يمثّل شكل تعامل الدول العربية مع الكيان الإسرائيلي أحد أبرز شواهد انتفاء صفة «الدولة» عن «إسرائيل» حتى بمعايير منظومة العلاقات الدولية. فبالنسبة إلى الدول العربية، المطبّعة منها على وجه الخصوص، تندرج العلاقة مع «إسرائيل» ضمن إطار واسع عنوانه العلاقة مع الولايات المتحدة. كما أنه بدوره، لا يمكن النظر إلى العلاقة العربية - الأميركية، كشكل من أشكال المساواة واحترام المصالح المتبادل بالشكل الذي تصوّره بروتوكولات مفردات الديبلوماسية الدولية. والإشارة هنا، إلى الأهمية الراهنة أكثر من أيّ وقت مضى، لتجاوز أي شكل من أشكال نصوص المساواة القانونية بين جميع الأمم والدول، وهي المساواة النظرية التي يحتفل بها النظام الليبرالي العالمي كأحد أبرز منجزاته، في تغييب متعمد لعدم المساواة في موازين القوى، المادية والعسكرية، وهي الناظم الأساسي لعلاقة أي أطراف بعضهم ببعض.
(أ ف ب )

يشير ديفيد ويرينغ إلى طبيعة العلاقة التي تربط دول الخليج بالدول الغربية، المملكة المتحدة ومن ثم أميركا، بـ«الاعتماد المتبادل غير المتكافئ» (asymmetric interdependence). يعود عدم التكافؤ هذا إلى الظروف التاريخية لنشأة العلاقة بين الدول المستقلة حديثاً مع أوروبا وأميركا. إلا أن النقطة الحاكمة تكمن في استيعاب مأسسة عدم التكافؤ هذا، مجسدة رابطة بنيوية من المصالح الاقتصادية والسياسية والأمنية بين دول الخليج، على رأسها السعودية، مع واشنطن. إنّ ما يبنى على ذلك، هو عدم الانجرار، إلى أنه مهما توسعت مساحة التحرك السياسي غير المحكوم بسقف العلاقة الأميركية - السعودية، فالمسألة تمثل انفكاكاً أو انهياراً للرابطة البنيوية بينهما.
بل إن من البديهي القول إن شرط الانفكاك هو الانعتاق البنيوي، أي أن تصوغ الدولة المعنية بنيةً سياسية واقتصادية تتّسم بمجال معقول من الاستقلال والاكتفاء الذاتي، وهو ما يعني بالضرورة التصادم مع المصالح الغربية. وفي سياق المملكة، فإن هذا الانعتاق يقتضي نهاية التعريف التاريخي لـ«السعودية»، أي شكل الحكم وآليّته والدولة القائمة منذ ثمانية عقود. بتعبير آخر، لا تصبح حينها السعودية «سعودية».

الأعمدة الأربعة
ليس بالضرورة، بل وفي حالة المملكة هي نمط يتكرر كثيراً، أن يكون التمايز عن التوجه السياسي الأميركي انعكاساً لاستغلال فسحة خلقها تدهور فرض واشنطن إرادتها السياسية بمختلف السبل، لتحقيق السعودية ما تراه مصلحة ذاتية. وهذا التمايز ليس ابتعاداً عن العلاقة التاريخية بالولايات المتحدة، بل هو ضمن هذه العلاقة وغرضه الأخير تمتينها. بتعبير آخر، إن التمايز في الموقف السياسي في المنطقة بالنسبة إلى إيران أو سوريا أو العلاقة بالصين ليس توجّهاً بهدف بناء سياسة مستقلة، فهذا الاستقلال السياسي يستلزم نظيراً اقتصادياً وعسكرياً غير متاح. فعلى عكس التصور الأولي والمتسرع، فإن هذا التمايز هو شد للحبال لتحصيل رابطة بنيوية أكبر بأميركا، وتحديداً على المستوى العسكري، في ظل تكرر سيناريوات التخلي الأميركي عن حلفائها من حسني مبارك والاتفاق النووي مع إيران والخروج من أفغانستان.
في تفصيل الروابط البنيوية السعودية - الأميركية فهي تقوم على أربعة أعمدة، ومن المباح القول إن أي تمرّد سعودي على أحدها بدرجات مختلفة سيؤسّس لأول تبدّل معتبر في الطبيعة التاريخية في العلاقة:
(1) حصرية التعامل بالدولار في سوق النفط. (2) جهة استثمارات رؤوس الأموال السعودية (لمن يريد أن يفهم حقيقة التصور الاستراتيجي المستقبلي للسعوديين، عليه تتبّع حقائب أموال صندوق الاستثمارات العامة). (3) صفقات الأسلحة. (4) الارتباط الثقافي والأيديولوجي. والأخير، مستحدث وأساسي لفهم الشرعية الداخلية. وكذلك، من المهم الاستدراك أن هذه الأعمدة لا تنفي واقع أن المملكة، من ناحية بيروقراطية وتنظيمية، تعيش حيوية وورشة كبرى لإعادة هيكلة بنية الدولة وقوانينها وتشريعاتها بشكل فعّال ونشط.
لا تمثّل هذه الأعمدة تحقيقاً لمصالح أميركية فحسب، بل حتى من وجهة نظر السعوديين، فإن الحفاظ على هذه الأعمدة هو تحقيق لما يرونه مصلحة ذاتية، وراعياً لأمن وامتياز طبقي. من هنا، تمسي ديناميكية العلاقة الثنائية في كيفية تحصيل وجني منافع أكثر على كل هذه الأصعدة المختلفة، والإجابة عن سؤال هذه الكيفية هو ما يعود بنا إلى «إسرائيل» في هذه العلاقة.
هذا التمايز ليس ابتعاداً عن العلاقة التاريخية بالولايات المتحدة، بل هو ضمن هذه العلاقة وغرضه الأخير تمتينها


