في العشرين من آذار 2023، رحل المناضل والباحث المصري حلمي شعراوي، مدير مركز البحوث العربية والأفريقية في القاهرة منذ تأسيسه عام 1986 وحتى عام 2020. وبرحيله شهدت حركات التحرّر الأفريقية «نهاية حقبة»، كما عبّر مجلس البحوث الاجتماعية CODERSIA في نعي الراحل، الذي كان عضواً في لجنتها التنفيذية من 2011 وحتى 2015.عاصر حلمي شعراوي عن قُرب فترة الستينيات، زمن القادة العظام للتحرر الوطني في أفريقيا والعالم، وهي الفترة التي شهدت الحوار الساخن والعمل المشترك بين المثقفين وقوى المجتمع الحية.
انتقل «حلمي» (وكان يكفي ذكر اسمه الأول في الدوائر التي كان ينشط فيها لمعرفة عمّن نتحدث) مع أسرته من قريته في محافظة المنوفية إلى حيّ السيدة زينب في القاهرة، والتحق بمدرسة الخديوية الثانوية. وهناك، بدأ تقاربه مع طلاب «الإخوان المسلمين»، لكنّ هذا التقارب سرعان ما عكّره «مقاومتهم غير السلمية لعبد الناصر». بعد انتقاله إلى قسم الاجتماع في كلية الآداب في جامعة القاهرة عام 1956 «جذبته حركة الشباب الشيوعية وبعض الأساتذة اليساريين الذين كانوا يتحدثون عن العدل الاجتماعي ونصرة الفقراء». وفي جامعة القاهرة، «حضر انعقاد اجتماع شعوب باندونغ ضمن مؤتمر الشعوب الأفريقية والآسيوية في القاهرة عام 1957، والتقى بكبار الزعماء الأفريقيين» الذين شكلوا لاحقاً مصدر اعتزاز للراحل طوال حياته العملية.

تجربة حياة مع الشأن الأفريقي
على مقاعد الجامعة تأثّر حلمي بـ إيفانز برتشارد الذي كان يدرّس مادة «الإنتروبولوجيا الاستعمارية» في كلية آداب القاهرة في الخمسينيات، ومن هنا بدأ اهتمامه بالشعوب الأفريقية وتنوع ثقافاتها، إلى جانب الاهتمام بعلم الإثنوغرافيا. وتمرّد على الفكر الإنتربولوجي الاستعماري «الذي يقدّم الثقافات الأفريقية كمجتمعات متخلفة تعيش على الرقص والفنون على النحو المعروف والسائد وقتئذ».
في منتصف الخمسينيات، ولا سيما بعد العدوان الثلاثي على مصر، كانت أجواء القاهرة تختزل الصراع بين حركات التحرر العربية والأفريقية والدول الاستعمارية. وفي هذه الأجواء كان وعي حلمي يتشكّل، فوجد نفسه مدفوعاً إلى مبنى «الرابطة الأفريقية» (African Association) في الزمالك عام 1956 «حيث شباب البعثات الإسلامية والجامعات من جميع أنحاء القارة، ممّن اندفعوا مع القوى الشعبية لحماية قناة السويس من العدوان الثلاثي». وفي الوقت نفسه بدأت مسيرة انغماسه في التيار اليساري في مصر وبداية تشكّل وعيه الماركسي؛ وكان اللافت في الأمر، أنّه وجد في نقد محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس في كتابهما «معالم في الثقافة المصرية» لكتاب طه حسين «صورة الأدب ومادته»، نقداً لكل الرموز الرجعية في الأدب الحديث (في الأربعينيات والخمسينيات) بسبب تغييبهما للمضمون الاجتماعي في الأعمال الأدبية المصرية. وهنا بدأ حلمي الشعراوي مسيرة البحث في «مكتبات وسط البلد» عن الكتب التي تشرح ماهية الماركسية وتاريخها وأهميتها للبشرية.
يقول في مذكراته إنّ «مجتمع المثقفين (المصريين) في معظمه لم يكن متحفظاً على الفكر الماركسي أو اليساري، بقدر خوفه من الانتماء إلى الحركة الشيوعية التي كانت تواجَه بعنفٍ شديد من جانب الدولة والمجتمع على حدٍّ سواء». إلاّ أن حلمي لم يتأثر بهذا الخوف وكان التحاقه بمجموعات الشيوعيين في الجامعة ثم الحزب الشيوعي نفسه، بعد ذلك. هكذا إذاً، بدأت مسيرة البحث والتفكير والنضال السياسي في خضم هذه التجربة، بدراسةٍ جامعية ولقاءاتٍ مع قيادات أفريقية على مستوى عالٍ من التفكير السياسي والاجتماعي والقدرة على الحوار والرغبة، في الوقت ذاته، في معرفة مجتمع مصر عبد الناصر من خلال شبابها وكتّابها.
