«متى استعبدتُمُ الناس، وقد ولدتْهُم أمّهاتهم أحراراً»، جملة عمر بن الخطّاب هذه فذَّةٌ ومعروفَةٌ. الحرّية من أسس الوجود الإنسانيّ، وانتزاعُها مِنه محاولة لدفع الإنسان نحو التشييء، نحو التعامل معه كشيء من دون كرامة، كوسيلة وليس كغاية وكقيمة بحدّ ذاته، وتشييء الإنسان ترفضه الفطرة، ولا يمكن قبوله في ظلّ الفلسفة الإنسانيّة أو الإيمان بالله.لا يمكن التقليل من أهمّية الحرّية في العلاقات الإنسانيّة، سواءٌ أكانت فرديّة أم اجتماعيّة. ولهذا لا يمكن إلّا إدانة كلّ قهر وتسلّط، سواء أكان على صعيد العلاقات الفرديّة داخل العائلات، أم العلاقات الاجتماعيّة داخل المجتمعات والدول، سواء أكان القهر توسُّلَ التهديد أم السجن أم التعذيب، كما هو منتشر في ظلّ حكومات القمع في بلادنا. هذه الإدانة يَضرب بها عرضَ الحائط أحزابٌ وكتّابٌ على أساس أنّ هناك أولويّات صراع أخرى «حاليّاً»، ولكنّ هذا مردودٌ، فحقيقة واقع المنطقة أنّها ستبقى في صراع مع إمبراطوريّات الاستغلال طالما بقي البشر أحياء على هذه الأرض.
العالم الاستغلاليُّ (أوروبا وأميركا الشماليّة أساساً) الذي يسعى إلى مراكمة الأرباح على حساب حياة البشر وكرامتهم (أفريقيا، بلادنا، فقراء الدول الغنيّة)، صوتُه عالٍ جدّاً في إدانة أنظمة القمع، ولكن في البلدان التي تناوئه فقط، ويصمت إعلاميّاً عن القمع في البلدان الخاضعة لمصالحه، بل هو يمارس قمع الشعوب حين يُنَصِّبُ القامعين والديكتاتوريّين ويدعمهم من أجل استتباب سيطرته، أو حين يضرب بلداناً بأكملها بالعقوبات الاقتصاديّة لكي تخضع لإرادته بحيث لا تتمكّن من تقرير مصيرها بنفسها. العالم الاستغلاليّ يمارس القهر والتسلّط، ولكنّه يخفي ذلك بدخان إعلاميّ ضخم من الكلام على الديموقراطيّة والحرّية اللتين يسمح بممارستهما إلى حدّ ما داخليّاً، ويحاول تقييدهما إن هما ناوأتا مصالح المتموّلين فيه، والتقييد الكبير يكمن في تغييب كامل لفكرة تراكم الثروات بواسطة الاستغلال عن الإعلام، على الأكثر هناك نقاش لمساعدة الفقراء دون تحليل لأسباب الفقر.
الحرّية التي نتكلّم عليها هنا هي أساساً حرّيةُ التفكير والتعبير والتصرّف، وبالطبع هي غير مطلقةٍ وإنّما محكومة بقوانين تضبطها تمنع، مثلاً، خطاب الكراهية والعنصريّة... لكنّ ما يغيب عن النقاش والإعلام بشكل شبه مطلق هو حقّ الحرّية من الاستغلال.
الإنسان الخاضع للاستغلال لا يحيا بحرّية، هو أساساً إنسان مقهور، غير حرّ بأن يحصل على عمل يؤمّن له الحياة بكرامة، وبالتالي لا يمكنه أن يأكل ويشرب بشكل مناسب، ولا أن يحيا بصحّة جيّدة، ولا أن يسكن في منزل مناسب. ما هي حرّية إنسان يعمل بأجر لا يسمح له بأن يؤمّن غذاءً كافياً لنفسه ولعائلته، ولا يسمح له بتأمين دواء؟ ثمّ إنّ الاستغلال يقهر حتّى حرّية الإنسان في التعبير، فضغط الرأسماليّين أصحاب العمل على العمّال للصمت عن أوضاعهم المزرية معروف، وكذلك ضغطهم لدعم تيّار سياسيّ، وهذا التقييد لحرّية التعبير ناتج أساساً من الخوف من فقدان العمل. قلب الاستغلال هو التحكّم بحياة البشر واحتقارها في سبيل جني الأرباح، هو اعتبار البشر أدوات جني أرباح، كما تدلّ كلمة «مُستخدَمين» التي تعني بوقاحة أنّ العامل وسيلة بيد «المستخدِم».
ما يغيب عن النقاش والإعلام بشكل شبه مطلق هو حقّ الحرّية من الاستغلال

الاستغلال يضرب حرّية الإنسان، ولكنّ الصمت عن ذلك كبيرٌ في بلاد حرّية التعبير، لأنّ الديموقراطيّات الرأسماليّة تريد سكوتاً في الإعلام المتداول حول استغلال الرأسماليّة للناس، وتغذّي حكاية وهميّة عن إمكانيّة الثروة المتاحة لجميع المجتهدين، وعن ضرورة مساعدة «الأقلّ ثراءً»، وهي عبارة محبوكة حبكاً لتخفي الاستغلال وتحيّد الوعي.
منذ سنوات ظهر في لبنان، ولأغراض سياسيّة، شعارٌ جميلٌ رفعه سياسيّون منافقون هو «محبّة الحياة». مَن يحبّ الحياة حقّاً يحبّ الإنسان، ومَن يؤمن حقّاً بالله أو بفلسفة إنسانيّة يحبّ الإنسان. المعيار الوحيد لصدق الإيمان بما لا يُرى هو محبّة الإنسان الذي يُرى؛ ولهذا يرفض المؤمن تحويل الإنسان إلى شيءٍ، يرفض أن تُضرَبَ حرّيته، فيقاوم البطش السياسيّ والبطش الاقتصاديّ، ولا يتوانى عن إدانتهما كِلَيْهما. إنّ تشييء الإنسان قائم في التسلّط كما في الاستغلال، لأنّ كليهما يسحقان الإنسان ويتعاملان معه كشيء. لهذا، فمحبّة الحياة تقتضي الدفاع عن الكرامة الإنسانيّة بإدانة ومقاومة ليس التسلّط الخارجيّ فقط، وإنّما الداخليّ أيضاً، وليس التسلّط فقط وإنّما الاستغلال أيضاً. مَن يؤمن بالله أو بفلسفة تقول عن نفسها إنّها إنسانيّة، يحبّ الحياة حقّاً حين يحبّ الإنسان حقّاً، ويسعى إلى تأسيس أنظمة تحترم حرّية التعبير وتسمح بالمشاركة بثروات الأرض، أنظمة تحرّر الإنسان من القهر المادّيّ والمعنويّ، لأنّها لا تسمح بمقاربة الإنسان كوسيلة بل تسعى إلى أن يكون هدفاً، وتُفسحُ مجالاً للإنسان لينمو إلى ملء قامته بحرّية، وأن تتجمّل هذه الأرض بأنوار السماء أو بالمبادئ الكبرى، فتتجلّى عالمَ مشاركة، يؤمن بالحرّية كاملةً.

* كاتب، وأستاذ جامعي