في التطبيق للطائف، ولكنَّه منفتح على النقاش فيما لو تقدّمت أيّ جهة بفكرة ضمن الإطار الدستوري والقانوني ليكون النقاش والإقرار والرفض بحسب الأصول الدستورية والقانونية المعتمدة.
اعتمد حزب الله منظومة خدماتية ذاتية واسعة، فخدمةُ النَّاس جزءٌ لا يتجزّأ من الإيمان الدِّيني، قال تعالى: «لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاء مَرْضَاةِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا». وفي الحديث النَّبوي الشريف: «الخلقُ كلُّهم عيالُ الله، وأحبُّهم إلى الله أنفعُهم لعياله». يُنفقُ الحزب من أموال الخُمس والصَّدقات والتَّبرعات والمساهمات من أهل الخير، ومن بعض الموازنات الحزبية، لمساعدة الفقراء والمحتاجين، بل ومساعدة عموم النَّاس في الحاجات الأساسية كتأمين مياه الشُّرب في خزّانات مشروع العباس (ع) في الأحياء والقرى. ويعمل جهاد البناء في دعم المزارعين لتربية النَّحل والمواشي وتقديم الشتول والأسمدة والإرشاد الزراعي. وتُقيم الهيئة الصحية الإسلامية المستوصفات والإسعافات النَّقالة وتؤمِّن المعاينات الطبية والأدوية مجاناً أو بأسعار زهيدة. وتُقدِّم جمعية إمداد الإمام الخميني (قده) المساعدات المالية والعينية والتَّربوية والصحيَّة للعوائل الفقيرة. ويهتمّ العمل الاجتماعي في حزب الله في كل قرية وحي بتقديم الوجبات الساخنة من مائدة الإمام زين العابدين (ع) والحصص التموينية، وكذلك يؤمِّن التجهيزات المنزلية والترميم والطلاء لبعض بيوت العائلات الأشد فقراً، والمساعدات التَّربوية بتأمين المنح المدرسية ومساعدة المعلمين وصناديق التعاضد. والكثير الكثير من المساعدات في الأبواب المختلفة وأحدثها بطاقة السجّاد التي يشتري المواطن من خلالها بأسعار مُخفَّضة. ومشروع المازوت الإيراني الذي تمّ توزيعه وقت فقدانه من الأسواق بأقلّ من سعر السوق لكلِّ المناطق اللبنانية. وقد حشد حزب الله عشرين ألفاً من المتطوّعين والمتطوّعات من الأطباء والممرّضين والممرّضات والشباب الجامعي والعاملين في أجهزة الحزب أو معها لمواجهة داء «كورونا».
مساعدةُ حزب الله الاجتماعية والصحيَّة والتَّربوية... ليست موسميَّة، بل هي على مدار السنة، وعلى مدار حركة حزب الله خلال الأربعين ربيعاً، تزداد يوماً بعد يوم، وتشمل أعداداً أكثر يوماً بعد يوم. هذه المساعدات هي لبلسمة الجراح، وتقديم الخدمة الآنيَّة، وهي تُحاول أن تسدّ بعض النقص بسبب التقصير الفادح للدولة، ويصرِّح حزب الله دائماً بأنَّ هذه المسؤولية تقع على الدَّولة بالأصل لتأمين مواطنيها، والحزب ليس بديلاً عن الدَّولة لا في هذه الأمور ولا في غيرها، ولن يسعى ليكون بديلاً، بل لا يريد أن يكون بديلاً. يجب أن تتحمل الدولة مسؤولياتها تجاه النَّاس، ولن يتخلى الحزب عن واجبه في مساعدتهم لاعتبارات دينية وإنسانية وأخلاقية.
يُعتبر حزب الله الحزب الأقوى في لبنان عدداً وعُدَّة وتنظيماً وانتشاراً وخدمة... وهو يستفيدُ من قوَّته في محلها، فقوَّةُ مقاومته ضدَّ إسرائيل للتَّحرير والحماية ولا علاقة لها بتوازنات القوى في الدَّاخل. وقوَّةُ شعبيته ظهرت في التأييد الواسع في الانتخابات التي أنتجت حضوراً وازناً للحزب في المجلس النيابي. وقوَّةُ إمكاناته يُسخِّرها لخدمات النَّاس وبلسمة جراحاتهم. وقوَّةُ منطقه ومكانته يستفيد منهما لبناء التحالفات التي تخدم مصلحة الوطن والمواطن. ومستوى شبابه وشاباته المتخصّصين والواعين هو في خدمة أدوارهم داخل المجتمع والدَّولة. فنوابُ حزب الله نموذجٌ للعمل الدؤوب والتحضير الجيد للقوانين قبل إقرارها، وحملِ هموم المناطق والنَّاس الذين يمثّلونهم، وهم يعيشون حياتهم بشكل عادي وطبيعي، لم تُغيِّرهم النيابة، ولا يأخذون منها مكتسبات ماديَّة أو ذاتية. ووزراء حزب الله نموذجٌ لنظافة الكفّ وخدمة جميع المناطق وجميع المواطنين، وهم يمتلكون كفاءة التَّخطيط والإدارة، ولهم بصمتهم في الوزارات أينما حلّوا.
