التحوُّل في العلاقة مع المكان الذي شَهِد الحرب في المنطقة وبعدَها «الانهيار الاقتصادي»، لم يقتصِر على الطبقة الوسطى، بل تعدّاها إلى نظيرتها التي تُنتِج الثروة الفعليّة. هنا ليست ثمّة مُلكية بالمعنى المديني، حتى تكون هي المسرح الذي يعكس هذا الشكل من التحوّلات، وصولاً إلى «اهتزاز العلاقة» مع هياكل الدولة أو السلطة نفسِها. وفي حين مثّلت الهجرة، ومعها الدخل بالعملة الأجنبية، مَخرجاً للطبقة الوسطى من أزمة فُقدان الانتماء والكينونة ونمط الحياة السابق، فإنّ البقاء في الداخل مع النزوح وانعدام وجود مصادر أخرى للدخل غير تلك الخاصّة بالكدح اليوميّ، هو الذي أعاد تعريف الطبقة العاملة هنا، إن لم نقل إنتاجَها أيضاً، ولا سيّما تلك التي تفتقر منها إلى الأملاك الخاصّة أو المدّخرات. «الاغتراب» عن حالة الهجرة كان سمةً عامّةً لهذه الشرائح من الطبقة العاملة، فالمياومون والباعة الجوّالون ومُجمل العاملين بأجرٍ متغيّر أو غير ثابت، لم يكونوا ضمن الفئات التي استطاعت تمويل هجرتها، من خلال بيع الأملاك الخاصّة والمدّخرات، من الحقبة السابقة. الهويّة التي صنَعها هذا الشكل من التحوُّل الاجتماعي الكبير، قُبيل الأزمة وبُعيدها، لم تشمَل هؤلاء، وحتى من استطاع منهم تمويل هجرتِه، أُسوةً بالكتلة المهاجِرة، فعَلَ ذلك بشقّ النفس، وخارج أيِّ سياقٍ عامّ، خاصّ بطبقته أو شريحته الاجتماعية. أي من دون القدرة على مجاراة الفلسفة الخاصّة بالظاهرة، والتي حوَّلت المهاجرين وعائلاتهم الباقية في الداخل إلى «طبقة جديدة»، تعتاش، إمّا على الدخل بالعملة الأجنبية، أو على التدفُّقات النقدية الآتية من الخارج، مدفوعةً بفارق سعر الصرف.
حصول الفرز داخل الطبقة العاملة
الاستثناء من هذه القاعدة، مثّلته قوّة العمل التي تملك الأراضي الزراعية. فالفلّاحون في الأرياف استطاعوا، بفعل امتلاكهم مساحات شاسعة من الأراضي، تسييل هذه العقارات بثمن أقلّ مما حصّلته الطبقة الوسطى المدينية من بيع عقاراتها، ولكن بقدرة لا تقلّ عنها في تكوين نسق أو ظاهرة الأسراب المهاجِرة. هذا لم يتوافر بالقدر نفسِه للعاملين في المصانع والورش، سواء في المدن أو حتى في الأرياف القريبة منها، والتي تقع المدن الصناعية الكبرى، والتجمُّعات العمّالية الخاصّة بها، ضمن نطاقها الإداري. انتفاء عامل المُلكيّة هنا، أو وجودها بالحدّ الأدنى، جعَلَ هذه الشريحة من الطبقة العاملة أقرَبَ إلى نظيرتها الخاصّة بعمالة المدينة، العشوائية وغير المنتظَمة، منها إلى أصحاب المُلكيات الزراعيّة في الريف. الافتقار إلى شقّة سكنيّة أو أرض زراعية لبيعها، بغرض تمويل هجرة الأبناء أو الأشقّاء، أخرَجَ هؤلاء من الانتظام الجديد الخاصّ بالهجرة، ليتحوّلوا مع حصول الفرز الطبقي والاجتماعي على ضوئِها، إلى العمود الفقري للطبقة العاملة في الداخل. الخلخلة التي حدثَت للطبقة العاملة، بسبب هذا الفَرْز، جعلت العمَل يتركّز أكثر في المدن والضواحي العشوائيّة. ومع تركُّزه بهذا الشكل، تغيّرت هيكليّة الثروة بدورها، لتُصبحَ حصّة المُدُن من الإنتاج، مع النزوح الكثيف إليها، بفعل الحرب والهجرة، أكبَرَ من الريف. ولكن في اقتصاد زراعي تبقى هذه الأمور نسبيّة، لأنّ الاعتماد الأساسي، حتى بالنسبة إلى الصناعات التحويليّة والغذائية، ومع كلّ الظروف المصاحِبة للحرب والأزمة الاقتصادية، هو على المواد الأوّلية، المُنتَجة زراعياً. تَرجَمَةُ ذلك عملياً، كانت باستقرار الإنتاج الزراعي في الأرياف، إذ استطاعت الأعداد الباقية هناك من العمالة الزراعيّة، تأمينَ استمراريّة عملية الإنتاج، ولو بالحدّ الأدنى، وبما يكفي حاجة البلاد إلى الاستهلاك الداخلي. ويمكن القول كذلك، إنّ الركود الذي لَحِقَ بالتصدير والتوريد إلى الخارج، من المنتَجات الزراعيّة، لم يكن بسبب الهجرة نفسِها (على فداحة تأثيرها على قوّة العمل الزراعية)، بقدر ما كان نتاج تراجع الناتج المحلّي في البلاد، ككلّ. فأثَرُ انهيار سعر الصرف على مجمل هذه العمليّة كان كبيراً، ومعه زيادة تكلُفة الإنتاج، على ضوء حرمان البلاد من منافذ التصدير إلى الإقليم والعالم، ما انعكَسَ فوراً، على شكل اختلالٍ في عملية العرض والطلب، لجهة اقتصار العرض على الداخل، ومحدوديّة الطلب، بالنسبة إلى من بقيَ في الداخل.