استُكمِلت تلك المسيرة بتوثيق العلاقة مع الرابطة الأفريقية التي كانت تضم أكثر من 20 حركة تحرر أفريقية؛ ومن هذه الرابطة كتب أولى مقالاته عن «الصحافة في أفريقيا» عام 1958 ومن ثم مقالة عن «فن النحت في أفريقيا، وفنون الموسيقى الأفريقية» عام 1959، ونشرا في مجلة «نهضة أفريقيا». في خضم هذه التجربة المعرفية والنضالية، تعرّف حلمي إلى الوزير محمد فايق، رئيس دائرة الشؤون الأفريقية في الرئاسة المصرية (في فترة الرئيس جمال عبد الناصر)، والذي طلب منه ترجمة بعض المواد عن أفريقيا. وبسبب «شطارته» وعلاقاته الطيبة مع ممثلي حركات التحرر الأفريقية رأى محمد فايق ضرورة تعيين حلمي شعراوي في دائرة الشؤون الأفريقية في الرئاسة المصرية عام 1959. وعلى مدار أكثر من ستة عشر عاماً، بقي فقيدنا يتابع وينسق بين حركات التحرر الأفريقية إلى أن أحيل، خلال حكم السادات، إلى التقاعد المبكر عام 1975 وهو لم يزل في سن الأربعين بـ«تهمة» العلاقة مع اليساريين، الأمر الذي بيّنت الأيام أنّه كان مجرّد ذريعة لإخفاء «نوايا أخرى» كما سنرى لاحقاً.
في أواخر السبعينيات اعتقل حلمي بسبب مشاركته في تظاهرات معرض الكتاب التي نُظِّمت ضد اتفاقية «كامب دايفيد»، واختياره أميناً عاماً للجنة الدفاع عن الثقافة القومية. وعندما علم رئيس جامعة جوبا باعتقاله ووضعه في السجن، اتصل بعائلته وترك له تذكرة سفر للتوجه مباشرة إلى السودان بعد إطلاق سراحه، ليبدأ مسيرة أستاذ زائر في جامعة جوبا. إلاّ أنه تعرض هناك للتهديد من أعوان الرئيس جعفر النميري (حلفاء السادات)، ما دفعه لاتخاذ قرارٍ بمغادرة السودان والانتقال إلى تونس للعمل في المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم. أمضى حلمي خمس سنوات كباحثٍ في الثقافة والفلكلور واللغات المحكية في أفريقيا، ليعود، في عام 1986، إلى القاهرة. وفي تلك السنة، تحديداً، بدأ التفكير مع مجموعة من المفكرين أمثال فؤاد مرسي وسمير أمين وعبد الغفار شكر وفوزي منصور وعاصم الدسوقي، إلى جانب الكاتب الصحافي حسين عبد الرازق، بإنشاء مركز للبحوث العربية ما لبث أن توسّع مجاله ليشمل الشؤون العربية والأفريقية ومن ثمّ القضايا الأفرو-آسيوية، وعُدّل اسمه ليصبح «مركز البحوث العربية والأفريقية» بإدارة حلمي شعراوي. على هذه الأرضية تكوّنت خبرات حلمي الأفريقية، في مسيرة جمعت ما بين الإنثربولوجيا والسياسة.
إذا أردنا أن نتحدّث عن المؤثّرين في علاقة مصر مع أفريقيا، فيمكن اختزالهم بثلاث هامات: الأولى، هي الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، الذي جسّد التزامه بدعم حركات التحرر في العالم، ومن بينها حركات التحرر الأفريقية.
والهامة الثانية، تتمثّل في الوزير محمد فايق، مسؤول دائرة الشؤون الأفريقية في الرئاسة المصرية.
أمّا الهامة الثالثة، فكانت حلمي شعراوي، الذي أعطى لهذا المسار بُعداً خاصاً لم يكن نتيجة لموقعه الوظيفي في مكتب الشؤون الأفريقية. وكما يقول الدكتور أحمد زايد في نقاشه لكتاب «حلمي شعراوي: سيرة مصرية أفريقية»، فإنّ «حلمي شعراوي يكتب سيرته منخرطاً في أفريقيا، فيتلاحم الجسد الأفريقي مع جسد «حلمي»، ليصبحا جسداً واحداً، فـ»حلمي» يتحدث عن نفسه، وعن أفريقيا في آنٍ واحد، فتشعر بأنه أفريقي وأفريقيا هي حلمي».
