نحن الآن في زمن «المصالحة»، أو «عودة سوريا إلى الحضن العربي» ومثل ذلك من التعبيرات الركيكة والسمجة التي ترتبط بنظام رسمي عربي لا يقل ركاكة ولا سماجة عن هذه التعبيرات التي ينتجها. كيف أصبحت هذه المصطلحات فجأة ضمن مفردات «جمهور المقاومة»؟ وكيف أصبح هذا الحضن الرسمي، الذي يتسع لـ«الممانعين» والصهاينة معاً، هدفاً لجمهور المقاومة يحتفلون إذا وصل حليفهم إليه؟ احتفاء بعض «جمهور المقاومة» بهذه «العودة» هي علامة أنهم ربطوا أنفسهم ربطاً وثيقاً بحليفهم السوري، حتى أصبحت أهدافه العملية – المرتبطة أساساً ببقائه، وتلك غاية أي نظام سياسي — طموحات استراتيجية لحلفائه وانتصارات لمبادئهم. ولكن هذه المصالحة تطرح سؤالاً: هل هذا الربط سيكون متبادلاً؟ وما الذي يضمن ألا يفك هذا النظام ارتباطاته بحلفائه المقاومين؟
المسألة ليست افتراض سوء نوايا ولكنها سؤال ينبغي لأي محلل سياسي، مهما بلغت ثقته في حليفه، أن يسأله لنفسه ويستعد لأسوأ احتمالاته.
فحسابات الدولة و«النظام» غير حسابات المقاومة وإن التقيا في بعضها؛ بقاء النظام وقدرته على المناورة من أجل البقاء دليل على قدرته (يستوي في ذلك عبد الناصر وبشار الأسد ورجب طيب إردوغان). أمّا المقاومة، وإن ارتكزت على نظام ما ورأت في بقائه ضمانة، فأهدافها أبعد من ذلك. وحسابات نظام الأسد (أباً وابناً) قد دعمت المقاومة في مراحل تاريخية عدة، ووضعت لها الخطوط الحمراء في مراحل أخرى، وتخلّت عن المقاومة (على سبيل المثال في العراق إبّان الغزو) أو وجّهت إليها الضربات القاسية (في نهاية حرب السنتين على سبيل المثال).
المسألة ليست مسألة نكاية أو تصفية حسابات على الورق، وإنما مسألة أسئلة مصيرية؛ فإذا كان بعض أنصار «الطرف الآخر» وبعض من يتبعون ما يسمى بـ«الإسلام السياسي» (التسمية التي أصبحت تستثني حزب الله من بعد أحداث سوريا) قد انتقدوا حكام الخليج لأنهم تصالحوا مع «القاتل بشار»، فأين من أنصار حزب الله من ينتقدون حليفهم؟
وإذا كان بعض «جمهور الممانعة» قد استبقوا النتائج ليقولوا إنّ ما يحدث هو فرض لدبلوماسية المقاومة على النظام الإقليمي العربي لا العكس، وهو أمر وارد ما دمنا نعدد الاحتمالات المختلفة، واستبشروا بأن بوادر المصالحة السعودية الإيرانية قد بدأت تحت رعاية الصين لا أميركا (ولا أختلف هنا مع الاستبشار في أي خروج عن مظلة الراعي الأميركي ولكن لنتذكر كذلك أن الصين شريك تجاري للكيان الصهيوني تمدّه بالسلاح وتتعاون معه في تطوير تقنيات التجسس)؛ فأين الضمانات ألا يحدث العكس؟ وألا يكون ثمن التهدئة بين إيران والسعودية، وثمن عودة بشار الأسد «إلى الحضن العربي» هو التخلي عن بعض تنظيمات المقاومة أو وضع الحدود والأسقف والموانع لها؟
لا شك أننا نستبشر بانتهاء هذه الحرب (التي ظل فيها كل طرف، لما يقرب من 12 عاماً، على يقين أنه قد أوشك أن يجهز على غريمه ويقضي عليه) وربما بتضميد الجرح المعنوي الذي تركته. لكن تضميد هذا الجرح لا يمر عبر النظام الرسمي العربي ولا عبر المصافحة بين الذين أثخنوا في الأمة جراحاً. كما أن خطاب بشار الأسد في القمة لم يفتح باباً لتضميد هذه الجراح بل على العكس تضمّن تحريضاً سياسياً وطائفياً ضد قطاع عريض يتم اختزاله بمفهوم «الأخونة» الفضفاض، والذي تريده الأنظمة العربية فضفاضاً لتلبسه معارضيها تلبيساً كما يريده جمهور «الممانعة» فضفاضاً لينفوا به الفضل عمن سبقوهم في المقاومة (ومنها فصائل لم يكن حزب الله ليغمطها حقها وقد شكرها أمينه العام السيد حسن نصرالله وهو يعدد أصحاب الفضل بعد انتصار عام 2006).
وإن كان يمكن أن يقال الكثير عن الرئيس الذي يقدّم نفسه غريماً لا زعيماً، أو عن تجارب لمّ الشمل من بعد الحروب التي يحتاج فيها المنتصر إلى خطاب جامع، فإنّ الأخطر من كل ذلك أن ما قاله بشار الأسد في هذه المسألة يناسب مزاجاً قمعياً للنظام الرسمي العربي «الأخونة» بالنسبة إليه هي مجاز مرسل عن المعارضة.
فهل هي مصالحة الأنظمة من أجل إحداث جراح جديدة؟ وهل «عودة سوريا إلى الحضن»ــ سواء مثّلت انتصاراً دبلوماسياً للمقاومة أم انكفاء لها لصالح حسابات مصالح الأنظمة التي جلست وتجلس مع العدو الصهيوني (بما فيها، مرة أخرى، نظام الأسد الذي فضّل أن يحضر «متمنّعاً» في قمة مدريد على أن يغيب ويكون جبهة صمود وتصدّ جديدة) ــ ستتم بالتوازي مع تزايد القمع على روافد شعبية أخرى للمقاومة وضعتها الحرب السورية على طرف النقيض مع حزب الله ومقاومته؟
لا شك أن أسباباً استراتيجية تدعو حزب الله ــ وفي بعض الأحيان حركة حماس ــ إلى التحالف مع أركان بعينها من النظام الرسمي العربي ومهادنة أركان أخرى من أجل مصلحة حليفها، ولكن السؤال هنا يمتد إلى أولويات حزب الله: المقاومة أم بقاء النظام السوري بأي شكل؟ إذا كانت قراءة حزب الله للوضع الإقليمي ترى أن بقاء المقاومة مرهون ببقاء النظام السوري فالسؤال هنا هو أيهما الأولوية؟ أن تبقى المقاومة ولو لم يبق نظام الأسد، أم أن يبقى نظام الأسد مهما كلف المقاومة؟ وإن كانت هذه الكلفة حرباً أهلية، رآها الحزب ضرورية، في السنين الاثنتي عشرة الماضية، فماذا ستكون كلفة السلم؟
* باحث عربي