الاغتراب عن ناتِج العمل في الداخل
ثمّة وجهٌ آخر للمسألة أيضاً، في ما يتعلّق بهؤلاء الباقين تحديداً، إذ إنّ البقاء بالنسبة إلى الفلّاحين الذين عجزوا عن تمويل الهجرة، كان له ثمنٌ فادح على المستوى الاجتماعي. والحال أنّ هذا الثمن قد اختزلته الماركسية، سابقاً، وفي سياق مغاير، بتعبير فذّ، هو الاغتراب عن ناتج العمل. فمع زيادة تكلفة الإنتاج على نحو قياسي، ومعها قلّة توريد المنتَجات إلى الخارج، التي تنعكس مباشرةً على حصّة هذا القطاع من الناتج المحلّي، تصبح العلاقة مع الأرض، وليس فقط مع الإنتاج منها، أكثرَ تعقيداً. وهو ما ينسحب بالضرورة على الأُطُر الإدارية والاقتصادية وحتى السياسية التي تنظّم هذه العمليّة، من نقابات واتحادات فلّاحين وعمّال و«تمثيل سياسي» في المؤسّسات. الشعور نفسُه بالاغتراب عن الناتج، حَصَل مع العمّال، في المدن الصناعيّة والورش والمصانع، ولكن في سياقٍ أكثر تعقيداً، كون السلعة أو المنتَج هنا يدخُل في حلقة أكبر، وبالتالي تزداد تكلفة إنتاجها، مع كلّ انتقالٍ جديدٍ لها في دوائر أو حلقات السوق. وهذا يعني أن الاغتراب سيزداد أكثر في حالة «الإنتاج الصناعي»، لأنّ هيكلية الدخل نفسه تصبح أعقد ممّا هي عليه في القطاع الزراعي.
على أنّ ما يجمع «الاغترابين» إذا صحّ التعبير، مع معاودة موضَعَتِهما في سياق الأزمة هنا، هو انعدام التناسب، ليس فقط بين الأجور والأسعار، على ما دَرَجت عليه المؤشِّرات الاقتصادية السائدة، بل أيضاً بين الدخل بالعملة الوطنية ونظيرِه بالعملة الأجنبية. ويمكن الذهاب أبعد حتّى بالحديث عن طبيعة الإنفاق من كلٍّ منهما على السلع والخدمات والإيجارات، حيث التناسب ليس فقط معدوماً، بل ثمّة أفضليّة كُبرى للسيولة أو التدفّقات بالعملة الأجنبيّة، لجهة قدرتها على معاودة الادّخار بالعملة الصعبة، بعد الانتهاء من الإنفاق الاستهلاكي منها بالعملة المحلّية. حين يقف الفلّاح أو العامل أو المُياوِم، في الداخل، على هذه الوقائع، فسيتحوَّل شعورُه، بالاغتراب عن المنتَج، والذي هو «لحظة فلسفيّة» بكلّ ما للكلمة من معنى، إلى نقمةٍ في غير مكانها، إذ إنّ نظيره الذي اختار الهجرة سبيلاً، للخلاص من الوضع القائم، والإبقاء على قنوات إنفاق تساعد من بَقِيَ في الداخل من الأهل والأقارب والأصدقاء على الصمود، ليس بأفضَلَ منه حالاً في الحقيقة.