«إسرائيل» في أميركا
يشرح الكاتب الصهيوني ديفيد بيلي في كتابه «القوة وانعدام القوة في التاريخ اليهودي»، طبيعة قوة السياسية الصهيونية اليهودية في الولايات المتحدة، مشيراً إليها كأكبر قوة شتات في ما يرسمه كسردية للتاريخ اليهودي، مبيّناً ما تنتجه هذه القوة من اعتماد متبادل بين «إسرائيل» واليهود الصهاينة في أميركا، بل يصل الأمر ببيلي إلى اعتبار الوجود اليهودي في أميركا التجسيد الحقيقي لـ«الأرض الموعودة» لليهود. والنقطة المهمة في حديثه هي ملاحظته أنه في جميع التنظيرات الكلاسيكية للصهيونية، لم تتصور وجود مركزين للقوة اليهودية يغذّي أحدهما الآخر، أولهما في «الشتات» مندمج في «وطن آخر»، والثاني في «الوطن/ الدولة اليهودية». وعليه، انعكس هذا التمازج بين مركزَي القوة حتى على العرب، الذين سلبت أرضهم لأجل «الدولة اليهودية»، وترتبط بدولهم عبر إمبريالية الولايات المتحدة، المركز الآخر للقوة الصهيونية، وهي قوة بمركزَيها سخّرت نفسها لخدمة المصالح الأميركية.
انعكس هذا الواقع على طبيعة تعامل الدول العربية مع «إسرائيل»، وبشكل يرتبط بجوهر الكيان نفسه، لم يخصصوا جل جهدهم في نسج علاقات ثنائية مع «إسرائيل» ككيان مجرّد. بل حتى إن هذه الدول لا تملك تصوراً عملياً لـ«شرق أوسط جديد» توجد فيه «إسرائيل». فحتى في الطموحات الاقتصادية ضمن «الرؤى» المستقبلية، تصطدم التصورات الساذجة لرسم شرق أوسط مترابط اقتصادياً ومالياً مع «إسرائيل»، بالشرط الوجودي الذي يعيه قادة العدو لبقائهم في المنطقة، وهو وجود ميزان القوة في كل شيء، وهذا ما لاحظته الطبقة العربية المطبعة من نموذج التطبيع الإماراتي، أو حتى القطري الذي خبِر أن أي تحصيل مكانة دولية يستلزم الرضى الصهيوني.
من هنا، يندرج ملف التطبيع مع «دولة إسرائيل» بالنسبة إلى السعودية ضمن خانة العلاقة مع الولايات المتحدة، وطبيعة تجاذبات القوى السياسية الداخلية وجماعات الضغط الصهيونية، وحتى التباينات بين الحزبين في واشنطن. فقد جعل ثقل اللوبي الصهيوني من «إسرائيل» شأناً داخلياً أميركياً، وتتعامل معه الدول العربية على هذا الأساس. وهذا ما يعيدنا إلى تصريح الشيخ القطري حمد بن جاسم بشكل مباشر بأن الغرض من العلاقة مع «إسرائيل» هو الوصول إلى مصالحنا في أميركا، قائلاً إن القطريين كانوا سبّاقين في تبنّي هذه الورقة عن باقي الدول الخليجية.
فـ«إسرائيل»، أو «الصهيونية» بشكل عام، تمثّل عاملاً مفتاحياً للعلاقة العربية - الأميركية. وهو ما يمتدّ لدرجة تقديم الخطوات التطبيعية كعملة سياسية تحصد منها مكتسبات من الأميركيين حتى دون المرور بـ«الإسرائيليين»، ومنها تفهم تصريح مستشار الأمن القومي الإسرائيلي، تساحي هنغبي، في مقابلة مع «إذاعة الجيش الإسرائيلي»، معتبراً أن شروط التطبيع السعودية «مشكلة أميركية»، متسائلاً: «أيّ ثمن يمكن لواشنطن دفعه مقابل اتفاق كهذا». وقال: «لا نعلم دائماً ما الذي يدور في الأروقة السعودية - الأميركية». حيث تتوسع المسألة، لتأخد منحى الدخول في الصفقات داخل أروقة السياسة الداخلية الأميركية، وتنافس اللوبيات، وما يسمى بجماعات الضغط، والنقطة الرئيسية هنا، لفهم تدارك السعوديين ولحاقهم بكل من الإماراتيين والقطريين، هي في حين كان في السابق اللوبي الصهيوني عائقاً أمام السعوديين، وخصوصاً من ناحية صفقات الأسلحة، وتحسين الصورة بعد أحداث سبتمبر، من هنا تصريح تركي الفيصل منذ ثلاث سنوات بأن «اللوبي الصهيوني أشد أعداء المملكة داخل الولايات المتحدة». الوضع يتجه إلى التحوّل، ففيما كان في الأمس مسألة ضغط صهيوني واستماتة أو تنازلاً سعودي، فالمسألة اليوم هي صفقات سياسية وتنسيق، وزيارات يقوم بها أبرز الشخصيات الصهيونية والإنجيلية للمملكة.
وإن أخذنا مسألة تغيير المناهج الدراسية كمثال، وهي التي دفع الصهاينة بثقلهم فيها بعد 2001، وكانت من أهم محاور العلاقات السعودية - الأميركية لسنوات، فإن السعوديين أجبروا على وضع حد للتغيرات المتعلقة بالقضية الفلسطينية، وهو إجبار يعود للعامل الفلسطيني والمقاومة إبّان الانتفاضة، إذ تكشف وثيقة لـ«ويكليكس» عام 2007 رد الملك سلمان على السفير الأميركي أن الإصلاحات تحتاج إلى وقت، محاججاً بأن العنصرية ضد السود في أميركا لم تقارَب حتى الستينيات. أمّا اليوم، ففي تقرير منظمة «IMPACT-SE» الأميركية الصهيونية والمعنية بمراقبة المناهج حول العالم، لعام 2020، فقد أشادت بالتقدّم الذي أحرزه السعوديون بالنسبة إلى مقاربة القضية الفلسطينية.