كان حلمي واعياً لعملية التغييب للدور المصري في أفريقيا في حقبة ما بعد عبد الناصر والانغماس في الاستراتيجية الأميركية في المنطقة، وانطلاقاً من هذا الإدراك الواعي، عمل تحت الأضواء ومن دون صخب وظلّ مثابراً ومتابعاً لمسيرته. فلم يقطع علاقاته مع أفريقيا، بل عززها وعمل على تكريسها مع الأجيال الجديدة من خلال مبادرات، أبرزها:
1) إنشاء مركز البحوث العربية والأفريقية
2) تأسيس مجموعة «أفريقانيون» التي تقوم بمتابعة التواصل بين الباحثين العرب والأفارقة لعقد ندوات والقيام بأبحاث حول القضايا المشتركة من جهة، ولتعزيز التواصل بين الباحثين من الطرفين
3) إصدار دورية «أفريقية-عربية» تهتمّ بنشر الثقافة العلمية الأفريقية للقارئ العربي.
4) إطلاق جائزة سنوية باسم ««حلمي شعراوي» للدراسات الأفريقية (منذ عام 2010) تستهدف تشجيع الباحثين، وبخاصة الشبان، على العمل في مجال الدراسات الأفريقية.

حلمي الإنثروبولجيست
على مقاعد الجامعة، وأثناء دراسته للإنثربولوجيا، حسم حلمي خياره بالتمرد على الفكر الإنثربولوجي الاستعماري، وسعى لتقديم قراءة إنثربولوجية تنطلق من مقاربة مختلفة تماماً تساعد على الفهم أولاً، تخدم سياسات التحرر والتطور للمجتمعات الأفريقية ثانياً. دراسته للفلكلور والثقافات واللغات جعلت منه واحداً من أبرز الإنثربولوجيين العرب المتخصّصين في الفلكلور والثقافات؛ حيث قدّم مقاربة مغايرة للمفهوم التعسفي للحداثة والتقليد الذي أوجده الأوروبيون. وجاء كتابه المعنون بـ«الثقافة والمثقفون في أفريقيا» قبل سنواتٍ قليلة (عام 2019) ليشكّل إحدى أهمّ الوثائق التاريخية الخاصّة بالثقافة في أفريقيا.
أولى زياراته لأفريقيا كانت في عام 1961 ضمن وفدٍ مصري رسمي إلى تنجانيقا (تنزانيا)، للاحتفال بمرور عام على استقلالها. يروي «مواليمو» في كتابه «حلمي شعراوي سيرة مصرية أفريقية» كيف افتتن بهذا البلد، فتخلّف عن العودة مع الوفد المصري لكي يمكث فيه وقتاً أطول ويبدأ رحلته باحثاً ومحلّلاً سوسيولوجياً وسياسياً وإنثربولوجياً في الشؤون الأفريقية. لقد اهتم كثيراً بموضوع اللغات المحكية في أفريقيا ولا سيما تلك التي تستخدم الحرف العربي، انطلاقاً من فهمه أن الثقافة منتجٌ جماعي وتاريخي لحياة الشعوب. وأن اللغات ليست إلاّ التعبير الحي عن التفاعلات الاجتماعية والتاريخية التي تعيشها المجتمعات من خلال الحكايا والقصص والفنون، والتي تمثل العلامات البارزة التي وضعت بها الشعوب بصماتها في التاريخ. واهتمامه باللغة دفعه للعمل على البُعد الحضاري لمناطق انتشار هذه اللغات الأفريقية؛ فعلى رغم وفرة كتابات الرحّالة العرب والأوروبيين عن أفريقيا، لكنّ القليلين منهم اهتموا بما سجّله الأفريقيون عن أنفسهم بأنفسهم مذ عرفوا الكتابة. عمل حلمي على 16 لغة في مشارق القارة الأفريقية ومغاربها، وتنقّل بين أكثر من ثمانية بلدان جمع خلالها نصوصاً بهذه اللغات وتوصّل إلى وضع كتابيْن؛ ضمّ الجزء الأوّل اللغات الملجاشية والسواحلية والهوسا والفولانية والولوف والماندنج والسونغاي والتماشقية، وضمّ الجزء الثاني الأمازيغية والسنوننكية والسيرير والكانوري واليوروبا والنيوبي والعفر والأفريكانز.