لا يستثمر حزب الله قوَّتَه في المجالات المختلفة للسيطرة، ولا يريدها. نعم، يتَّهمه أخصامه وأعداؤه بأنَّه المسيطر على البلد لأنَّه الأقوى! وهذا غير صحيح، تبدِّده الوقائع، فهو يعمل وفق القوانين والأنظمة، ينجح في مجالات، ولا يُحقِّق قناعاته في مجالات أخرى لوجود الآراء المخالفة. يخوض الانتخابات النيابيَّة كغيره بكلِّ حرية، فيختار النَّاس من يُريدون دون ضغطٍ من أحد.
كرَّر حزب الله في تصريحات مسؤوليه بأنَّ تحالفاته مع الآخرين سياسيَّة، ولا يتحمل أيّ مسؤولية عن أدائهم في الملفات المختلفة، كما لا يتحملون أيّ مسؤولية عن أدائه. وهو في تحالفاته يتفق ويختلف، وهو ليس في موقع الفرض والآمرية، وبالتالي فمسؤولية الأداء للحزب أو لغيره تكون مختصّة بمن يقوم بالعمل.
أزماتُ لبنان متعدّدة الأسباب وعلى رأسها الأداء الأميركي الظَّالم ضد لبنان، من خلال العقوبات على النِّظام المصرفي وعلى كلِّ لبنان، ومنع الاستثمارات فيه، والتعتيم المقصود ليُفاقم أزمته في الكهرباء، وهو يدعم مجموعات من المنظمات غير الحكومية من خلال سفارة أميركا في لبنان لتخريب البلد وثقافته وسياسته وإحداث الفوضى فيه، وهو يفرض إبقاء النازحين السوريين كعبء اقتصادي واجتماعي على لبنان لاستثماره السِّياسي ضد سوريا، وقد دعم المجموعات التكفيرية بشكل واسع حتى كادت أن تحتلَّ قسماً من شرق لبنان في البقاع والشمال، ولكن نصرنا الله تعالى ببركة الجيش والشعب والمقاومة في التَّحرير من التكفيريين عام 2017.
لا تترك أميركا فرصة ولا مجالاً لهيمنة إسرائيل وتكريس عدوانها إلَّا وتنتهزها، وآخرها منع لبنان من استخراج نفطه وغازه، وإعطاء كل التسهيلات للعدو الإسرائيلي. حزب الله يعتبر أميركا معادية للبنان وليس لحزب الله فقط.
لا مشكلة للحزب في الانفتاح على جميع الدول الأخرى عربية أو أجنبية على قاعدة سيادة لبنان، والتعاون النِّدِّيّ، وعدم استخدام لبنان منصَّة أو قاعدة لتصفية الحسابات أو استغلال جماعاته.
أربعون ربيعاً حافظ فيها الحزب على مبادئه الأصيلة، وطوَّر كثيراً في أساليب عمله، وواكب تطورات المراحل المختلفة، وتكيَّف معها بأداءٍ ينسجم مع متطلّبات كلِّ مرحلة على قاعدة الثبات على عقيدة الإسلام، وأولوية المقاومة، والعمل السياسي البنَّاء لحماية مشروع المقاومة وخدمة النَّاس في قضاياهم، وبناء أوسع التحالفات للتعاون مع كلِّ من يريد مصلحة البلد.
الأربعون ربيعاً حسمت سلامة الطريق، والانتصارات المتتالية، وقابلية الاستمرار، ومدى الالتفاف الشعبي، وقبل كل ذلك توفيقُ الله تعالى وتأييده. فإلى المزيد بإذن الله تعالى، وإلى الأفضل في مستقبل أكثر إشراقاً.

* نائب الأمين العام لحزب الله