التطبيع على بعد صفقة
لا تمثّل عملية تحصيل مكتسبات من واشنطن عبر تقديم تنازلات لمصلحة «إسرائيل» بالأمر الجديد. على سبيل المثال، لا يمثّل شرط تقديم تسهيلات في صفقة طائرات الـ F35 الأميركية للإمارات كإحدى مقايضات التطبيع سابقة تاريخية (الصفقة لم تتم). ففي عام 1981 ومع ما سمّي حينها بمبادرة الملك فهد، كان الغرض من المبادرة، وخصوصاً الصياغة الضبابية والاعتراف الضمني بـ«إسرائيل»، صرف هذا الموقف كعملة سياسية مقابل إتمام الأميركيين لصفقة طائرات «الأواكس». وهو ما تكرّر مع مبادرة الملك عبد الله، أو ما تسمّى «مبادرة السلام العربية» عام 2001، المتصلة بعملية ترميم العلاقات السعودية الأميركية على خلفية أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وصولاً إلى اليوم حيث يتخذ خطوات أجرأ وبوتيرة متسارعة.
لم تساهم التغيرات السياسية في كل من المملكة وأميركا في مجرد تكثيف الخطوات التطبيعية، الإعلامية والسياسية والاقتصادية، بل إن عوامل سياسية شخصية لها علاقة بصهر الرئيس السابق جاريد كوشنر، وكذلك ميل السعوديين إلى تحصيل مكتسبات التطبيع من حزب دون آخر، أدّت دوراً رئيسياً. بينما وصلت المقايضة الراهنة بمطالبة السعوديين بإمكانية بناء مفاعل نووي سعودي للأغراض السلمية، في محاولة من السعوديين لاستغلال حاجة إدارة بايدن لتحقيق مكسب انتخابي. فمن المباح الحديث اليوم عن أن الانشقاق الأميركي الداخلي انعكس على العلاقات الخارجية، حيث العديد من الدول التي تربطها علاقات تاريخية ومتينة مع أميركا، وعلى رأسها السعودية، تتعامل مع أميركيتين مختلفتين. وإن كان واضحاً تزايد الحديث عن تطبيع رسمي ومعلن قريب، إلا أن المشهد لا يزال ضبابياً. رغم ذلك، فإنه لا مجال للسعوديين الذين يطمحون إلى تغييرات وتحوّلات على المستوى الداخلي والإقليمي، سوى الحفاظ على أعمدة علاقتهم بالولايات المتحدة وتحصيل أفضل صفقة مكتسبات عبر «إسرائيل»، أمّا بالنسبة إلى المقاومة، فكل ما يحدث هو هامش لتاريخ يكتب بالعمل على «أرض إسرائيل».

* كاتب عربي