إلى جورج عبدالله:لم يلتفت إلّا إلى المسحوقين، كان الزمان عنده يستيقظ من الغفلة إلى جراح المساكين. وعندما فتح الكتب ليقرأ للأولاد رأى مخالب المتخمين حول أعينهم وأمامهم ومن خلفهم، وهم ما كانوا يعلمون أنّ الجوع لا يأتي من الأعلى وإنّما من هنا من الأسفل. ربّما لم يقرأ الإنجيل، ولكنّ الهواء كان يحمل صوت جائعٍ إلى الحقّ غسل أرجل تلاميذه قبل أن يقضي فوق خشبتين خارج أسوار هذا الأسفل الذي يخاطب جلد الطفولة بالحديد. قال أغسل أرجل تلاميذي بشيء من الحقيقة، ثمّ دَلَف إلى المحشورين في جحيم المخيّم ليقيم بينهم. ربّما سمع أنّ إلهاً ضرب خيمته بيننا وأنّه أخبر يوماً أنّه سيجعل من هؤلاء المسحوقين وجهه إلى العالم؛ أو ربّما لم يسمع، لكنّه إلى الجحيم نزل كي لا يبقى المأسورون وحيدين. أراد أن يكون جسراً لهم إلى الحياة، وحين صار الجسر كسر المتوحّشون الجسر، فكانَهُ من جديد لأنّ أوجاع المظلومين سكنته فكان قلبه يرفض أن يستكين.
أحمد برقاوي (الأردن)، رصاص على ورق ملوّن - من أرشيف مجلة «الآداب»

قيل له إنّ كلّ شيء انتهى، ففتح باباً كي لا يموت وتبقى العصافير أسيرة، وراودته فكرة الخسارة، ولكنّه آثر أن يحيا ولو أسيراً مع المحرومين من أن يموت حيّاً مع المتخمين. وعند أسره قال كيانه إنّ السجّانَ بعطره الفرنسيّ عنصريٌّ، وإنّه لا يحقّ لمن يجرف الأطفال عن عشب الحياة، بالاستغلال وبالرصاص، أن يعظ بالحقّ والأخلاق. قال كيانه ذلك فصرخت شفتاه أنا حرّ منكم، أنتم الهباء، أمّا رغبة الحياة في عيون المسحوقين فحقٌّ أبديّ. وصرخت: لا يحقّ للجلّاد أن يلقي الدروسَ على ضحاياه بالعدالة، ولا ينطق داعمو الاحتلال إلّا بالخراب المختبئ في حصانٍ من دعاية.
صار أسيراً، ولكنّه بقي يقرأ للأولاد الذين سكنوا عقله، للجائعين الذين سكنوا لحمه، للأمّهات اللواتي سكنّه بدموعهنّ. أمضى حُكماً لا-حقّانيّاً لا ينتهي، في بلاد الفلاسفة والحقوق. بقي «لا» واقفة تجاه يد البربريّة التي تنكّل بالإنسان بكامل وحشيّتها الأنيقة. بقي «لا» تفضح الاستعمار الذي يخرج من فمٍ يخطبُ بحقوق الإنسان ويأكل الخبز مغمّساً بدم الأفارقة والعرب وكلّ شعب تتكالب عليه أنظمة «الربح قبل الإنسان». بقي «لا» تحتجّ بضميرها لتقول ما قاله يوماً جليليٌّ قضى نحبه ليبقى حرّاً وحيّاً: ماذا ينفع الإنسان أن يربح الهواءَ الطليق والعالمَ كلَّه ويخسر نفسه أو يفقدها؟
قد يكون اسمه اليوم جورج عبدالله، وغداً آدم ابن حوّاء، ولكنّه يمشي داخل السجن فوق العزلة كمن يمشي على المياه


لذلك كان الأسيرُ المناضلُ في العمق حرّاً وسجّانه السجين. قد يكون اسمه اليوم جورج عبدالله، وغداً آدم ابن حوّاء، ولكنّه يمشي داخل السجن فوق العزلة كمن يمشي على المياه، يتّجه إلى رفاقه ليهدّئ روعهم كلّما ضجّت لجّةُ التعب والخوف حول قارِبِهم الخفيف. يُضرِبُ مع المضربين عن الطعام تضامناً، فلا يكون هو وحيداً ولا يكونون وحيدين. يُشعل عقله بقلبِه فينكبّ على الكتاب وعلى اللطف حتّى ينبع لطف الإله خلف القضبان فتتجلّى السماء أخوّة في السجن الصغير. لذلك كان الأسير المناضلُ أُمّاً للحياة، لا ينام إن لم يفعل شيئاً ولو واحداً كي يُحاصَرَ الظلمُ في أيّ مكان. لذلك كان الأسيرُ المناضلُ عمودَ نورٍ، شعلةً نبويّةً تدلّ إلى أفقٍ بعيد، قريبٍ، داخلٍ، خارجٍ، ويشير إلى أمواج الحرّية والعدالة القادمة فجراً من عيون المساكين.
* كاتب، وأستاذ جامعي