أسبَقية الهجرة على «الانهيار»
يمكن القول هنا إنّ معاناة هذه الشريحة المهاجِرة لا تصبّ للوهلة الأولى في طاحونة الأزمة في الداخل، بل تقع في سياق «أبعد بكثير»، هو سياق أزمة الطبقة العاملة، العالمثالثية والعربية، في الغرب. والحال أنّ التقاطع بين الأزمتين ليس بديهياً، كونهما نتاج نمطي إنتاج مختلفين، وهو ما يتطلّب جهداً أكبر في فهم الديناميّة التي تجعل من الأولى نتاج الثانية، وليس العكس. لِنَقُل بدايةً، إنّ لحظة الهجرة، هي سابقة على «الانهيار» نفسه، على اعتبار أنها تمثّل استمراريّة بالنسبة إلى ظاهرة تدفُّق العمالة العربية والعالمثالثية إلى الغرب. ترتيب الأولويات هنا ضروري، ليس فحسب لفهم الديناميّة نفسها التي تضع الهجرة أولاً، بل لأنّ ذلك كلّه يحصل وفقاً لمنطق التراكم الرأسمالي، الذي تقع تدفُّقات السلع والرساميل والخدمات واليد العاملة في صُلبه. حين يجري تقديم هذا المنطق، على نظيرِه الذي يعتبر الهجرة نتيجةً للحرب أو «الانهيار الاقتصادي»، يصبح ممكناً أكثر فَهْم لماذا لا تعتبر الطبقة العاملة العربية التي بقيت في الداخل نظيرتَها المهاجرة ضحيّةً مثلَها. الأفق العالمي لتدفُّق السلع والخدمات والرساميل واليد العاملة هو الذي يسمح، مبدئياً، بتطوير فكرتنا أو منظورنا، الجزئييْن، عن «الانهيار الاقتصادي» في بلدٍ واحد. فسعر الصرف لن ينهار بالوتيرة التي تحصل في سوريا ولبنان ما لم تكن ثمّة سياسات نقديّة رأسمالية تساعِد على انهياره، وإلى جانبها القيود والإكراهات الخاصّة بنُظُم العقوبات التي تجعل من أيّ تبادل تجاري مع الخارج متعذّراً، إن لم نَقُلْ مستحيلاً. القيود على هذه الاقتصادات لا تحصل في إطار محلّي أو حتى إقليمي، حتى يكون تجاوُزُها، داخلياً، بل ثمّة نطاق دولي لإكراهاتها، يتناسب مع حجم التدفّقات الرأسمالية في العالم، التي حُرِمَت هذه المنطقة من الاستفادة منها، بموجب العقوبات وأزمات الديون. بهذا المعنى، تأخذ الأزمة أبعاداً مختلفة، ذات امتداد دولي، بحيث تقع هجرة اليد العاملة من سوريا أو سواها، إلى الغرب، في سياق استكمال التسريع من وتيرة الانهيار، وفي ضوء الحاجة، كذلك، إلى إعادة بناء النظام الرأسمالي نفسِه.

خاتمة
هكذا، لا تعود أفضلية الحياة والعمل في الغرب مُطلَقة، بل نسبيّة، ويتحوّل معيار القياس هنا من «جودة الحياة» نفسِها إلى هيكليّة العمل هناك وطبيعتِه. فلقاءَ الرفاهية الكبيرة الخاصّة بالخدمات، ثمّة إكراهات لا تقلُّ عنها، تتعلّق بظروف الإنتاج، لجهة الساعات الطويلة ونظام الحوافز والإجازات وهيكليّة الأجر؛ فضلاً عن طبيعة العلاقة المعقّدة بأرباب العمل أنفُسِهم. كلّ ذلك يجعل من «الأفضليّة» التي تُنسَب إلى الهجرة، لدى مقارنتها بالبقاء في الداخل، غيرَ ذاتِ صلة، حيث النجاة من «الانهيار» لا تتجاوز «حدود البقاء على قيد الحياة». هذا إن لم نذكر، في سياق المقارنة نفسِها، «المكتسبات السابقة» التي وفّرتها بقايا الهياكل الاشتراكية، والتي لم تكن مشروطة، كما هي الحال في الغرب الآن، بالانتظام ضمن نظام إنتاج مجحِف، يقوم على مقايضة الرفاهيّة المحدودة بفائض القيمة. حالياً، ليس ثمّة مخرَج، بالنسبة إلى الطبقة العاملة في الداخل والخارج، من هذا التأرجُح المستمرّ بين اغترابَين، يتغذّى أحدُهما على الآخر، حيث الخروج من الاغتراب الداخلي لا يساعِد على النجاة، إلا بمقدار تغذية نظيرِه الخارجي. لتكتمل بهذا المعنى حلقة الإطباق على جناحي الطبقة العاملة، في الداخل والخارج، ويتحوّل الاغتراب بالتالي من «لحظة فلسفيّة»، يمكن الخروج منها بـ«نظريّة» أكثرَ اكتمالاً وموضوعيّةً عن الأزمة، إلى فخٍّ مكتمل الأركان.

* كاتب سوري