من أهم نتائج الاحتلال الأميركي للعراق كان مصطلح «الديموقراطية التوافقية»، الذي سيجعل ظاهرة «صراع الهويات» تأخذ طابعاً عرقياً طائفياً تعبوياً بدائياً ودموياً. وهناك من يرى أن صورة «الأنا» لا تكتمل إلا بوجود الضد «الآخر»، سلباً أو إيجاباً، ففي نفي «الأنا» بترٌ لوجود «الآخر» وحضوره. إن السياسة في العراق، تحكمها الآن مسألتان: الصفقات المذهبيّة/ الطائفيّة، وخلق الأزمات واحتكارها! وهذا الكلام يتزامن مع تحرك أنصار السيد مقتدى الصدر. ويأتي حراك التيار الصدري لمنع الإطار التنسيقي من تشكيل الحكومة، وخاصة بعدما رشح الإطار محمد شياع السوداني لرئاسة الحكومة، وهو مقرب من رئيس الحكومة السابق نوري المالكي. يذكر أن العراق يمر بأطول فترة شلل سياسي منذ عام 2005، وهو من دون حكومة مناسبة لما يقرب من 10 أشهر، فيما يتأرجح مصطفى الكاظمي في منصبه رئيساً مؤقتاً للوزراء. في الظاهر، يبدو الكلام السابق منطقياً، ولكن من الضرورة التنبّه إلى أن «الديموقراطية التوافقية» التي استقرت في العقل السياسي العراقي، ستتجاوز هذا التوتر الراهن وهي تستعدّ لإبقاء العراق «متلبنناً» ومهيأً لتوترات وحروب أهلية دائمة ومستمرة. فهل يستعد العراق لتفجير أهلي بعدما «فخخ» المفوض السامي الأميركي بول بريمر الدستور العراقي عشية احتلال جيشه للعراق (2003)، وهو الدستور الذي نقل بلاد الرافدين من كونها دولة مركزية إلى التعامل معها على أساس «دول» كردية وشيعية وسنية وكلدو-آشورية. وهنا نفهم معنى قول آرنت ليبهارت، صاحب الكتاب الشهير «الديموقراطية التوافقية في مجتمع متعدد» التي نشأت عملياً بعد الحرب العالمية الثانية: «إن المجتمع التعددي هو المجتمع المجزّأ بفعل الانقسامات الدينية أو الأيديولوجية أو اللغوية أو الجهوية أو الثقافية أو العرقية، وهو المجتمع الذي تنتظم بداخله الأحزاب السياسية، ومجموع المصالح، ووسائل الإعلام والمدارس، والجمعيات التطوعية، على أساس الانقسامات المميزة له».
لقد أثارت دعوة الإطار التنسيقي لجماهيره للتظاهر «من أجل حماية النظام والشرعية الدستورية» مخاوف المحللين السياسيين. وفي هذا الصدد، يقول المحلل السياسي علي الجبوري، إن «الدعوة لخروج جماهير الإطار التنسيقي للتظاهر، هي دعوة للحرب وليس للتظاهر، ومن المنطق أن لا تكون هذه التظاهرة قرب موقع وجود الخصم، بل في مكان آخر، إلا إذا كان الإطار ينوي المواجهة». ويضيف إنه «يفترض على حكماء الإطار عدم الإقدام على خطوة كهذه، فهي تعني المواجهة بين الجماهير التي يوجد فيها البسطاء وليس أبناء المسؤولين»، مؤكداً أن «التصادم الشيعي قريب إذا تحركت أطراف الإطار التنسيقي، وهو ما سيقود الجميع إلى النار». وجاء في تقرير صحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية، على لسان الباحثة في كلية كنيدي بجامعة هارفارد مارسين الشمري، أن «ما يحاول الصدر القيام به هو ممارسة أقصى قدر من الضغط لمعرفة عدد التنازلات التي يمكنه الحصول عليها من منافسيه». ورأت الشمري «أننا على حافة الهاوية، لأنه إذا هاجم أو استعدى الصدر أياً من الأحزاب السياسية المسلحة، فمن المحتمل جداً أن تتحول الأمور إلى أعمال عنف». إذا كان النظام السياسي العراقي الذي صاغه الاحتلال الأميركي ما بعد 2003 يقوم على تمثيل الهويات الإثنية والطائفية في البلاد، في ما يُعرَف بـ«الديموقراطية التوافقية»، ومن ثم تجري عملية بناء التنظيمات السياسية الانتخابية على أساس هذه الهويات التي فرضت على المواطنين إطاراً لتعريف أنفسهم سياسيّاً، فإننا للمرة الأولى، إذا تجاوزنا نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة، نكون أمام حالة يجري فيها التنافس على تمثيل كلّ هوية إثنية أو طائفية، أو مكوّن، عدّة ائتلافات، ولا نكون إزاء ائتلاف واحد، أو كتلة كبرى، مثلما كانت عليه الحال في سائر الانتخابات السابقة، بدءاً بانتخابات 2005، وخصوصاً في ضوء الانقسام «الشيعي» الراهن، بل إن الائتلافات والتيارات العراقية أصبحت أكثر انقساماً وأكثر طائفية ممّا كانت عليه في الدورة الانتخابية السابقة، وإنّ التنافس انتقل إلى داخل كلّ طائفة على تمثيلها، وهذا تكريس أعمق للطائفية السياسية.