إلى جانب اللغة، اهتم حلمي بالسينما الأفريقية، ولاحظ، من خلال مشاركته الدائمة في مهرجان «الأقصر للسينما الأفريقية»، أمرين: الأوّل، وهو سيطرة البُعد الفني على لجان التحكيم والنقّاد. والثاني، ابتعاد النقّاد عن المعالجة السوسيولوجية، على رغم أن الأفلام المعروضة في المهرجان يغلب عليها الاعتماد على اللغات المحلية الأفريقية إلى جانب أنها تعكس واقع الأقاليم الداخلية والفلاحين والفقراء.

حلمي المناضل السياسي في الشأن المصري
منذ نعومة أظفاره، بدأ وعي حلمي السياسي يتشكل، وتبلور في خضم ممارسته السياسية والبحثية في «بيئة صراعية». وأهمية تجربته تكمن في كونها نتاجاً ذا بُعديْن أساسيّيْن، هما: الممارسة العملية، والتجريد النظري؛ الأمر الذي جعلها جزءاً من الدينامية الاجتماعية والسياسية التي كانت تعيشها مصر وأفريقيا والعالم، عموماً، في مرحلة الخمسينيات والستينيات، والتي كانت حركات التحرر الوطني عاملاً أساسياً فيها.
عبّرت مسيرة حلمي البحثية والسياسية عن قناعاته الفكرية وحسّه النقدي؛ فعلى رغم تأييده لسياسات عبد الناصر، غير أنّ ذلك لم يمنعه من التفكير في هذه السياسات واكتشاف محدداتها، وأحياناً «انفصامها» (اعتماد الاشتراكية كخيار في استراتيجيته الداخلية، مع تعزيز علاقاته بالاتحاد السوفياتي، وعدم السماح بنشر الفكر الماركسي أو الشيوعي). وفي هذا السياق، يكتب حلمي شعراوي، اعتمد عبد الناصر على «مهارة محمد حسنين هيكل في الالتفاف على المعاني واستخدام مصطلحات لإرضاء جميع الأطراف»، من دون تحويل هذه الشعارات إلى وعي اجتماعي جديد عبر طرحها للنقاش مع القواعد الحزبية والشعبية.
دراسته للفلكلور والثقافات واللغات جعلت منه واحداً من أبرز الإنثربولوجيين العرب المتخصّصين؛ حيث قدّم مقاربة مغايرة للمفهوم التعسفي للحداثة والتقليد الذي أوجده الأوروبيون


لقد استطاع حلمي أن يجمع بين عمله في رئاسة الجمهورية وبين انتمائه الفكري والسياسي الماركسي، فكان يداوم في وظيفته نهاراً ويلتقي مساءً اليساريين في المقاهي والندوات. فكانت مسيرته السياسية حافلة ولم يبدّل في قناعاته ولا التزاماته؛ فهو انتسب إلى الحزب الشيوعي المصري في الخمسينيات، وساهم في تأسيس حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي في منتصف السبعينيات، وأسّس مركز البحوث العربية والأفريقية في أواسط الثمانينيات، وشارك في تأسيس حركة كفاية عام 2004. وبعد انتفاضة كانون الثاني 2011، شارك مع أكثر من 300 مثقف مصري بإدانة موقف الحزب الشيوعي المصري السلبي من التجمع الشعبي في ميدان التحرير، والدعوة إلى تأسيس حزب جديد باسم التحالف الشعبي الاشتراكي الذي بقي فيه حتى وفاته.
هكذا كانت مسيرة حلمي شعراوي التي خطّها بيده مع رفاقٍ له، بعضهم سبقه إلى الرحيل، وها هو يلحق بهم اليوم، دفع «مواليمو» ثمن التزامه السياسي الواضح وانحيازه إلى جانب قضايا العدالة في مصر والأمة العربية والقارة الأفريقية؛ أولاً، بإحالته في عام 1975 من قبل الإدارة الساداتية على المعاش (التقاعد) قبل بلوغه سن الأربعين. وثانياً، بسجنه في عام 1980. وثالثاً، بـ«دفعه» للبقاء خارج مصر حتى عام 1986.
المسيرة التي آمن بها وأمضى حياته معطاءً لها، ستُستكمل من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية وتحرر الشعوب وانتصار الفقراء على ظالميهم.

* «مواليمو» هو تعبير باللغة السواحلية الأفريقية وتعني «مُعَلّمِي»؛ وقد أطلقها الباحثون الأفارقة على حلمي شعراوي نتيجةً لدوره في رعايتهم وتقديم العون لهم في دراساتهم وأبحاثهم

** أستاذ وباحث جامعي، معهد العلوم الاجتماعية-الجامعة اللبنانية