«صباح الخير يا مهجة القلب
صباح الخير يا رفيق الدرب
صباح الخير يلّي ثقّفتني وإنت إبني‏»
[أمّ الشهيد نزار بنات]


قبل ساعات من فجر الرابع والعشرين من حزيران 2021، بدأ سبعة وعشرون عنصر أمن فلسطينياً بضرب الشهيد نزار بنات بعتلات وهراوات ومواسير على رأسه وجسده بعد حصولهم على تصريح إسرائيلي مكّنهم من الوصول إليه في منزل عمّه الواقع خارج سيطرتهم. يصف ابن عمّه الذي كان معه في الغرفة نفسها المشهد: ونحن نائمون، اقتحم 17 مستعرباً البيت، وجّهوا علينا الأسلحة، وعندما شخصوا نزار بنات الذي لم يستيقظ إلا على عتلة تضرب رأسه وبغاز الفلفل يُرش على وجهه، انهالوا عليه بالضرب، لكنّ وجوده على الفراش في زاوية الغرفة صعّب المهمة، فجرّوه على الأرض بعد أن جرّدوه من ملابسه العلوية، ووضعوه في منتصف الغرفة، وبدأت كل المجموعة بضربه على كل أنحاء جسده ورش غاز الفلفل في فمه وعلى وجهه، وحتى هذه اللحظة نزار كان يسأل «مين انتو؟». ومن ثم دخل ضابطان يرتديان الزي الرسمي للأمن الوقائي، حينها علمنا أنهم سلطة وليسوا مستعربين! فقال قائد الوحدة: «كملوا»، فأمسكوا رأسه وضربوه في الحائط. ‏ويقول والده: «عندما أخذت أقلّب نزار رحمه الله، وجدت أن الضرب المقصود القاتل في كل مكان، بحيث إنه لا يحتاج لا إلى لجنة تحقيق ولا إلى مختبرات، وهذا عبارة عن جريمة أُعد لها إعداداً دقيقاً تخطيطاً وتنفيذاً مع سبق الإصرار».

«يا نزار سلّم على الشقاقي ‏
يا نزار دمك عند الوقائي ‏
يا نزار سلّم ع أحمد ياسين
يا نزار شعبك عمره ما بلين»

قد تكون مقاطع الفيديو التي تركها لنا الشهيد المثقّف نزار بنات على قناته في «يوتيوب» كنزاً حقيقياً لكل دارس في هذا العالم يريد فهم واقع الشعب الفلسطيني في الفترة «العباسية». أمّا نحن الفلسطينيين، فلكي نقدّم الحد الأدنى لهذا الإرث، علينا فهمه عن ظهر قلب. يقدّم لنا نزار، بأسلوب مميز، الكثيرَ من التحليل والمعلومات والنقد والغضب والفكاهة والأمل والعيون والابتسامات المشرقة، وعدداً غير متناهٍ من الدروس، أهمّها الشجاعة والقتال حتى النفس الأخير ضد ثقافة الاستسلام والهزيمة.


الشجاعة، ليست فقط في ذكر أسماء الفاسدين والعملاء في بنية السلطة الفلسطينية والأنظمة العربية، إنما في فهم هذه السلطة على أنها «مشروع ترانسفير»، قائم على تهجير الشعب الفلسطيني وتصفية القضية الفلسطينية. ويفهم نزار قضيته بهذا الشكل: ‏«أنا لم يمر عليّ في حياتي ناس يحتقرون مجتمعهم مثل السلطة الفلسطينية، في كل مرة تحصل جريمة قتل على خلفية رأي، يكون ‏الخلل عند لجنة الطب الشرعي. ‏رغم أن لدينا في البلد عقداء وعمداء مثل حب الفلافل. لكن لا يوجد لدينا خمسة أو ستة أطباء شرعيين ‏مؤهلين بشكل حقيقي. ‏وتتكرر حوادث القتل من آية برادعية، ونيفين عواودة، وإسراء غريب والطفل فادي المحتسب. وأنا شخصياً أبدأ ‏بنفسي، وأوصي أبنائي وأقاربي وكل مواطن فلسطيني، إذا حصل لي شيء، فلا تذهبوا إلى الشرطة ولا تضعوا جثماني بين أيدي أطباء ‏شرعيين من هذا الموديل، اعملوا على الأدلة الظنية واستدلّوا».
هل توقّع موته بهذه الطريقة؟ ‏أظن أنه يجب أن نقف قليلاً عند هذا الاقتباس، للطبيعة التنبّئية في هذا القول، فهو توقّع أنه سيُقتل على يد السلطة الفلسطينية، لا ندري إن كان قد توقّع هذه القمة من الدموية والوحشية في القتل، وكمية الاحتقار والكره للمجتمع الفلسطيني التي قدّموها في قتله، وفي قمع المسيرات الغاضبة بسبب فعلتهم. لكن ما كان لا يأمله قد صار.