وإذا كان من المألوف في البلدان التي تقوم أنظمتها السياسية على تمثيل عدَّة هويات أن تنشَأ كتل موحّدة للتعبير عن كلّ هوية مع إنشاء النظام، ثمّ يحدث صراع على تمثيل الهوية بعد ذلك، فإنّ الانقسام المتزايد في العراق يلوح مرتبطاً بالصراع على بناء نظام مركزي، لا يبدو أنّ بلداً ريعيّاً مثل العراق يستطيع الخلاص منه بسهولة. فمدار الانقسام الشيعي السياسي على الصيغة المركزية الشديدة التي بناها رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، خلال سنوات حكمه الثماني، وإمكانية بناء مركزية أكثر مرونة تعكس شراكة فعليّة لسائر مكونات البلاد الكبرى.
يذكر أن الحكومات العراقية مرت في صراعات وتجاذبات وانسحابات ومزاجات وانكسارات وتقصير وقصور وفساد، ما أنزل الله بها من سلطان. فتركت تلك الأمزجة السياسية تداعيات كبيرة على التنمية الاقتصادية والبشرية والاجتماعية، وهو الأمر الذي دعا الكثير من المراقبين والمحللين إلى الاعتقاد بأن تقدّم العملية السياسية في العراق أمر مستحيل بسبب الأوضاع المرتبكة التي خلفتها التوافقات السياسية. وهكذا فإن مبدأ التوافقات السياسية، كما اللبنانية، أصبح مانعاً وعائقاً أمام أداء الحكومة السليم، وحال دون تطوّر النظام الديموقراطي في العراق ولبنان سياسياً وإدارياً. ونحن نتابع لحظة الاحتجاج المذهبي الطارئ في العراق، والانقسام المذهبي العميق في العراق، تذكّرتُ عنوان كتاب المفكر هنري حاماتي، ذلك الموسوم بـ«جماهير وكوارث»، وقد أدركتُ ضرورة الحاجة إلى رؤية واضحة لمعرفة ما تحمله هذه الاحتجاجات المغلفة بالمذهبية من خفايا، وما تتطلّبه من استحقاقات، لقطع الطريق على «مُشعِلي الحرائق» من استكمال أن يحرقوا هذه «اللحظة» لقيامة العراق، ويضعوا أحلام الناس واحتجاجاتهم في العراق في مهبّ «الصراع الأهلي» أو لعبة العنف والعنف المضاد. هذه اللحظة يجب أن تكون مدعاة للمراجعة الإجرائية المسؤولة، وقبل أن نقع في اللحظة التي تعيد إلى الأذهان قولاً للإمام علي عليه السلام: «مَا أَكْثَرَ الْعِبَرَ وأَقَلَّ الاعْتِبَار».
لا شك أن الأسئلة المثارة الآن هي أسئلة الخوف السيسيوثقافي. الخوف من الحرية، الخوف من الآخر، الخوف من الماضي. فهل بات المثقف/ السياسي عاطلاً عن المسؤولية؟ وهل مات المثقف العضوي فعلاً، وذهب المثقف النقدي إلى أوهام الخطاب المذهبي والعرقي، وجلس المثقف الإجرائي في بيته يتفرّج على خراب وطنه؟ أم أن الرهان الآن يقف بين خيارين: إمّا موت التاريخ أو موت المكان. ولا نظنّ أن البعض سيفهم هذا الموت المفاهيمي، لذلك سيواصل بـ«جماهيريته الكارثية» لعبة الركض إلى خنادق الجمر. فهل يريدوننا أن نصرخ مع مايكل مور: «إنهم يحاولون إقناعنا بأن الله صنع كل هذه الوحول؟!».
‏لكي يستعيد المواطن الواعي في العراق وظيفته الأخلاقية والرمزية، يمكنه المشاركة في تفعيل حراك الجماعات المدنيّة للحدّ من الصعود الغرائبي للعنف اللغوي المذهبي والإثني، وذلك بالاعتماد على الخيارات العاقلة في جوهر خطابها، بهدف إيجاد مساحات مرنة للوعي تفتح أفقاً لحوار عقلاني ونقدي يبدأ من النقد المفاهيمي والتداولي للدولة والنقد التوصيفي لمأزق الهوية، وصولاً إلى نقد الجماعات ذاتها التي تشوّه أيّ صناعة جادّة لمفهوم المجتمع، وللسلم المجتمعي.
* كاتب سوري