«يما يا نزار يا الشهيد المظلوم، نعتك الغيوم ونعتك النجوم
يما يا نزار يا الشب الجميل، لعلك رسمك يما على باب الخليل
يما يا نزار يا الشب المزيون، لكتب اسمك يما على وراق الزيتون»

لكي نتمسك بمنهج نزار بنات علينا أن لا نفهم حدث استشهاده كحدث عارض في تاريخ السلطة الفلسطينية أو تاريخ النخبة المهيمنة ‏اقتصادياً وسياسياً على الشعب الفلسطيني. مثلاً: يفهم نزار بنات قضية تغيير البنشر من قبل الشرطة الفلسطينية للجيش الإسرائيلي على أنه ليس حدثاً، إنما تعبير سخيف عن بنية السلطة الفلسطينية. وهذا الحدث/البنية لم يأت من فراغ، ومن الممكن أن يتحول تغيير البنشر إلى تغيير مخزن رصاص. وهذا الربط بين العام والخاص واليومي والتاريخي، هو ما قدّمه في مجمل فيديوهاته. في فيديو إسراء غريب وفادي المحتسب، في فساد السلطة في قضية الأسرى وقضية اللاجئين في الشتات، صفقة اللقاحات الفاسدة، أو الانقسام المقدس ووهم المصالحة، وفي فهمه لحراك معلمي المدارس الحكومية والحراك النقابي بشأن الضمان الاجتماعي، وفي دور النخبة البرجوازية في التعامل مع القضية الفلسطينية كمشروع قطاع خاص، في حلقة منيب المصري ووعد بلفور.
وبالعودة إلى جذور هذه «النخبة» يقول بولص فرح، أحد أهم النقابيين الفلسطينيين قبل عام 1948: «‏من الغريب أننا لا نعرف حركة وطنية فجّة وغليظة وهمجية ذبحتها العائلية والقبلية مثل الحركة الوطنية العربية. لقد أهدرت مصالح ‏طبقتها ومصالح العمال ومصالح كل فئات الشعب... والبطش بزعماء العمال عام 1936 بالمغدور ميشال متري سكرتير جمعية عمال ‏يافا، ومن بعده قتل سامي طه الأمين العام لجمعية العمال العربية بحيفا عام 1947»، ميشيل متري وسامي طه قتلا برصاص المفتي أمين الحسيني، وكان في قتلهم تعبير واضح عن تلاقي مصالح النخب الإقطاعية مع الاستعمار في تصفية القيادات النقابية وأي مشروع تنموي مناقض لمصالحهم.
أمّا عن الحدث الجلل، الحدث الكارثة وهو اقتحام 27 مأجوراً من الأجهزة الأمنية حياة الشهيد نزار بنات، وضربه حتى الموت بعتلات أبو مازن، بعد أيام قليلة من انتصار الشعب الفلسطيني في معركة «سيف القدس»، المعركة التي توحّد بها الشعب الفلسطيني في أماكن وجوده كافة للدفاع عن القدس وحي الشيخ جراح. فقد عبّر هذا الحدث عن أولى صدمات السلطة من انتصار الشعب الفلسطيني في المعركة. وبأكثر الطرق وحشية وعدائية ودموية، قُتل نزار بنات وقُمعت ‏التظاهرات المطالبة بالعدالة. وكان في هذا تعبير مكثف عن ‏صورة السلطة الفلسطينية. فهي فوجئت ‏وانصدمت من قدرة الشعب على استمرار النضال رغماً عن «قياداته»، وكرهت لهذا الشعب أن ينتصر. وبعد حالة الصدمة بدأ المركز السياسي/العسكري داخل السلطة يعبر عن خوفه من «سيف القدس» عبر السعي نحو تكريس دوره ‏الأمني كوكيل للاستعمار بكل الطرق. وتكريس ثقافة الكره والحقد على الشعب الفلسطيني في العقيدة الأمنية للأجهزة الأمنية. والتعبير عن هذا النهج في استمرار القمع الوحشي الحاقد في التظاهرات. واستمرار الاعتقال السياسي، وبقاء التنسيق الأمني وأخذ دور الاحتلال في مراقبة وملاحقة وسجن ‏المقاومين، وأخيراً استمرار لقاءات التطبيع والمساومة كما هو الحال في لقاءات العقبة ‏وشرم الشيخ.

«الله أكبر... الموت لأميركا... الموت لإسرائيل... اللعنة على السلطة... النصر لفلسطين»

في عام 2001 في صعدة شمال اليمن منطقة مران، تحرّك القائد حسين بدر الدين الحوثي، بعد أيام من تحرك أميركا لمحاربة «الإرهاب» وإعلان حرب صليبية بلغة رئيسها على الإسلام. ليقول الشهيد لا في وجه مليون نعم، قالتها دول العالم دعماً لعدوان أميركا على العراق وأفغانستان، وأعلن الصرخة شعاراً عقائدياً للتعبئة والقتال:
«الله أكبر... الموت لأميركا... الموت لإسرائيل... اللعنة على اليهود... النصر للإسلام». اليوم، بعد ست حروب على اليمن ثم عدوان عسكري وحصار ما زال مستمراً منذ ثماني سنوات، دعمتها أميركا وإسرائيل وبريطانيا وقادتها السعودية والإمارات وشاركت فيها الدول العربية وأيّدتها قيادة السلطة الفلسطينية، لا تزال هذه الصرخة شعار الملايين الذين خرجوا قبل أسابيع في الرابع والعشرين من أيار في ذكرى الصرخة وذكرى توحيد اليمن إلى الشوارع مردّدين شعارهم، حاملين العلم اليمني والعلم الفلسطيني، معلنين انكسار وهزيمة المشروع الإمبريالي الرجعي إلى الأبد، ومتمنين مواجهة مع الصهاينة ليكون زوال إسرائيل على أيديهم. ومؤكدين المعادلة البسيطة التي انطلق منها الشهيد القائد حسين بدر الدين بأن المسألة ليست مسألة قوة عسكرية وإنما مسألة حق وثقافة وإيمان في المستقبل. وهذا الصمود وهذا الإبداع اللذان قدّمهما الشعب اليمني دفاعاً عن الوجود، يقدّمان للشعب الفلسطيني درساً بأن الحق سيرجع إلى أصحابه، وأن نزار بنات ليس حالة فردية، وهو سليل نضالات الشعب العربي الفلسطيني وأحرار العالم.

* كاتب فلسطيني